19 - (فقالوا ربنا باعد) وفي قراءة باعد (بين أسفارنا) إلى الشام اجعلها مفاوز ليتطاولوا على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الزاد والماء فبطروا النعمة (وظلموا أنفسهم) بالكفر (فجعلناهم أحاديث) لمن بعدهم في ذلك (ومزقناهم كل ممزق) فرقناهم في البلاد كل التفريق (إن في ذلك) المذكور (لآيات) عبرا (لكل صبار) عن المعاصي (شكور) على النعم
اختلفت القراء في قراءة قوله " ربنا باعد بين أسفارنا " فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة " ربنا باعد بين أسفارنا " على وجه الدعاء والمسئلة بالألف، وقرأ ذلك بعض أهل مكة والبصرة ( بعد) بتشديد العين على الدعاء أيضاً. وذكر عن المتقدمين أنه كان يقرؤه ( ربنا باعد بين أسفارنا) على وجه الخبر من الله أن الله فعل ذلك بهم. وحكي عن آخر أنه قرأه ( ربنا بعد) على وجه الخبر أيضاً غير أن الرب منادى.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا " ربنا باعد " و ( بعد) لأنهما القراءتان المعروفتان في قرأة الأمصار وما عداهما فغير معروف فيهم، على أن التأويل من أهل التأويل أيضاً يحقق قراءة من قرأه على وجه الدعاء والمسئلة، وذلك أيضاً مما يزيد القراءة الأخرى بعداً من الصواب.
فإذا كان هو الصواب من القراءة، فتأويل الكلام: فقالوا: يا ربنا باعد بين أسفارنا، فاجعل بيننا وبين الشأم فلوات ومفاوز، لنركب فيها الرواحل، ونتزود معنا فيها الأزواد، وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، وجهلهم بمقدار العافية، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة، كما عجل للقائلين " إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " قال: كانت لهم قرىً متصلة باليمن، كان بعضها ينظر إلى بعض، فبطروا ذلك، وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، قال: فأرسل الله عليهم سيل العرم، وجعل طعامهم أثلاً وخمطا وشيئاً من سدر قليل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم " قال: فإنهم بطروا عيشهم، وقالوا لو كان جنى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه، فمزقوا بين الشأم وسبأ، وبدلوا بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل، وشيء من سدر قليل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " بطر القوم نعمة الله، وغمطوا كرامة الله، قال الله " وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " حتى نبيت في الفلوت والصحارى " وظلموا أنفسهم "، وقوله " وظلموا أنفسهم " وكان ظلمهم إياها عملهم بما يسخط الله عليهم من معاصية، مما يوجب لهم عقاب الله " فجعلناهم أحاديث " يقول: صبرناهم أحاديث للناس يضربون بهم المثل في السب، فيقال: تفرق القوم أيادي سبا، وأيدي سبا إذا تفرقوا وتقطعوا.
وقوله " ومزقناهم كل ممزق " يقول: وقطعناهم في البلاد كل مقطع.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق " قال قتادة: قال عامر الشعبي: أما غسان فقد لحقوا بالشأم، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون أن عمران بن عامر، وهو عم القوم كان كاهناً، فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويتباعدون، فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بكأس أو كرود، قال: فكانت وادعة ابن عمرو. ومن كان منكم ذا هم مدن، وأمرد عن، فليلحق بأرض شن، فكانت عوف بن عمرو، وهم الذين يقال لهم بارق، ومن كان منكم يريد عيشاً آيناً، وحرماً آمناً، فليلحق بالأرزين، فكان خزاعة. ومن كان يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكانت الأوس والخزرج فهما هذان الحيان من الأنصار. ومن كان يريد خمراً وخميراً، وذهباً وحريراً، وملكاً وتأميراً فليلحق بكوثى وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشأم وما كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: قد سمعت بعض أهل العلم يقول: إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمران بن عامر، وكان كاهنة، فرأت في كهانتها ذلك، والله أعلم أي ذلك كان، قال: فلما تفرقوا، نزلوا على كهانة عمران بن عامر.
