17 - (ذلك) التبديل (جزيناهم بما كفروا) بكفرهم (وهل نجازي إلا الكفور) بالياء والنون مع كسر الزاي ونصب الكفور أي ما يناقش إلا هو
وقوله " ذلك جزيناهم بما كفروا " يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهؤلاء القوم من سبأ من إرسالنا عليهم سيل العرم، حتى هلكت أموالهم، وخربت جناتهم، جزاء منا على كفرهم بنا، وتكذيبهم رسلنا، و ( ذلك) من قوله " ذلك جزيناهم " في موضع نصب بوقوع جزيناهم عليه، ومعنى الكلام: جزيناهم ذلك بما كفروا.
وقوله " وهل نجازي إلا الكفور " اختلفت القراء في قراءته، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة ( وهل يجازى) بالياء ويفتح الزاي على وجه ما لم يسم فاعله ( إلا الكفور) رفعاً، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة " وهل نجازي " بالنون وبكسر الزاي " إلا الكفور " بالنصب.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. ومعنى الكلام: كذلك كافأناهم على كفرهم بالله، وهل يجازى إلا الكفور لنعمة الله؟ ...
فإن قال قائل: أو ما يجزي الله أهل الإيمان به على أعمالهم الصالحة، فيخص أهل الكفر بالجزاء، فيقال وهل يجازى إلا الكفور؟ قيل: إن المجازاة في هذا الموضع: المكافأة، والله تعالى ذكره وعد أهل الإيمان به التفضل عليهم، وأن يجعل لهم بالواحدة من أعمالهم الصالحة عشر أمثالها إلى ما لا نهاية له من التضعيف، ووعد المسيء من عباده أن يجعل بالواحدة من سيئاته، مثلها مكافأة له على جرمه، والمكافأة لأهل الكبائر والكفر والجزاء لأهل الإيمان مع التفضل، فلذلك قال جل ثناؤه في هذا الموضع ( وهل يجازي إلا الكفور)؟ كأنه قال جل ثناؤه: لا يجازى: لا يكافأ على عمله إلا الكفور، إذ كانت المكافأة مثل المكافأ عليه، والله لا يغفر له من ذنوبه شيئاً، ولا يمحص شيء منها في الدنيا. وأما المؤمن فإنه يتفضل عليه على ما وصفت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " وهل نجازي ": نعاقب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور " إن الله تعالى إذا أراد بعبده كرامة تقبل حسناته، وإذا أراد بعبده هواناً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي به يوم القيامة. قال: " وذكر لنا أن رجلاً بينما هو في طريق من طرق المدينة، إذ مرت به امرأة، فأتبعها بصره، حتى أتى على حائط، فشج وجهه، فأتى نبي الله ووجهه يسيل دماً، فقال: يا نبي الله فعلت كذا وكذا، فقال له نبي الله: إن الله إذا أراد بعبد كرامةً، عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد هواناً أمسك عليه ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، كأنه عير أبتر ".
قوله تعالى:"ذلك جزيناهم بما كفروا" أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع ذلك نصب أي جزيناهم ذلك بكفرهم.وهل يجازى إلا الكفور قراءة العامة يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، الكفور رفعاً على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: نجازي بالنون وكسر الزاي، الكفور بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله جزيناهم ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدًا.
مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال:لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي ؟ فتكلم العلماء في هذا فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازي بمعنى يعاقب وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يثاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجعلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلاً بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من حوسب هلك فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" (الانشقاق: 8) قال: إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك ". وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير ويبين هذا قوله تعالى في الأول: "ذلك جزيناهم بما كفروا" وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور ومعنى يجازى: يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى جزيناهم . وفيناهم فهذا حقيقة اللغة، وإن كان جازى يقع بمعنى جزى مجازاً.
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها, وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم, وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم, وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته, فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى, ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ, شذر مذر, كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريباً وبه الثقة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: " إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام منهم أربعة, فأما اليمانيون, فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير, وأما الشامية: فلخم وجذام وعاملة وغسان" ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن, ولم يخرجوه, وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ـ في كتاب القصد والأمم, بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ـ من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد أيضاً و عبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون , حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانىء بن عروة عن فروة بن مسيك رضي لله عنه قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فقاتل بمقبل قومك مدبرهم فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فقلت: يارسول الله أرأيت سبأ, واد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا بل هو رجل من العرب, ولد له عشرة فتيامن ستة, وتشاءم أربعة, تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار, الذين يقال لهم بجيلة وخثعم, وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان" وهذا أيضاً إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي , وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء المرادي عن عمه أو عن أبيه ـ شك ـ أسباط ـ قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
(طريق أخرى) لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى , حدثنا ابن وهب , حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية, فقال يوماً: ما أظن قوماً بأرض إلا وهم من أهلها, فقال علي بن أبي رباح : " كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية, وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام, أفأقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ما أمرت فيهم بشيء بعد" فأنزلت هذه الاية " لقد كان لسبإ في مسكنهم آية " الايات, فقال له رجل:" يا رسول الله ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام أربعة, أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها, وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة" فيه غرابة من حيث ذكر نزول الاية بالمدينة, والسورة مكية كلها, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(طريق أخرى) قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب , حدثنا أبو أسامة , حدثنا الحسن بن الحكم , حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: " قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو: أرض أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس بأرض ولا امرأة, ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد, فتيامن ستة وتشاءم أربعة, فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان, وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار فقال رجل: ما أنمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم: الذين منهم خثعم وبجيلة" ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا, ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان , حدثنا قاسم بن أصبغ , حدثنا أحمد بن زهير , حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي , حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي , عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال: " إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ, فذكر مثله" , فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب ـ منهم محمد بن إسحاق ـ: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان,وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب, وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو, فأعطى قومه فسمي الرائش, والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً. وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم, وقال في ذلك شعراً:
