15 - (ولو ألقى معاذيره) جمع معذرة على غير قياس أي لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه قال تعالى لنبيه
وقوله : " ولو ألقى معاذيره " اختلف أهل الرواية في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه بل للإنسان على نفسه شهود من نفسه ، ولو اعتذر بالقول مما قد أتى من المآثم ، وركب من المعاصي ، وجادل بالباطل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " ولو ألقى معاذيره " يعني الاعتذار ، ألم تسمع أنه قال " لا ينفع الظالمين معذرتهم " [ غافر : 52 ] ، وقال الله : ( وألقوا إلى الله يومئذ السلم ، وما كنا نعمل من سوء ) ، وقولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام : 23 ] .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، في قوله " بل الإنسان على نفسه بصيرة " قال : شاهد على نفسه ولو اعتذر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " ولو جادل عنها ، فهو بصيرة عليها .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن عمران بن حدير ، قال : سألت عكرمة ، عن قوله : " بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " قال : فسكت ، فقلت له : إن الحسن يقول : ابن آدم عملك أولى بك ، قال : صدق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ولو ألقى معاذيره " قال معاذيرهم التي يعتذرون بها يوم القيامة فلا ينتفعون بها ، قال : يوم لا يؤذن لهم فيعتذرون ، ويوم يؤذن لهم فيعتذرون فلا تنفعهم ، ويعتذرون بالكذب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل الإنسان على نفسه من نفسه بصيرة ولو تجرد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن علي الجهضمي ، قال : ثني أبي ، عن خالد بن قيس ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن ابن عباس ، في قوله " ولو ألقى معاذيره " قال : لو تجرد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : ثنا رواد ، عن أبي حمزة عن السدي ، في قوله " ولو ألقى معاذيره " ولو أرخى الستور ، وأغلق الأبواب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك " ولو ألقى معاذيره " لم تقبل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي ، قال : ثني أبي ، عن خالد بن قيس ، عن قتادة ، عن الحسن ، " ولو ألقى معاذيره " لم تقبل معاذيره .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " ولو ألقى معاذيره " قال : ولو اعتذر .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معناه : ولو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن الإنسان أن عليه شاهداً من نفسه بقوله " بل الإنسان على نفسه بصيرة " فكان الذي هو أولى أن يتبع ذلك ، ولو جادل عنها بالباطل ، واعتذر بغير الحق ، فشهادة نفسه عليه به أحق وأولى من اعتذاره بالباطل .
قوله تعالى:" ولو ألقى معاذيره" أي ولو ارخى ستوره، والستر بلغة اهل اليمن: معذار، قاله الضحاك. وقال الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا واطت فوقها بالمعاذر
قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار، أي وان ارخى ستره، يريد ان يخفي عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو اعتذر فقال لم افعل شيئاً، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وان اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب عذرة، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وابو العالية وعطاء والفراء والسدي ايضاً ومقاتل. قال مقاتل: أي لو ادلى بعذر او حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى:" يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم" [ غافر:52] وقوله : " ولا يؤذن لهم فيعتذرون" [ المرسلات:36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر، قال الشاعر:
واياك والأمر الذي ان توسعت موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن ان يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل الى ابراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، ان المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس: " ولو ألقى معاذيره" أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي.