وقوله " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " يقول تعالى ذكره: إن في تمزيقناهم كل ممزق لآيات، يقول: لعظة وعبرة ودلالة على واجب حق الله على عبده من الشكر على نعمه إذا أنعم عليه، وحقه من الصبر على محنته إذا امتحنه ببلاء لكل صبار شكور على نعمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور، الذي أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
قوله تعالى: " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا" لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة كقول بني إسرائيل: " فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها" (البقرة: 61) الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" (الأنفال: 32) فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرًا، فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة ربنا بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. باعد سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: ربنا كذلك على الدعاء بعد من التبعيد. النحاس: وباعد بعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: ربنا رفعاً باعد بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشراً وبطراً: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطراً وعجباً مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس ربنا بعد بين أسفارنا بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري ربنا بعد بين أسفارنا. ربنا نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: بعد بين أسفارنا ورفع بين بالفعل، أي بعد ما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب بين على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطراً وأشراً، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. "وظلموا أنفسهم" أي بكفرهم "فجعلناهم أحاديث" أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. "ومزقناهم كل ممزق" أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. " شكور" لنعمه وقد مضى هذا المعنى في البقرة.
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد, والبلاد الرخية, والأماكن الامنة, والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء, بل حيث نزل وجد ماء وثمراًو ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم, ولهذا قال تعالى: "وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها" قال وهب بن منبه : هي قرى بصنعاء, وكذا قال أبو مالك , وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم: يعني قرى الشام, يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي عن ابن عباس : القرى التي باركنا فيها بيت المقدس, وقال العوفي عنه أيضاً: هي قرى عربية بين المدينة والشام "قرى ظاهرة" أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى, ولهذا قال تعالى: "وقدرنا فيها السير" أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه "سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين" أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم" وقرأ آخرون " باعد بين أسفارنا " وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد, وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف, كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها, مع أنهم كانوا في عيش رغيد في من وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة, ولهذا قال لهم: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله " وقال عز وجل: "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها" وقال تعالى: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ". وقال تعالى في حق هؤلاء: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم" أي بكفرهم "فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق" أي جعلناهم حديثاً للناس وسمراً يتحدثون به من خبرهم, وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء, تفرقوا في البلاد ههنا وههنا, ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ, وتفرقوا شذر مذر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان , حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال: " لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم " وكانت فيهم كهنة, وكانت الشياطين يسترقون السمع, فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء, فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم, فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار, فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالاً: يا بني إذا كان غداً وأمرتك بأمر فلا تفعله, فإذا انتهرتك فانتهرني, فإذا لطمتك فالطمني, قال: يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد, قال: يا بني قد حدث أمر لا بد منه, فلم يزل به حتى وافاه على ذلك, فلما أصبحوا واجتمع الناس قال: يابني افعل كذا وكذا, فأبى فانتهره أبوه, فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه, فوثب على أبيه فلطمه, فقال: ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة, قالوا: ما تصنع بالشفرة ؟ قال: أذبحه, قالوا تريد أن تذبح ابنك ؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك, قال: فأبى, قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك, فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه, قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه, قال: فإذا كان الحديث هكذا, فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه, اشتروا مني دوري, اشتروا مني أرضي, فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره, فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا, فمن أراد منكم داراً جديداً وحمى شديداً وسفراً بعيداً, فليلحق بعمان, ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير. وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها ـ فليلحق ببصرى, ومن أراد الراسخات في الوحل: المطعمات في المحل, المقيمات في الضحل, فليلحق بيثرب ذات نخل, فأطاعه قومه, فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى, وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل, قال: فأتوا على بطن مر, فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلاً, فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة, لأنهم انخزعوا من أصحابهم, واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة, وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت غسان إلى بصرى. هذا أثر غريب عجيب, وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤوساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم, فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم, فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك, فاعتزم على النقلة عن اليمن, وكان قومه, فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه, ففعل ابنه ما أمره به, فقال عمرو : لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو , فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده, وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر , فباعوا أموالهم وخرجوا معه, فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان, فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالاً, ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا بغسان حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له. قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان, فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام, ونزلت الأوس والخزرج يثرب, ونزلت خزاعة مراً, ونزلت أزد السراة السراة, ونزلت أزدعمان عمان, ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه, وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الايات. وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق , إلا أنه قال: فأمر ابن أخيه مكان ابنه ـ إلى قوله فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا, رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر وهو عم القوم, كان كاهناً فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم, فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون, فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد, ومزاد جديد, فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومن كان منكم ذا هم مدن, وأمر دعن, فليلحق بأرض شن, فكانت عوف بن عمرو, وهم الذين يقال لهم بارق, ومن كان منكم يريد عيشاً آنياً, وحرماً آمناً فللحق بالأرزين, فكانت خزاعة, ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل,المطعمات في المحل, فيلحق بيثرب ذات النخل, فكانت الأوس والخزرج, وهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً, وملكاً وتأميراً, فليلحق بكوثى وبصرى, فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر , وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك, فالله أعلم أي ذلك كان, وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام, وأما الأنصار فلحقوا بيثرب, وأما خزاعة فلحقوا بتهامة, وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير , ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن قيس:
وفي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب قفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير إذا جاء ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذا قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ن منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى: " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والاثام, لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم. قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر, وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر, يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته". وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي إسحاق السبيعي به, وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه , ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن". قال عبد : حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " قال: كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر, وإذا ابتلي صبر.
ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكد 19- "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا" وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن والمفاوز والقفار والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذالك وخرب تلك القرى المتواصلة وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا: "ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها" الآية مكان المن والسلوى، وكقول النضر بن الحارث "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية. قرأ الجمهور "ربنا" بالنصب على أنه منادى مضاف، وقرأوا أيضاً "باعد" وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر "بعد" بتشديد العين، وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب "ربنا" بالرفع "باعد" بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر. والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورونيت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب ال كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً وأشراً وكفراً للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر ربنا بالرفع بعد بفتح العين مشددة، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء، فيكون هذا من جملة بطرهم، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله: "لقد تقطع بينكم" وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير: بعد سيرنا بين أسفارنا. قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا، ولهذا قال سبحانه: "وظلموا أنفسهم" حيث كفروا بالله وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته "فجعلناهم أحاديث" يتحدث الناس بأخبارهم. والمعنى: جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم واعتباراً بحالهم وعاقبتهم "ومزقناهم كل ممزق" أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث، وذلك أن الله سبحانه لما أغر مكانهم وأذهب جنتهم، تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال، فتقول: تفرقوا أيدي سبا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة "إن في ذلك لآيات" أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم لآيات بينات، ودلالات واضحات "لكل صبار شكور" أي لكل من هو كثير الصبر والشكر، وخص الصبار الشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.
19- "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا"، فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفارز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة. وقال مجاهد: بطروا النعمة وسئموا الراحة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بعد بالتشديد من التبعيد، وقرأ الآخرون: باعد، بالألف، وكل على وجه الدعاء والسؤال، وقرأ يعقوب: ربنا برفع الباء، باعد بفتح العين والدال على الخبر، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا.
"وظلموا أنفسهم"، بالبطر والطغيان. "فجعلناهم أحاديث"، عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم، "ومزقناهم كل ممزق"، فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة، ومر آل خزيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج.
"إن في ذلك لآيات"، لعبراً ودلالات، "لكل صبار"، عن معاصي الله، "شكور"، لأنعمه، قال مقاتل: يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء. قال مطرف: هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
19ـ " فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزوج الأزواد ، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو
و هشام (( بعد )) ، و يعقوب " ربنا باعد " بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه ، ومثله قراءة من قرأ (( ربنا بعد )) أو (( بعد )) على النداء وإسناد الفعل إلى " بين " . " وظلموا أنفسهم " حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها . " فجعلناهم أحاديث" يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ . " ومزقناهم كل ممزق " ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان . " إن في ذلك " فيما ذكر . " لآيات لكل صبار " عن المعاصي . " شكور " على النعم .
19. But they said: Our Lord! Make the stage between our journeys longer. And they wronged themselves, therefore We made them bywords (in the land) and scattered them abroad, a total scattering. Lo! herein verily are portents for each steadfast, grateful (heart).
19 - But they said: Our Lord place longer distances between our journey stages: but they wronged themselves (therein) at length We made them as a tale (that is told), and We dispersed them all in scattered fragments. Verily in this are Signs for Every (soul that is) patiently constant and grateful.