19 - (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) محمد (يبين لكم) شرائع الدين (على فترة) انقطاع (من الرسل) اذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول ومدة ذلك خمسماية وتسع وستون سنة لـ (أن) لا (تقولوا) إذا عذبتم (ما جاءنا من) زائدة (بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير) فلا عذر لكم إذا (والله على كل شيء قدير) ومنه تعذيبكم إن لم تتبعوه
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب"، اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم -أو: بعضهم: فيما ذكر- لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعث الله من نبي بعد موسى، ولا أنزل بعد التوراة كتاباً!
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا: ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير".
ويعني بقوله جل ثناؤه : "قد جاءكم رسولنا"، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا، "يبين لكم"، يقول: يعرفكم الحق ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى، كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ، وعصمة لمن أخذ به.
"على فترة من الرسل"، يقول : على انقطاع من الرسل ، والفترة في هذا الموضع الانقطاع، يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل.
و الفترة الفعلة من قول القائل: فتر هذا الأمر يفتر فتوراً، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك الفترة في هذا الموضع، معناها : السكون ، يراد به سكون مجيء الرسل ، وذلك انقطاعها.
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة.
فروى معمر عنه ما:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "على فترة من الرسل"، قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمئة وستون سنة.
وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، ذكر لنا أنها كانت ستمئة سنة، أو ما شاء من ذلك ، والله أعلم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر، عن أصحابه قوله: "قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما خمسمئة سنة وأربعون سنة، قال معمر، قال قتادة: خمسمئة سنة وستون سنة.
وقال آخرون بما:
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: "على فترة من الرسل"، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، أربعمئة سنة وبضعاً وثلاثين سنة.
ويعني بقوله: "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير"، أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه : "يبين الله لكم أن تضلوا" [النساء: 176]، بمعنى : أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا.
فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة.
ويعني بـ البشير، المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله ، وعمل بما آتاه من عند الله، بعظيم ثوابه في آخرته، وبـالنذير، المنذر من عصاه وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه، بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده، وشديد عذابه في قيامته.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم ، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم، وأرسلناه إليكم ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم ، كيلا تقولوا: لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه ، وينذر من عصاني وخالف أمري ، وأنا القادر على كل شيء ، أقدر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني ، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يفوته شيء طلبه.
قوله تعالى :" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " يعني محمداً صلى الله عليه وسلم " يبين لكم " انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غداً ما جاء رسول " على فترة من الرسل " أي سكون يقال فتر الشيء سكن وقيل:" على فترة " على انقطاع ما بين النبيين عن ابن علي جماعة من أهل العلم حكاه الرماني قال : والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه من قولهم : فتر عن عمله وفترته عنه ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان من السخونة إلى البرد: وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر وفتور البدن كفتور الماء والفترة ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتها والمعنى : أي مضت للرسل مدة قبلة واختلف في قدر مدة تلك الفترة فذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمار، وعيسى بن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله تعالى :" إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث" [يس: 14] والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربعاً وثلاثين سنة وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعاً وستين وبينهما أربعاً أنبياء واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان قال القشيري : ومثل هذا مما لا يعمل إلا بخبر وصدق وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليها السلام ستمائة سنة، وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة وعن الضحاك أيضاً أربعمائة وبضع وثلاثون سنة وذكر ابن سعد عن عكرمة، قال : بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الإسلام قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قورن، والقرن مائة سنة ، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون والقرن مائة سنة، فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين والله أعلم " أن تقولوا " أي لئلا أو كراهية أن تقولوا فهو موضع نصب " ما جاءنا من بشير " أي مبشر " ولا نذير " أي منذر ويجوز " من بشير ولا نذير " على الموضع قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أن محمداً رسول الله ولقد كنت تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير فنزلت الآية: " والله على كل شيء قدير" على إرسال من شاء من خلقه وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه.