قلت: والأظهر انه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب، ومنه قول النابغة:
ها ان ذي عذرة الا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك النكد
والدليل قوله تعالى في الكفار: " والله ربنا ما كنا مشركين" [ الأنعام:23] وقوله تعالى: في المنافقين: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم" [ المجادلة: 18] وفي الصحيح انه يقول:(( يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع)) الحديث. وقد تقدم في ((حم السجدة)) وغيرها. والمعاذير والمعاذير: جمع معذرة، ويقال : عذرته فيما صنع اعذره عذراً وعذراً، والاسم المعذرة والعذرى، قال الشاعر:
اني حددت ولا عذرى لمحدود
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة، قال النابغة:
ها ان تاعذرة الا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد
وتضمنت هذه الآية خمس مسائل:
الأولى_ قال القاضي ابو بكر بن العربي قوله تعالى:" بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره" فيها دليل على قبول اقرار المرء على نفسه، لأنها بشهادة منه عليها، قال الله سبحانه وتعالى:" يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون" [ النور:24] ولا خلاف فيه، لأنه اخبار على وجه تنتقي التهمة عنه، لأن العاقل لا يكذب على نفسه- وهي المسألة:
الثانية- وقد قال سبحانه في كتابه الكريم : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" [ آل عمران:81] وقال تعالى:" وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا" [ التوبة : 102] وهو في الآثار كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(("اغد يا انس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها")). فأما إقرار الغير على الغير بوارث او دين فقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول احدهم: ان ابي قد اقر ان فلاناً ابنه، ان ذلك النسب لا يثبت بشهادة انسان له بنون، فيقول احدهم: ان ابي قد اقر ان فلاناً ابنه، ان ذلك النسب لا يثبت بشهادة انسان واحد، ولا يجوز اقرار الذي اقر الا على نفسه في حصته من مال ابيه، يعطى الذي يشهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك ان يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد احدهما بأن أباه الهالك اقر ان فلاناً ابنه، فيكون على الذين شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وان أقر له الآخر اخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو ايضاً بمنزلة المرأة تقر بالدين على ابيها او على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها ان تدفع الى الذي اقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، ان كانت امرأة فورثت الثمن دفعت الى الغريم ثمن دينه، وان كانت ابنة ورثت النصف دفعت الى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع اليه من اقر من النساء.
الثالثة - لا يصح الإقرار الا من مكلف، لكن بشرط الا يكون محجوراً عليه، لأن الحجر يسقط قوله ان كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار : احدهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل ابهام الإقرار، وله صور كثيره وامهاتها ست: الصورة الأولى- ان يقول له عندي شيء، قال الشافعي : لو فسره بتمرة او كسرة قبل منه. والذي تقتضيه اصولنا انه لا يقبل الا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية- ان يفسر هذا بخمر او خنزير او ما لا يكون مالاً في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة- ان يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة او سرقين او كلب، فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وامضاء فإن رده لم يحكم عليه حاكم في ذلك بما يراه من رد وامضاء فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء لأن الحكم قد نفذ بإبطاله. وقال بعض اصحاب الشافعي : يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل. وقال ابو حنيفة: اذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره الا بمكيل او موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه الا هما. وهذا ضعيف، فإن غيرهما يثبت في الذمة اذا وجب ذلك اجماعاً. الصورة الرابعة- اذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالاً في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه. الصورة الخامسة- ان يقول له : عندي مال كثير او عظيم، فقال الشافعي : يقبل في الحبة. وقال ابو حنيفة: لا يقبل الا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك اقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والدية واقله عندي نصاب السرقة، لأنه لا يبان عضو المسلم الا في مال عظيم. وبه قال اكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: انه لا يقبل في اقل من اثنين وسبعين درهماً. فقيل له : ومن اين تقول ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين" [ التوبة:25] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح، لأنه اخرج حنينا منها، وكان حقه ان يقول يقبل في احد وسبعين، وقد قال الله تعالى:" اذكروا الله ذكرا كثيرا" [ الأحزاب: 41] وقال : " لا خير في كثير من نجواهم" [ النساء:114]، وقال: " والعنهم لعنا كبيرا " [ الأحزاب:68]. الصورة السادسة: اذا قال له : عندي عشرة او مائة او الف ، فانه يفسرها بما شاء ويقبل منه , فان قال الف درهم او مائة وعبد او مائه وخمسون درهما فانه يفسر المبهم ويقبل منه .وبه قال الشافعي. وقال ابو حنيفة : ان عطف على العدد المبهم مكيلا او موزونا كان تفسيراً، كقوله : مائة وخمسون درهماً، لأن الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من اصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيراً في المائة والخمسين الا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء.