سيملك بعدنا ملكاً عظيماً نبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك يدينوه العباد بغير ذام
ويملك بعدهم منا ملوك يصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبي تقي مخبت خير الأنام
يسمى أحمداً ياليت أني أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه ومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب ـ الإكليل ـ واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال (أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. (والثاني) أنه من سلالة عابر, وهو هود عليه الصلاة والسلام, واختلفوا أيضاً في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضاً. (والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضاً. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كان رجلاً من العرب" يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح, وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام, وليس هذا المشهور عندهم, والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون, فقال: "ارموا بني إسماعيل ؟ فإن أباكم كان رامياً" فأسلم قبيلة من الأنصار ـ والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ـ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم, ونزلت طائقة منهم بالشام, وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إما سألت فإنا معشر نجب الأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولد له عشرة من العرب" أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه, بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة, والأقل والأكثر, كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة" أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم, منهم من أقام ببلادهم, ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأيتهم من بين جبلين, وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم, فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً, حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين, فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن, كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار, وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار, فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه, وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل, ويعرف بسد مأرب, وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث, ولا شيء من الهوام,وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه, كما قال تبارك وتعالى: " لقد كان لسبإ في مسكنهم آية " ثم فسرها بقوله عز وجل: "جنتان عن يمين وشمال" أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك "كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور" أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله تعالى: "فأعرضوا" أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم, وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله, كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام " وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون " وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً وقال السدي : أرسل الله عز وجل إليهم اثني عشر ألف نبي, والله أعلم.
وقوله تعالى: "فأرسلنا عليهم سيل العرم" المراد بالعرم المياه, وقيل الوادي, وقيل الجرذ, وقيل الماء الغزير, فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز, حكى ذلك السهيلي . وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك : إن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم, بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير, وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم, وقال قتادة وغيره: الجرذ هو الخلد, نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى, وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط, فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك, ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال, فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة, كما قال الله تبارك وتعالى: "وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط" قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي : وهو الأراك وأكلة البرير "وأثل" قال العوفي عن ابن عباس : هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء, وقيل هو السمر, والله أعلم.
وقوله: "وشيء من سدر قليل" لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: "وشيء من سدر قليل" فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة, والمناظر الحسنة, والظلال العميقة, والأنهار الجارية, تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل, وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل, ولهذا قال تعالى: "ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور" أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس : لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي , حدثنا حجاج بن محمد , حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة , وكان من أصحاب علي رضي الله عنه, قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة, والضيق في المعيشة, والتعسر في اللذة, قيل: وما التعسر في اللذة ؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
والإشارة بقوله: 17- "ذلك" إلى ما تقدم من التبديل، أو إلى مصدر "جزيناهم" والباء في "بما كفروا" للسببية: أي ذلك التبديل، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها "وهل نجازي إلا الكفور" أي وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ونزول النقمة إلا الشديد الكفر المتبالغ فيه. قرأ الجمهور " نجازي " بضم التحتية وفتح الزاي على البناء للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنون وكسر الزاي على البناء للفاعل وهو الله سبحانه، والكفور على القراءة الأولى مرفوع، وعلى القراءة الثانية منصوب، واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأن قبله "جزيناهم" وظاهر الآية أنه لا يجازي إلا الكفور مع كون أه المعاصي يجازون، وقد قال قوم: إن معنى الآية أنه لا يجازي هذا الجزاء، وهو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر. قال مجاهد: إن المؤمن يكفر عن سيئاته، والكافر يجازى بكل عمل عمله. وقال طاووس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش. وقال الحسن: إن المعنى إنه يجازي الكافر مثلاً بمثل ورجح هذا الجواب النحاس.
17- "ذلك جزيناهم بما كفروا"، أي: ذلك الذي فعلنا بهم جزيناهم بكفرهم، "وهل نجازي إلا الكفور"، قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، ويعقوب: وهل نجازي بالنون وكسر الزاي، الكفور نصب لقوله: ذلك جزيناهم، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الزاي، الكفور رفع، أي: وهل يجازي مثل هذا الجزاء إلا الكفور.
وقال مجاهد: يجازي أي: يعاقب. ويقال في العقوبة: يجازي، وفي المثوبة يجزي.
قال مقاتل: هل يكافأ بعمله السيء إلا الكفور لله في نعمه.
قال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى، أي: يجزى للثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته.
17ـ " ذلك جزيناهم بما كفروا " بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل ، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم ، وتقديم المفعول للتعظم لا للتخصيص . " وهل نجازي إلا الكفور " وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر . وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص " نجازي " بالنون و " الكفور " بالنصب .
17. This We awarded them because of their ingratitude. Punish We ever any save the ingrates?
17 - That was the Requital we gave them because they ungrateful rejected faith: and never do We give (such) requital except to such as are ungrateful rejecters.