164 - (وإذ) عطف على إذ قبله (قالت أمة منهم) لم تصد ولم تنه لمن نهى (لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا) موعظتنا (معذرةً) نعتذر بها (إلى ربكم) لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي (ولعلهم يتقون) الصيد
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضاً، يا محمد، " إذ قالت أمة منهم "، جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت، وتنهاهم عن معصية الله فيه، " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، في الدنيا بمعصيتهم إياه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرم عليهم، " أو معذبهم عذابا شديدا "، في الآخرة، قال الذي كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم: عظتنا إياهم معذرة إلى ربكم، نؤدي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، " ولعلهم يتقون "، يقول: ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه، فينيبوا إلى طاعته، ويتوبوا من معصيتهم إياه، وتعديهم على ما حرم عليهم من اعتدائهم في السبت، كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: " قالوا معذرة إلى ربكم "، لسخطنا أعمالهم.
" ولعلهم يتقون "، أي: ينزعون عما هم عليه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ولعلهم يتقون "، قال: يتركون هذا العمل الذي هم عليه.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " قالوا معذرة ".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والكوفة والبصرة: ((معذرة)) بالرفع، على ما وصفت من معناها.
وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة: ((معذرةً)) نصباً، بمعنى: إعذاراً وعظناهم وفعلنا ذلك.
واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، هل كانت من الناجية، أم من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية، لأنها كانت هي الناهية الفرقة الهالكة عن الاعتداء في السبت.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "، هي قرية على شاطىء البحر بين مكة والمدينة، يقال لها ((أيلة))، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحب البحر. فإذا مضى يوم السبت، لم يقدروا عليها. فمكثوا بذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله عليكم يوم يوم سبتكم! فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم. فلما طال ذلك عليهم، قالت طائفة من النهاة: تعلموا أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟ وكانوا أشد غضباً لله من الطائفة الأخرى، فقالوا: " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون "، وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله، نجت الطائفتان اللتان قالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، والذين قالوا: " معذرة إلى ربكم "، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة وخنازير.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر "، إلأى قوله: " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم "، وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر، كانت تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم. يقول: إذا كان يوم يسبتون تأتيهم شرعاً - يعني: من كل مكان - ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وأنهم قالوا: لو أنا أخذنا من هذه الحيتان يوم تجيء ما يكفينا فيما سوى ذلك من الأيام! فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم. وقالت طائفة من المؤمنين: إن هؤلاء قوم قد هموا بأمر ليسوا بمنتهين دونه، والله مخزيهم ومعذبهم عذاباً شديداً. قال المؤمنون بعضهم لبعض: " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون "، إن كان هلاك، فلعلنا ننجو، وإما أن ينتهوا فيكون لنا أجراً. وقد كان الله جعل على بني إسرائيل يوماً يعبدونه ويتفرغون له فيه، وهو يوم الاثنين. فتعدى الخبثاء من الاثنين إلى السبت، وقالوا: هو يوم السبت! فنهاهم موسى، فاختلفوا فيه، فجعل عليهم السبت، ونهاهم أن يعملوا فيه وأن يعتدوا فيه، وأن رجلاً منهم ذهب ليحتطب، فأخذه موسى عليه السلام فسأله: هل أمرك بهذا أحد؟ فلم يجد أحداً أمره، فرجمه أصحابه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي ، قال: قال بعض الذين نهوهم لبعض: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ".
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هانىء قال، حدثنا حماد، عن داود ، عن عكرمة، عن ابن عباس: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، أم لا! قال: فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة.
حدثني المثنى قال، حدثنا حماد عن داود ، عن عكرمة قال: قرأ بان عباس هذه الآية، فذكر نحوه، إلا أنه قال في حديثه: فما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا.
حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليما الطائفي قال، حدثنا ابن جريج ، عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداك؟ قال: فقرأ: " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " إلى قوله: " بما كانوا يفسقون ". قال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم! فقلت: أما تسمع الله يقول: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه "؟ فسري عنه، وكساني حلة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني رجل، عن عكرمة، قال: جئت ابن عباس يوماً وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس، جعلني الله فداك؟ فقال: هؤلاء الورقات! قال: وإذا هو في ((سورة الأعراف))، قال: تعرف أيلة! قلت: نعم! قال: فإنه كان بها حي من يهود، سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا، بعد كد ومؤنة شديدة، وكانت تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها الماخض، تنبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام! فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة منهم: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت. وكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون: ويلكم! الله، الله، ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله! وقال الأيسرون: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "؟ قال الأيمنون: " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون "! أي: ينتهون، فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، فقال الأيمنون: قد فعلتم، يا أعداء الله! والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب! فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلماً، وأعلوا سور المدينة رجلاً، فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله، قردة والله تعاوى لها أذناب! قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول لهم: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها: نعم! ثم قرأ ابن عباس: " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ". قال: فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها! قال قلت: إن، جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم "؟ قال: فأمر بي فكسيت بردين غليظين.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر "، ذكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان، حتى تتبطح على سواحلهم وأفنيتهم، لما بلغها من أمر الله في الماء، فإذا كان في غير يوم السبت، بعدت في الماء حتى يطلبها طالبهم. فأتاهم الشيطان فقال: إنما حرم عليكم أكلها يوم السبت، فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما بعد! ... قوله: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون "، صار القوم ثلاثة أصناف، أما صنف فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبةً لله، وأما صنف فانتهك الحرمة ووقع في الخطيئة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله: " حاضرة البحر "، قال: حرمت عليهم الحيتان يوم السبت، وكانت تأتيهم يوم السبت شرعاً، بلاءً ابتلوا، ولا تأتيهم في غيره إلا أن يطلبوها، بلاءً أيضاً، بما كانوا يفسقون. فأخذوها يوم السبت استحلالاً ومعصية، فقال الله لهم: ((كونوا قردة خاسئين)) [البقرة: 65 - الأعراف: 166]، إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم، فقال بعضهم لبعض: " لم تعظون قوما ".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم " حتى بلغ " ولعلهم يتقون "، لعلهم يتركون ما هم عليه. قال: كانوا قد بلوا بكف الحيتان عنهم، وكانوا يسبتون في يوم السبت ولا يعملون فيه شيئاً، فإذا كان يوم السبت أتتهم الحيتان شرعاً، وإذا كان غير يوم السبت لم يأت حوت واحد. قال: وكانوا قوماً قد قرموا بحب الحيتان ولقوا منه بلاءً، فأخذ رجل منهم حوتاً فربط في ذنبه خيطاً، ثم ربطه الى خشفة، ثم تركه في الماء، حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد، اجتره بالخيط ثم شواه. فوجد جار له ريح حوت، فقال: يا فلان، إني أجد في بيتك ريح نون! فقال: لا! قال: فتطلع في تنوره فإذا هو فيه، فأخبره حينئذ الخبر، فقال: إني أرى الله سيعذبك. قال: فلما لم يره عجل عذاباً، فلما أتى السبت الآخر أخذ اثنين فربطهما، ثم اطلع جار له عليه، فلما رآه لم يعجل عذاباً، جعلوا يصيدونه، فاطلع أهل القرية عليهم، فنهاهم الذين ينهون عن المنكر، فكانوا فرقتين: فرقة تنهاهم وتكف وفرقة تنهاهم ولا تكف. فقال الذين نهوا وكفوا، للذين ينهون ولا يكفون: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "؟ فقال الآخرون:
" معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ". فقال الله: " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء " إلى قوله " بما كانوا يفسقون ". قال الله: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " [الأعراف: 166]، وقال لهم أهل تلك القرية: عملتم بعمل سوء، من كان يريد يعتزل ويتطهر ليعتزل هؤلاء! قال: فاعتزل هؤلاء وهؤلاء في مدينتهم، وضربوا بينهم سوراً، فجعلوا في ذلك السور أبواباً يخرج بعضهم إلى بعض. قال: فلما كان الليل طرقهم الله بعذاب، فأصبح أولئك المؤمنون لا يرون أحداً، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، الرجل وأزواجه أولاده، فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونه فيقولون: يا فلان، ألم نحذرك سطوات الله؟ ألم نحذرك نقمات الله؟ ونحذرك ونحذرك؟ قال: فليس إلا بكاء! قال: وإنما عذب الله الذين ظلموا الذين أقاموا على ذلك. قال: وأما الذين نهوا، فكلهم قد نهى، ولكن بعضهم أفضل من بعض. فقرأ: " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن داود عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "، قال: لا أدري أنجا القوم أو هلكوا؟ فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، وكساني حلة.
حدثني يونس قال، أخبرني أشهب بن عبد العزيز، عن مالك قال: زعم ابن رومان أن قوله: " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم "، قال: كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى السبت، فاتخذ لذلك رجل منهم خيطاً ووتداً، فربط حوتاً منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة واحدة أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه! فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك - ولا أدري لعله قال: ربط حوتين - فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا ريحه، فجاؤوا فسألوه، فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع! فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض، فغلقوها، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدا إليهم جيرانهم ممن كان يكون حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به.