المسألة الرابعة- قوله تعالى: " ولو ألقى معاذيره" ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعدما اقر في الحدود التي هي خالص حق الله، فقال اكثرهم منهم الشافعي وابو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في احد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل الا ان يذكر لرجوعه وجهاً صحيحاً. والصحيح جواز الرجوع مطلقاً، لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا اربعاً كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه اربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (("ابك جنون")) قال : لا. قال: (("احصنت")) قال: نعم. وفي حديث البخاري : ((" لعلك قبلت او غمزت او نظرت")). وفي النسائي وابي داود: حتى قال له في الخامسة "((اجامعتها)) قال نعم: قال : ((حتى غاب ذلك منك في ذلك منها)) قال: نعم. قال: (( كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر)). وقال : نعم. قال: ((هل تدري ما الزنى؟)) قال : نعم ، اتيت منها حراماً مثل ما يأتي الرجل اهله حلالاً)). قال : ((فما تريد مني؟)) قال: اريد ان تطهرني. قال: فأمر به فرجم". قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فضربه رجل بلحي جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (("هلا تركتموه")) وقال ابو داود والنسائي: لتثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي عليه السلام : (("لعلك قبلت او غمزت")) اشارة الى قول مالك: انه يقبل رجوعه اذا ذكر وجهاً.
الخامسة - وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من احد قسمين: اما ان يقر على ما في يده وذمته، فإن اقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل منه، لأن بدنه مستغرق لحق السيد، وفي اقراره اتلاف حقوق السيد في بدنه، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم:" (( من اصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد)) "المعنى: ان محل العقوبة اصل الخلقة، وهي الدمية في الآمية، ولا حق للسيد فيها، وانما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه، الا ترى انه لو اقر بمال لم يقبل، حتى قال ابو حنيفة : انه لو قال سرقت هذه السلعة ان ه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا : السلعة للسي ويتبع العبد بقيمتها اذا عتق، لأن مال العبد للسيد اجماعاً، فلا يقبل قوله فيه ولا اقراره عليه، ولا سيما وابو حنيفة يقول: ان العبد لا ملك له. ولا يصح ان يملك ولا يملك، ونحن وان قلنا ان يصح تملكه، ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله اعلم.
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسم عليه ههنا هو إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث الأجساد, ولهذا قال تعالى: " لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة " قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة, وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعاً, هكذا حكاه ابن أبي حاتم : وقد حكى ابن جرير عن الحسن والأعرج أنهما قرءا "لا أقسم بيوم القيامة " وهذا يوجه قول الحسن لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة, والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً كما قاله قتادة رحمه الله, وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير , واختاره ابن جرير , فأما يوم القيامة فمعروف وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الاية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي, ما أردت بأكلتي, ما أردت بحديث نفسي, وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه, وقال جويبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم عن إسرائيل عن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل به, وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا مؤمل , حدثنا سفيان عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير في قوله: "ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: تلوم على الخير والشر, ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال: هي النفس اللؤوم, وقال علي بن أبي نجيح عن مجاهد تندم على ما فات وتلوم عليه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : اللوامة المذمومة, وقال قتادة "اللوامة" الفاجرة. وقال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.
وقوله تعالى: " أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه " أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة "بلى قادرين على أن نسوي بنانه" وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس : أن نجعله خفاً أو حافراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير , ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا, والظاهر من الاية أن قوله تعالى: "قادرين" حال من قوله تعالى: "نجمع" أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بل سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها, ولو شئنا بعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية, وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج . وقوله: "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه" قال سعيد عن ابن عباس : يعني يمضي قدماً, وقال العوفي عن ابن عباس "ليفجر أمامه" يعني الأمل, يقول الإنسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة, ويقال: هو الكفر بالحق بين يدي القيامة. وقال مجاهد "ليفجر أمامه" ليمضي أمامه راكباً رأسه, وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدماً قدماً إلا من عصمه الله تعالى, وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغير واحد من السلف: هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب, وكذا قال ابن زيد وهذا هو الأظهر من المراد, ولهذا قال بعده " يسأل أيان يوم القيامة " أي يقول متى يكون يوم القيامة وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى: "ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون".