يقول تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين, الذي لا نبي بعده ولا رسول, بل هو المعقب لجميعهم, ولهذا قال: على فترة من الرسل, أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم, وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي ؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي, وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة. وقال معمر, عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضاحك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة, والمشهور هو القول الأول, وهو أنها ستمائة سنة. ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة, ولا منافاة بينهما, فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية, والآخر أراد قمرية, وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين, ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب, وكانت الفترة بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق, كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أولى الناس بابن مريم لأنا ليس بيني وبينه نبي" وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي, يقال له خالد بن سنان, كما حكاه القضاعي وغيره, والمقصود أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل, وطموس من السبل, وتغير الأديان, وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان, فكانت النعمة به أتم النعم, والحاجة إليه أمر عمم, فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد, والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين, من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا هشام, حدثنا قتادة عن مطرف, عن عياض بن حماد المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم, فقال في خطبته "وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا , كل مال نحلته عبادي حلال, وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم, وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم, وحرمت عليهم ما أحللت لهم, وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً, ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم, إلا بقايا من بني إسرائيل, وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك, وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرأه نائماً ويقظان, ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة, فقال: استخرجهم كما استخرجوك, واغزهم نغزك, وأنفق عليهم فسننفق عليك, وابعث جيشاً نبعث خمساً أمثاله, وقاتل بمن أطاعك من عصاك, وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق متصدق, ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم, ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق, وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دين له, والذين هم فيكم تبع أو تبعاً ـ شك يحيى ـ لا يبتغون أهلاً ولا مالاً, والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك, وذكر البخيل أو الكذاب, والشنظير الفاحش " .
ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه عن قتادة, عن مطرف بن عبد الله بن الشخير, وفي رواية شعبة عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف, وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة عنه, ثم رواه هو عن روح, عن عوف, عن حكيم الأثرم, عن الحسن قال: حدثني مطرف عن عياض بن حماد فذكره. ورواه النسائي من حديث غندر عن عوف الأعرابي به. والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم, فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور, وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء, ولهذا قال تعالى: "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أي لئلا تحتجوا وتقولوا ياأيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر, فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمداً صلى الله عليه وسلم, "والله على كل شيء قدير" قال ابن جرير: معناه إني قادر على عقاب من عصاني, وثواب من أطاعني .
وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين * ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا ياموسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلآ إنا هاهنا قاعدون * قال رب إني لآ أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكر به قومه من نعم الله عليهم وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة : لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة, فقال تعالى: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء" أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده, وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام, ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام, وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم .
وقوله "وجعلكم ملوكاً" قال عبد الرزاق, عن الثوري, عن منصور, عن الحكم أو غيره, عن ابن عباس في قوله: وجعلكم ملوكاً, قال: الخادم والمرأة والبيت. وروى الحاكم في مستدركه من حديث الثوري أيضاً عن الأعمش, عن مجاهد عن ابن عباس قال: المرأة والخادم "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار, سمي ملكاً. وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, أنبأنا أبو هانىء أنه سمع أبا عبد الرحمن الحنبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص, وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه ؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. فقال: إن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك. وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب وخادم ودار, رواه ابن جرير, ثم روي عن الحكم ومجاهد ومنصور وسفيان الثوري نحواً من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران. وقال ابن شوذب: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم واستؤذن عليه, فهو ملك وقال قتادة: كانوا أول من اتخذ الخدم .
وقال السدي في قوله "وجعلكم ملوكاً" قال: يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله, رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة, عن دراج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة, كتب ملكاً, وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال ابن جرير: حدثنا الزبير بن بكار, حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض, سمعت زيد بن أسلم يقول: وجعلكم ملوكاً فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له بيت وخادم فهو ملك, وهذا مرسل غريب, وقال مالك: بيت وخادم وزوجة. وقد ورد في الحديث "من أصبح منكم معافى في جسده, آمناً في سربه, عنده قوت يومه, فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" .
وقوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني عالمي زمانكم, فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم, كما قال "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين" وقال تعالى إخباراً عن موسى لما قالوا "اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين" والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم, وإلا فهذه الأمة أشرف منهم, وأفضل عند الله, وأكمل شريعة, وأقوم منهاجاً, وأكرم نبياً, وأعظم ملكاً, وأغزر أرزاقاً, وأكثر أموالاً وأولاداً, وأوسع مملكة, وأدوم عزاً. قال الله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس", وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" من سورة آل عمران .
وروى ابن جرير عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ": يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا " مع هذه الأمة, والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه, وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا, وقيل: المراد وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين: يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى, ويظللهم به من الغمام وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات, فالله أعلم .
ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب, لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام, ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى, فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها, فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها وبقتال أعدائهم وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم, فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره, فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد, مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى. فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال: يا قومي ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة. وقال سفيان الثوري, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: ادخلوا الأرض المقدسة, قال: هي الطور وما حوله, وكذا قال مجاهد وغير واحد. وروى سفيان الثوري عن أبي سعيد البقال, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: هي أريحاء, وكذا ذكر عن غير واحد من المفسرين, وفي هذا نظر, لأن أريحاء ليست هي المقصودة بالفتح, ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس, وقد قدموا من بلاد مصر حين أهلك الله عدوهم فرعون, إلا أن يكون المراد بأريحاء أرض بيت المقدس, كما قاله السدي فيما رواه ابن جرير عنه, لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور شرقي بيت المقدس .
وقوله تعالى: "التي كتب الله لكم" أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم, "ولا ترتدوا على أدباركم" أي ولا تنكلوا عن الجهاد "فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين أي ذوي خلق هائلة وقوى شديدة, وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم, ولا يمكننا الدخول إليها ماداموا فيها, فإن يخرجوا منها دخلناها, وإلا فلا طاقة لنا بهم. وقد قال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم, حدثنا إبراهيم بن بشار, حدثنا سفيان قال: قال أبو سعيد: قال عكرمة, عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين, قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة, وهي أريحاء, فبعث إليهم اثني عشر عيناً من كل سبط منهم عين, ليأتوه بخبر القوم, قال: فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم, فدخلوا حائطاً لبعضهم, فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه, فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم, فتبعهم فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة, حتى التقط الاثني عشر كلهم, فجعلهم في كمه مع الفاكهة, وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه, فقال لهم الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا, فاذهبوا فأخبروا صاحبكم, قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم, وفي هذا الإسناد نظر وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس لما نزل موسى وقومه, بعث منهم اثني عشر رجلاً, وهم النقباء الذين ذكرهم الله, فبعثهم ليأتوه بخبرهم, فساروا فلقيهم رجل من الجبارين, فجعلهم في كسائه, فحملهم حتى أتى بهم المدينة, ونادى في قومه فاجتمعوا إليه, فقالوا من أنتم ؟ قالوا: نحن قوم موسى, بعثنا نأتيه بخبركم, فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل, فقالوا لهم اذهبوا إلى موسى وقومه, فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم, فرجعوا إلى موسى فأخبروه, بما رأوا, فلما أمرهم موسى عليه السلام, بالدخول عليهم وقتالهم, قالوا: يا موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا يحيى بن أيوب, عن يزيد بن الهادي, حدثني يحيى بن عبد الرحمن, قال: رأيت أنس بن مالك, أخذ عصاه فذرع فيها بشيء لا أدري كم ذرع, ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمساً وخمسين, ثم قال: هكذا طول العماليق, وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخباراً من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين, وأن منهم عوج بن عنق, ابن بنت آدم عليه السلام, وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع, تحرير الحساب , وهذا شيء يستحيى من ذكره, ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً, ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن" ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً, وأنه كان ولد زنية, وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح, وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته, وهذا كذب وافتراء, فإن الله تعالى ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين, فقال "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" وقال تعالى: " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين " وقال تعالى: "لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم" وإذا كان ابن نوح الكافر, غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع . ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر, والله أعلم .
وقوله تعالى: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" أي فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم, حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة, وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه, وقرأ بعضهم "قال رجلان من الذين يخافون" أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس, ويقال إنهما يوشع بن نون, وكالب بن يوقنا. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة, وعطية والسدي, والربيع بن أنس, وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله فقالا " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره, ووافقتم رسوله, نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم, ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم, فلم ينفع ذاك فيهم شيئاً " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " وهذا نكول منهم عن الجهاد, ومخالفة لرسولهم, وتخلف عن مقاتلة الأعداء, ويقال: إنهم لما نكلوا عن الجهاد, وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر, سجد موسى وهارون عليهما السلام, قدام ملأ من بني إسرائيل, إعظاماً لما هموا به, وشق يوشع بن نون وكالب بن يوقنا, ثيابهما, ولاما قومهما على ذلك, فيقال إنهم رجموهما, وجرى أمر عظيم, وخطر جليل, وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير, الذين جاؤوا لمنع العير, الذي كان مع أبي سفيان, فلما فات اقتناص العير, واقترب منهم النفير, وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة, والبيض واليلب, فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن, ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أشيروا علي أيها المسلمون" وما يقول ذلك, إلا ليستعلم ما عند الأنصار, لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ, فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله, فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر, فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً, إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك .
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو حاتم الرازي, حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري, حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين, فأشار عليه عمر, ثم استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إذاً لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك, ورواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد الطويل, عن أنس به, ورواه النسائي عن محمد بن المثنى, عن خالد بن الحارث, عن حميد به, ورواه ابن حبان عن أبي يعلى عن عبد الأعلى بن حماد, عن معمر بن سليمان, عن حميد به .
وقال ابن مردويه: أنبأنا عبد الله بن جعفر, أنبأنا إسماعيل بن عبد الله, حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم, حدثنا محمد بن شعيب عن الحكم بن أيوب, عن عبد الله بن ناسخ, عن عتبة بن عبيد السلمي, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "ألا تقاتلون" ؟ قالوا نعم, ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن اذهب وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون, وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه, كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثني سفيان عن مخارق بن عبد الله الأحمسي, عن طارق هو ابن شهاب, أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا رسول الله, إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, هكذا رواه أحمد من هذا الوجه, وقد رواه من طريق أخرى فقال: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا إسرائيل عن مخارق, عن طارق بن شهاب, قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به, أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله يارسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك, فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك .
وهكذا رواه البخاري في المغازي وفي التفسير من طرق عن مخارق به, ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله, قال: قال المقداد يوم بدر: يارسول الله, لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال البخاري: رواه وكيع عن سفيان, عن مخارق, عن طارق, أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جرير: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة, قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد المشركون الهدي, وحيل بينهم وبين مناسكهم "إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت" فقال له المقداد بن الأسود: أما والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك, وهذا إن كان محفوظاً يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بدر .
وقوله: " قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام, وقال داعياً عليهم "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون "فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين" قال العوفي عن ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم, وكذا قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم, وافتح بيننا وبينهم, وقال غيره: افرق افصل بيننا وبينهم, كما قال الشاعر
يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين
وقوله تعالى: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض" الآية, لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم, ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة, فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً تجري لكل شعب عين, وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام, وعملت قبة العهد ويقال لها: قبة الزمان, قال يزيد بن هارون عن أصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبي أيوب, عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض" الآية قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار, ثم ظلل عليهم الغمام في التيه, وأنزل عليهم المن والسلوى, وهذا قطعة من حديث الفتون, ثم كانت وفاة هارون عليه السلام, ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى عليه السلام, وأقام لله فيهم يوشع بن نون عليه السلام, نبياً خليفة عن موسى بن عمران, ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة, ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب, ومن ههنا قال بعض المفسرين في قوله "قال فإنها محرمة عليهم" هذا وقف تام, وقوله "أربعين سنة" منصوب بقوله "يتيهون في الأرض" فلما انقضت المدة, خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام, أو بمن بقي منهم, وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني, فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها, فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر, فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم, قال: إنك مأمورة, وأنا مأمور, اللهم احبسها علي. فحبسها الله تعالى حتى فتحها, وأمر الله يوشع بن نون, أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بين المقدس, أن يدخلوا بابها سجداً, وهم يقولون: حطة أي حط عنا ذنوبنا, فبدلوا ما أمروا به, ودخلوا يزحفون على أستاههم وهو يقولون: حبة في شعرة, وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن أبي عمر العبدي, حدثنا سفيان عن أبي سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس, رضي الله عنه, قوله "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض" قال: فتاهوا أربعين سنة, قال: فهلك موسى وهارون في التيه, وكل من جاوز الأربعين سنة, فلما مضت الأربعون سنة, ناهضهم يوشع بن نون, وهو الذي قام بالأمر بعد موسى, وهو الذي افتتحها, وهو الذي قيل له, اليوم يوم الجمعة, فهموا بافتتاحها ودنت الشمس للغروب, فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا, فنادى الشمس: إني مأمور, وإنك مأمورة, فوقفت حتى افتتحها, فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط, فقربوه إلى النار فلم تأته, فقال فيكم الغلول, فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلاً فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده فقال: الغلول عندك فأخرجه, فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان, فأتت النار فأكلته, وهذا السياق له شاهد في الصحيح .