وقال آخرون: بل الفرقة التي قالت: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، كانت من الفرقة الهالكة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحق، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " إلى قوله: " شرعا "، قال: قال ابن عباس: ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل. فإذا جاء السبت جاءت شرعا. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتا فخزمه بأنفه، ثم ضرب له وتداً في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله. ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق وفعل علانيةً قال: فقالت طائفة للذين ينهون: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم "، في سخطنا أعمالهم، " ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به "، إلى قوله: " قلنا لهم كونوا قردة خاسئين "، [الأعراف: 166]، قال ابن عباس: كانوا ثلاثاً: ثلث نهوا، وثلث قالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم، فعلوا على دورهم، فجعلوا يقولون: إن للناس لشأناً، فانظروا ما شأنهم! فاطلعوا في دورهم، فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قردة، يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، ويعرفون المرأة وإنها لقردة، قال الله: " فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين " [البقرة: 66].
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: " أنجينا الذين ينهون عن السوء " الآية، قال ابن عباس: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين!
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ، عن ابن عباس: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، قال: هم ثلاث فرق: الفرقة التي وعظت، والموعوظة التي وعظت، والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة، وهم الذين قالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم ".
وقال الكلبي: هما فرقتان: الفرقة التي وعظت، والتي قالت: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "، قال: هي الموعوظة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لأن أكون علمت من هؤلاء الذين قالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا "، أحب إلى مما عدل به!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء قال، قال ابن عباس: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم "، قال: أسمع، الله يقول: " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس "، فليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: " لم تعظون قوما الله مهلكهم "؟
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن هامان الحنفي أبي صالح في قوله: " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم "، قال: كانوا في المدينة التي على ساحل البحر، وكانت الأيام ستة، الأحد إلى الجمعة. فوضعت اليهود يوم السبت، وسبتوه على أنفسهم، فسبته الله عليهم، ولم يكن السبت قبل ذلك، فوكده الله عليهم، وابتلاهم فيه بالحيتان، فجعلت تشرع يوم السبت، فيتقون أن يصيبوا منها، حتى قال رجل منهم: والله ما السبت بيوم وكده الله علينا، ونحن وكدناه على أنفسنا، فلو تناولت من هذا السمك! فتناول حوتاً من الحيتان، فسمع بذلك جاره، فخاف العقوبة، فهرب من منزله. فلما مكث ما شاء الله ولم تصبه عقوبة، تناول غيره أيضاً في يوم السبت. فلما لم تصبهم العقوبة، كثر من تناول في يوم السبت، واتخذوا يوم السبت، وليلة السبت عيداً يشربون فيه الخمور، ويلعبون فيه المعازف. فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم: ويحكم، انتهوا عما تفعلون، إن الله مهلككم أو معذبكم عذاباً شديداً أفلا تعقلون؟ ولا تعدوا في السبت! فأبوا، فقال خيارهم: نضرب بيننا وبينهم حائطاً. ففعلوا، وكان إذا كان ليلة السبت تأذوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف، حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها، سكنت أصواتهم أول الليل، فقال خيارهم: ما شأن قومكم قد سكتت أصواتهم الليلة؟ فقال بعضهم: لعل الخمر غلبتهم فناموا! فلما أصبحوا، لم يسمعوا لهم حساً، فقال بعضهم لبعض: ما لنا لا نسمع من قومكم حساً؟ فقالوا لرجل: اصعد الحائط، وانظر ما شأنهم. فصعد الحائط، فرآهم يموج بعضهم في بعض، قد مسخوا قردةً، فقال لقومه: تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لقوا! فصعدوا، فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسمون فيه، فيقولون: أي فلان، أنت فلان؟ فيومىء بيده إلى صدره أن نعم، بما كسبت يداي.
حدثني يعقوب وابن وكيع قالا، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، تلا الحسن ذات يوم: " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون "، فقال: حوت حرمه الله عليهم في يوم، وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله عليهم كأنه المخاض، لا يمتنع من أحد. وقلما رأيت أحداً يكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه، فجعلوا يهتمون ويمسكون حتى أخذوه، فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قط، أبقاه خزياً في الدنيا، وأشده عقوبة في الآخرة! وايم الله، ما حوت أخذه قوم فأكلوه، أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن! وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة " والساعة أدهى وأمر "، [القمر: 46].
حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن قال: جاءتهم الحيتان تشرع في حياضهم كأنها المخاض، فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم قط، أسوأه عقوبة في الدنيا، وأشده عذاباً في الآخرة! وقال الحسن : وقتل المؤمن والله أعظم من أكل الحيتان!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء قال: كنت جالساً في المسجد، فإذا شيخ قد جاء وجلس الناس إليه، فقالوا: هذا من أصحاب عبد الله بن مسعود! قال: قال ابن مسعود: " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " الآية، قال: لما حرم عليهم السبت، كانت الحيتان تأتي يوم السبت، وتأمن فتجيء، فلا يستطيعون أن يمسوها. وكان إذا ذهب السبت ذهبت، فكانوا يتصيدون كما يتصيد الناس. فلما أرادوا أن يعدوا في السبت، اصطادوا، فنهاهم قوم من صالحيهم، فأبوا، وكثرهم الفجار، فأراد الفجار قتالهم، فكان فيهم من لا يشتهون قتاله، أبو أحدهم أو أخوه أو قريبه. فلما نهوهم وأبوا، قال الصالحون: إذاً نتهم! وإنا نجعل بيننا وبينكم حائطاً! ففعلوا، فلما فقدوا أصواتهم قالوا: لو نظرتم إلى إخوانكم ما فعلوا! فنظروا، فإذا هم قد مسخوا قردةً، يعرفون الكبير بكبره، والصغير بصغره، فجعلوا يبكون إليهم. وكان هذا بعد موسى صلى الله عليه وسلم.
ويكون المعنى في قوله تعالى: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم: إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا؟ فمسخهم الله قردة. "قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" أي قال الواعظون: موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم، أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصت وصادت، وكانوا نحواً من سبعين ألفاً. وفرقة نهت واعتزلت، وكانوا اثني عشر ألفاً. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوماً -تريد العاصية- الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا، فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبةً على ترك النهي، قاله ابن عباس. وقال أيضاً: ما أدري ما فعل بهم، وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله: "وأخذنا الذين ظلموا". وقوله: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت" [البقرة: 65] الآية. وقرأ عيسى وطلحة معذرةً بالنصب. ونصبه عند الكسائي من وجهين: أحدهما على المصدر. والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة. وهي قراءة حفص عن عاصم. والباقون بالرفع: وهو الاختيار، لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم: لم تعظون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة. ولو قال رجل لرجل: معذرةً إلى الله وإليك من كذا، يريد اعتذاراً، لنصب. هذا قول سيبويه. ودلت الآية على القول بسد الذرائع. وقد مضى في البقرة. ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينسل أم لا، مبيناً. والحمد لله. ومضى في آل عمران و المائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومضى في النساء اعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم كان مثلهم، فلا معنى للإعادة.
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت كما تقدم بيانه في سورة البقرة وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً" أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم, قالت لهم المنكرة "معذرة إلى ربكم" قرأ بعضهم بالرفع كأنه على تقدير هذه معذرة وقرأ آخرون بالنصب أي نفعل ذلك "معذرة إلى ربكم" أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "ولعلهم يتقون" يقولون ولعل لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله تائبين فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم. قال تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به" أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة "أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا" أي ارتكبوا المعصية "بعذاب بئيس" فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لأن الجزاء من جنس العمل فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أو من الناجين على قولين, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً" هي قرية على شاطى البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمضى على ذلك ما شاء الله ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم, فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً وجعلت طائفة أخرى تنهاهم فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" وكانوا أشد غضباً لله من الطائفة الأخرى فقالوا "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم, والذين قالوا معذرة إلى ربكم, وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة, وروى العوفي عن ابن عباس قريباً من هذا, وقال حماد بن زيد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في الاية, قال: ما أدري أنجا الذين قالوا "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" أم لا ؟ قال فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة. وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني رجل عن عكرمة قال جئت ابن عباس يوماً وهو يبكي وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك ؟ قال فقال هؤلاء الورقات قال وإذا هو في سورة الأعراف قال تعرف أيلة ؟ قلت نعم قال فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً بيضاء سماناً كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم فكانوا كذلك برهة من الدهر, ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتهم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فخذوها فيه, وكلوها في غيره من الأيام, فقالت ذلك طائفة منهم وقالت طائفة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت وقال الأيمنون ويلكم الله, ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله, وقال الأيسرون "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً" قال الأيمنون "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" أي ينتهون, إن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم فمضوا على الخطيئة وقال الأيمنون فقد فعلتم يا أعداء الله, والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا فوضعوا سلماً وأعلوا سور المدينة رجلاً, فالتفت إليهم, فقال: أي عباد الله, قردة والله تعادى تعاوى لها أذناب قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم عن كذا فتقول برأسها: أي نعم ثم قرأ ابن عباس "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس" قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الاخرين ذكروا ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها, قال: قلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم ؟ وقالوا " لم تعظون قوما الله مهلكهم " قال: فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين, وكذا روى مجاهد عنه. وقال ابن جرير: حدثنا يونس أخبرنا أشهب بن عبد العزيز عن مالك قال: زعم ابن رومان أن قوله تعالى: "تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" قال: كانت تأتيهم يوم السبت فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الاخر, فاتخذ لذلك رجل خيطاً ووتداً فربط حوتاً منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه, فوجد الناس ريحه, فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم, فلم يزالوا به حتى قال لهم فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الاخر فعل مثل ذلك, ولا أدري لعله قال ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجدوا رائحة فجاؤوا فسألوه فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع فقالوا له: وما صنعت ؟ فأخبرهم ففعلوا مثل ما فعل حتى كثر ذلك وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم فأصابهم من المسخ ما أصابهم فغدا عليهم جيرانهم ممن كانوا حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس فوجدوا المدينة مغلقة عليهم فنادوا فلم يجيبوهم فتسوروا عليهم فإذا هم قردة فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به, وقد قدمنا في سورة البقرة من الاثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة (القول الثاني) أن الساكتين كانوا من الهالكين قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ابتدعوا السبت فابتلوا فيه فحرمت عليهم فيه الحيتان فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل فإذا جاء السبت جاءت شرعاً فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخزم أنفه ثم ضرب له وتداً في الساحل وربطه وتركه في الماء فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق ففعل علانية قال: فقالت: طائفة للذين ينهونهم "لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم" فقالوا: نسخط أعمالهم " ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " قال ابن عباس كانوا ثلاثاً ثلث نهوا وثلث قالوا "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم, وهذا إسناد جيد عن ابن عباس ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم بعد ذلك والله أعلم. وقوله تعالى: "وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس" فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا. وبئيس فيه قراءات كثيرة ومعناه في قول مجاهد الشديد. وفي رواية أليم وقال قتادة موجع والكل متقارب والله أعلم, وقوله "خاسئين" إي ذليلين حقيرين مهانين .
164- "وإذ قالت أمة" معطوف على إذ يعدون معمول لعامله داخل في حكمه، والأمة الجماعة: أي قالت جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة، وإقلاعهم عن المعصية "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" أي مستأمل لهم بالعقوبة "أو معذبهم عذاباً شديداً" بما انتهكوا من الحرمة وفعلوا من المعصية، وقيل: إن الجماعة القائلة لم تعظون قوماً؟ هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم. والمعنى: إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا "قالوا معذرة إلى ربكم" أي قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون، وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأول، أو الفاعلين على الوجه الثاني "معذرة إلى ربكم" قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف "معذرة" بالنصب، وهي قراءة حفص عن عاصم، وقرأ الباقون بالرفع. قال الكسائي: ونصبه على وجهين: أحدهما على المصدر، والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة: أي لأجل المعذرة. والرفع على تقدير مبتدأ: أي موعظتنا معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية.
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت وكانت نحو سبعين ألفاً، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية "لم تعظون قوماً" يريدون الفرقة العاصية "الله مهلكهم أو معذبهم" قالوا ذلك على غلبة الظن لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ولعلهم يتقون ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية، وعاصية لقال: لعلكم تتقون.
164 - قوله تعالى : " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم " ، اختلفوا في الذين قالوا هذا ، قيل : كانوا من الفرقة الهالكه ، وذلك أنهم لم قيل لهم انتهوا عن هذا العمل السئ ، قبل أن ينزل بكم العذاب وأنا نعلم أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا وأجابوا وقالوا : " لم تعظون قوماً الله مهلكهم " ، " أو " علمتم أنه " معذبهم عذاباً شديداً قالوا" أي : قال الناهون " معذرةً " أي : موعظتنا معذرة " إلى ربكم " ، قرأ حفص : ( معذرة ) بالنصب أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم . والأصح إنها من قول الفرقة الساكنة ، قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم ، قالوا معذرة إلى ربكم ، ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله، " ولعلهم يتقون " ، أي : يتقوا الله ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لكان يقول لعلكم تتقون .
164."وإذ قالت " عطف على " إذ يعدون " . " أمة منهم" جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم . " لم تعظون قوماً الله مهلكهم " مخترمهم . " أو معذبهم عذاباً شديداً " في الآخرة لتماديهم في العصيان ، قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم , أو سؤالا عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم ، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم وتهكما بهم . " قالوا معذرةً إلى ربكم " جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر . وقرأ حفص " معذرة " بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة . " ولعلهم يتقون " إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك .
164. And when a community among them said: Why preach ye to a folk whom Allah is about to destroy and punish with an awful doom, they said: In order to be free from guilt before your Lord, and that haply they may ward off (evil).
164 - When some of them said: why do ye preach to a people whom God will destroy or visit with a terrible punishment? said the preachers: to discharge our duty to your Lord, and perchance they may fear him.