وقال تعالى ههنا: "فإذا برق البصر" قرأ أبو عمرو بن العلاء برق بكسر الراء أي حار, وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: "لا يرتد إليهم طرفهم" أي بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب, وقرأ آخرون برق بالفتح وهو قريب في المعنى من الأول, والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور. وقوله تعالى: "وخسف القمر" أي ذهب ضوؤه "وجمع الشمس والقمر" قال مجاهد : كورا, وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الاية " إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت " وروي عن ابن مسعود أنه قرأ " وجمع الشمس والقمر ". وقوله تعالى: "يقول الإنسان يومئذ أين المفر" أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجأ أو موئل, قال الله تعالى: " كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر " قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: أي لا نجاة, وهذه الاية كقوله تعالى: " ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير " أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه, وكذا قال ههنا: "لا وزر" أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه, ولهذا قال: "إلى ربك يومئذ المستقر" أي المرجع والمصير.
ثم قال تعالى: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها, أولها وآخرها, صغيرها وكبيرها, كما قال تعالى: "ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً" وهكذا قال ههنا: " بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر, وكما قال تعالى: "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "بل الإنسان على نفسه بصيرة" يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. وقال قتادة : شاهد على نفسه وفي رواية قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم غافلاً عن ذنوبه. وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوباً يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك وتترك الجذل في عينك لا تبصره!.
وقال مجاهد : "ولو ألقى معاذيره" ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة " ولو ألقى معاذيره" ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي "ولو ألقى معاذيره" حجته. وكذا قال ابن زيد والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير . وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس "ولو ألقى معاذيره" يقول: لو ألقى ثيابه. وقال الضحاك : ولو ألقى ستوره وأهل اليمن يسمون الستر العذار. والصحيح قول مجاهد وأصحابه كقوله تعالى: "يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون" وقال العوفي عن ابن عباس "ولو ألقى معاذيره" هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال "لا ينفع الظالمين معذرتهم" وقال "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" "فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء" وقولهم "والله ربنا ما كنا مشركين".
15- "ولو ألقى معاذيره" أي ول اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك. يقال معذرة ومعاذير. قال الفراء: أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره. وقال الزجاج: المعاذير الستور، والواحد معذار: أي وإن أرخى الستور يريد أن يخفي نفسه فنسه شاهدة عليه، كذا قال الضحاك والسدي: والستر بلغة اليمن يقال له معذار، والستر بلغة اليمن يقال له معذار، كذا قال المبرد، ومنه قول الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت يومها بالمعاذر
والأول أولى، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية ومقاتل، ومثله قوله: "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم" وقوله: "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" وقول الشاعر:
فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
15- "ولو ألقى معاذيره"، يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه، كما قال تعالى: "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم" (غافر- 52)، وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء: قال الفراء: ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء: القول، كما قال: " فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون " (النحل- 86). وقال الضحاك والسدي: "ولو ألقى معاذيره" يعني: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب. وأهل اليمن يسمون الستر: معذاراً، وجمعه: معاذير، ومعناه على هذا القول: وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه.
15-" ولو ألقى معاذيره " ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به جمع معذار وهو العذر ، أو جمع معذرة على غير قياس بصيرة بها فلا يحتاج إلى الإنباء .
" ولو ألقى معاذيره " ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به جمع معذار وهو العذر ، أو جمع معذرة على غير قياس كالمناكير في المنكر فإن قياسه معاذر وذلك أولى وفيه نظر .
15. Although he tender his excuses.
15 - Even though he were to put up his excuses.