وقد اختار ابن جرير أن قوله: "فإنها محرمة عليهم" هو العامل في أربعين سنة وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة, وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد, قال: ثم خرجوا مع موسى عليه السلام, ففتح بهم بيت المقدس, ثم احتج على ذلك من قال بإجماع علماء أخبار الأولين, أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام, قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه, لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق فدل على أنه كان بعد التيه, قال: وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى, قال: وما ذاك إلا بعد التيه, لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه, هذا استدلاله, ثم قال: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عطية, حدثنا قيس عن ابن أبي إسحاق, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع, ووثبته عشرة أذرع, وطوله عشرة أذرع, فوثب فأصاب كعب عوج فقتله, فكان جسراً لأهل النيل سنة, وروي أيضاً عن محمد بن بشار: حدثنا مؤمل, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن نوف هو البكالي قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع, وكان طول موسى عشرة أذرع, وعصاه عشرة أذرع, ووثب في السماء عشرة أذرع, فضرب عوجاً فأصاب كعبه فسقط ميتاً وكان جسراً للناس يمرون عليه .
وقوله تعالى: "فلا تأس على القوم الفاسقين" تسلية لموسى عليه السلام عنهم, أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به, فإنهم مستحقون ذلك, وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود, وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد, فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم, مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان, وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم, هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون لتقر به أعينهم, وما بالعهد من قدم, ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم, فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام, وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل, ولا يسترها الذيل, هذا وهم في جهلهم يعمهون وفي غيهم يترددون, وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ويقولون مع ذلك: نحن أبناء الله وأحباؤه, فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود, ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود, وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود .
المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى. والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم: 19- " ويبين الله لكم " حال. والمبين هو ما شرعه الله لعباده وحذف للعلم به، لأن بعثة الرسل إنما هي بذلك. والفترة أصلها السكون، يقال فتر الشيء: سكن، وقيل هي الانقطاع. قاله أبو علي الفارسي وغيره، ومنه فتر الماء: إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة، وفتر الرجل عن عمله: إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه، وامرأة فاترة الطرف: أي منقطعة عن حدة النظر. والمعنى: أنه انقطع الرسل قبل بعثه صلى الله عليه وسلم مدة من الزمان. واختلف في قدر مدة تلك الفترة وسيأتي بيان ذلك. قوله: "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة: أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم، و من في قوله: "من بشير" زائدة للمبالغة في نفي المجيء، والفاء في قوله: "فقد جاءكم" هي الفصيحة مثل قول الشاعر:
فقد جئنا خراسانا
أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير، وهو محمد صلى الله عليه وسلم "والله على كل شيء قدير" ومن جملة مقدوراته إرساله رسوله على فترة من الرسل.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي، في الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام، فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي فرق الله به بين الحق والباطل فيه بيان وموعظة ونور وهدى وعصمة لمن أخذ به. قال: وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه قال: كانت خمسمائة سنة وستين سنة. وقال الكلبي: خمسمائة سنة وأربعين سنة. وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير قال: كانت خمسمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت أربعمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة. وأخرج ابن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة، فإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء كما قال الله تعالى: "إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث" والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربعة وثلاثين سنة. وقد قيل غير ما ذكرنا.
19-قوله عز وجل :" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا "، محمد صلى الله عليه وسلم ، " يبين لكم " أعلام الهدى وشرائع الدين ، " على فترة من الرسل " أي انقطاع من الرسل.
واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام و محمد صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عثمان النهدي :ستمائة سنة، وقال قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال معمر و الكلبي : خمسمائة واربعون سنة، وسميت فترة لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام ، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم . " أن تقولوا "، كيلا تقولوا، " ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير و نذير و الله على كل شيء قدير " .
19" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم " أي الدين، وحذف لظهوره أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبيناً لكم. " على فترة من الرسل " متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، أو يبين حال من الضمير فيهز " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به. " فقد جاءكم بشير ونذير " متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا بـ" ما جاءنا " فقد جاءكم. " والله على كل شيء قدير " فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه.
19. O people of the Scripture! Now hath Our messenger come unto you to make things plain after an interval (of cessation) of the messengers, lest ye should say: There came not unto us a messenger of cheer nor any warner. Now hath a messenger of cheer and a warner come unto you. Allah is Able to do all things.
19 - O people of the book now hath come unto you, making (things) clear unto you, our apostle, after the break in (the series of) our apostles, lest ye should say: there come unto us no bringer of glad tidings and now warner (from evil): but now hath come unto you a bringer of glad tiding sand a warner (from evil). and God hath power over all things.