2 - هذا (ذكر رحمة ربك عبده) مفعول لرحمة (زكريا) بيان له
اختلف أهل العربية في الرافع للذكر، والناصب للعبد، فقال بعض نحويي البصرة في معنى ذلك كأنه قال : مما نقص عليك ذكر رحمة ربك عبده ، وانتصب العبد بالرحمة كما تقول : ذكر ضرب زيد عمراً. وقال بعض نحويي الكوفة : رفعت الذكر بكهيعص ، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك ، قال : والمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديم وتأخير.
قال أبو جعفر: والقول الذي هو الصواب عندي في ذلك أن يقال : الذكر مرفوع بمضمر محذوف وهو هذا كما فعل ذلك في غيرها من السور، وذلك كقول الله "براءة من الله ورسوله". وكقوله "سورة أنزلناها" ونحو ذلك. والعبد منصوب بالرحمة، وزكريا في موضع نصب ، لأنه بيان عن العبد، فتأويل الكلام : هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
قوله تعالى: " ذكر رحمة ربك عبده زكريا "
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: " ذكر رحمة ربك " في رفع " ذكر " ثلاثة أقوال، قال الفراء : هو مرفوع بـ" كهيعص "، قال الزجاج : هذا محال، لأن " كهيعص " ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس " كهيعص " من قصته. وقال الأخفش: التقدير، فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: إن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل: " ذكر رحمة ربك " رفع بإضمار مبتدأ، أي هذا ذكر رحمة ربك، وقرأ الحسن : " ذكر رحمة ربك " أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرىء " ذكر " على الأمر. و " رحمة " تكتب ويوقف عليها بالهاء، وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين، واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقاً بينها وبين الأفعال.
الثانية: قوله تعالى: " عبده " قال الأخفش : هو منصوب بـ" رحمة ". " زكريا " بدل منه، كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمراً، فعمراً منصوب بالضرب، كما أن " عبده " منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير، معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمة، فـ" عبده " منصوب بالذكر، ذكره الزجاج و الفراء . وقرأ بعضهم " عبده زكريا " بالرفع، وهي قراءة أبي العالية . وقرأ يحيى بن يعمر " ذكر " بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبده زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في " زكريا" في ((آل عمران)).
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة, وقوله " ذكر رحمة ربك " أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا, وقرأ يحيى بن يعمر " ذكر رحمة ربك عبده زكريا " وزكريا يمد ويقصر, قراءتان مشهورتان وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل, وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة. وقوله "إذ نادى ربه نداء خفياً" قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره, حكاه الماوردي وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله, كما قال قتادة في هذه الاية "إذ نادى ربه نداء خفياً" إن الله يعلم القلب التقي, ويسمع الصوت الخفي, وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه, فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله له: لبيك لبيك لبيك "قال رب إني وهن العظم مني" أي ضعفت وخارت القوى "واشتعل الرأس شيباً", أي اضطرم المشيب في السواد, كما قال ابن دريد في مقصورته:
أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيض في مسودة مثل اشتعال النار في جمر الغضا
والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله "ولم أكن بدعائك رب شقيا" أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء, ولم تردني قط فيما سألتك وقوله "وإني خفت الموالي من ورائي" قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول, وعن الكسائي أنه سكن الياء, كما قال الشاعر:
كأن أيديهن في القاع القرق أيدي جوار يتعاطين الورق
وقال الاخر:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها أو القمر الساري لألقى المقالدا
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
تغاير الشعر منه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل
وقال مجاهد وقتادة والسدي : أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح : الكلالة . وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها "وإني خفت الموالي من ورائي" بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي, وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً, فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه, فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله, فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده, وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.
(الثاني) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه, ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء, فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
(الثالث) أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث, ما تركنا فهو صدقة" وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح "نحن معشر الأنبياء لا نورث", وعلى هذا فتعين حمل قوله " فهب لي من لدنك وليا * يرثني " على ميراث النبوة, ولهذا قال "ويرث من آل يعقوب" كقوله "وورث سليمان داود" أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك, ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة, إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه, فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها, وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركنا فهو صدقة".
قال مجاهد في قوله "يرثني ويرث من آل يعقوب " كان وراثته علماً, وكان زكريا من ذرية يعقوب, وقال هشيم : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله "يرثني ويرث من آل يعقوب" قال: يكون نبياً كما كانت آباؤه أنبياء, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , عن الحسن يرث نبوته وعلمه, وقال السدي : يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم "ويرث من آل يعقوب" قال نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد , عن أبي صالح في قوله "يرثني ويرث من آل يعقوب" قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة, وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله, ويرحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد " . وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب , حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة , عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال: هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب" وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح, والله أعلم. وقوله "واجعله رب رضيا" أي مرضياً عندك وعند خلقك, تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
فقوله: 2- "ذكر رحمة ربك" خبر لمبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فقوله: "ذكر رحمة ربك" خبر لمبتدإ محذوف: أي هذا ذكر رحمة ربك. " عبده زكريا " يعني إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد، وانتصاب عبده على أنه مفول للرحمة قاله الأخفش. وقيل للذكر. ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها، كما يقال ذكرني معروف فلان: أي بلغني. وقرأ يحيى بن يعمر ذكر بالنصب، وقرأ أبو العالية عبده بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وفاعل الذكر هو عبده، وزكرياء على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه، وقرأ الكلبي ذكر على صيغة الفعل الماضي مشدداً ومخففاً على أن الفاعل عبده، وقرأ ابن معمر على الأمر، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكرياء، لأن كل نبي رحمة لأمته.
2- " ذكر " ، رفع المضمر ، أي : هذا الذي نتلوه عليك ذكر " رحمة ربك " ، [ وفيه تقديم وتأخير ] معناه : ذكر بك ، " عبده زكريا " ، برحمته .
2-" ذكر رحمة ربك " خبر ما قبله إن أول السورة أو بالقرآن، فإنه مشتمل عليه أو خبر محذوف أي: هذا المتلو "ذكر رحمة ربك" ، أو مبتدأ حذف خبره أي فيما يتلى عليك ذكرها ، وقرئ "ذكر رحمة" على الماضي و "ذكر" على الأمر. "عبده" مفعول الرحمة أو الذكر على أن الرحمة فاعله على الاتساع كقولك : ذكرني جود زيد. "زكريا " بدل منه أو عطف بيان له.
2. A mention of the mercy of thy Lord unto His servant Zachariah.
2 - (This is) a recital of the mercy of the Lord to his servant Zakariya.