الله يستهزئ بهم) يجازيهم باستهزائهم (ويمدهم) يمهلهم (في طغيانهم) بتجاوزهم الحد في الكفر (يعمهون) يترددون تحيرا حال
قال أبو جعفر: اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله، الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى" ( الحديد: 13، 14 )الآية. وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله: "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين" ( آل عمران: 178). فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائلي هذا القول، ومتأولي هذا التأويل.
وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال: إن فلاناً ليهزأ منه منذ اليوم، ويسخر منه ، يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عبيد بن الأبرص:
سائل بنا حجر ابن أم قطام، إذ ظلت به السمر النواهل تلعب
فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم، جعل ذلك من فعلها لعباً بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبيخه لهم ولائمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية.
وقال آخرون قوله: "يخادعون الله وهو خادعهم" ( النساء: 142) على الجواب، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" ( آل عمران: 54)، "الله يستهزئ بهم "، على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: " إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم "، وقوله: "يخادعون الله وهو خادعهم" ( النساء: 142،) وقوله: "فيسخرون منهم سخر الله منهم" ( التوبة: 79)، " نسوا الله فنسيهم" (التوبة: 67)، وما أشبه ذلك، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال جل ثناؤه: " وجزاء سيئة سيئة مثلها" ( الشورى: 40) ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة، إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عدل، لأنها من الله جزاء للعاصي على المعصية، فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفتا المعنى. وكذلك قوله: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" (البقرة: 194)، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم، وما أشبه ذلك.
وقال اخرون: إن معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهرلهم من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به مستهزئون. يعنون: إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه يستهزىء بهم ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الاخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزىء للمستهزء به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطناً. وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، المدخلهم في عداد من يشمله اسم الإسلام، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبهم، وصحائح عزائمهم، وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم مع علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعه على خبث اعتقادهم، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم به مصدقون، حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا، أنهم واردون موردهم، وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقتهم في عاجل الدنيا وآجل الاخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقه بينهم وبينهم معاً لهم من أليم عقابه ونكال عذابه، ما أعد منه لأعدى أعدائه وشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل، كان معلوماً أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم وإن كان جزاء لهم على أفعالهم، وعدلاً ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن ميز بينهم وبينهم- مستهزئاً، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا. إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزىء بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحوما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس:
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: "الله يستهزئ بهم " قال: يسخر بهم للنقمة منهم. وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: "الله يستهزئ بهم "، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة، فنافون عن الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزىء ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه. فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئاً إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبث ولعب. وذلك عن الله عز وجل منفي.
قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول "الله يستهزئ بهم"، و "سخر الله منهم"، و مكر الله بهم، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال: لا، كذب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال: بلى، قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: "الله يستهزئ بهم"، و "سخر الله منهم" يلعب الله بهم و يعبث ولا لعب من الله ولا عبث؟
فإن قال: نعم وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال: لا أقول: يلعب الله بهم ولا يعبث ، وقد أقول يستهزىء بهم و يسخر منهم.
قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكروالخديعة. ومن الوجه الذي جاز قيل هذا، ولم يجز قيل هذا، افترق معنياهما. فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "ويمدهم ".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ويمدهم" فمال بعضهم بما:حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يمدهم "، يملي لهم.
وقال آخرون بما: حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد: "يمدهم "، قال: يزيدهم.
وكان بعض نحوي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى يما لهم، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب: الغلام يلعب الكعاب، يراد به يلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون: قد مددت له وأمددت له في غير هذا المعنى، وهو قول الله تعالى ذكره: "وأمددناهم" (الطور: 22،) وهذا من: مددناهم . قال: ويقال: قد مد البحر فهو ماد و أمد الجرح فهو ممد. وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو مددت ، وما كان من الخير فهوأمددت . ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهومددت له ، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: أمددت .
وأما بعض نحوي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو أمددت بغير ألف، كما تقول: مد الهر، ومده نهر آخر غيره، إذا اتصل به فصار منه، وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف، كقولك: أمد الجرح ، لأن المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش بمدد.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: ويمدهم،: أن يكون بمعنى يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" (الأنعام: 110،) يعني نذرهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثماً إلى إثمهم.
ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى يمد لهم ، لأنه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها، أن يستجيزوا قول القائل: مد النهر نهر آخراً، بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماء المتصل به بماء المتصل من غير تأول منهم. وذلك أن معناه: مد النهر نهر آخر. فكذلك ذلك في قول الله: "ويمدهم في طغيانهم يعمهون ".
القول في تأويل قوله: " في طغيانهم ".
قال أبو جعفر: و الطغيان الفعلان، من قولك: طغى فلان يطغى طغيانا، إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قول الله: " كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى" ( العلق: 6، 7،) أي يتجاوز حده. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه، فظل مشيرا
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله "ويمدهم في طغيانهم "، أنه يملي لهم، ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما:
حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: "في طغيانهم يعمهون "، قال: في كفرهم يترددون.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " في طغيانهم "، في كفرهم.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، "في طغيانهم يعمهون "، أي في ضلالتهم يعمهون.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبدالله بن أبي جعفر ، عن أبيه، عن الربيع: "في طغيانهم"، في ضلالتهم.
وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله "في طغيانهم "، قال: طغيانهم، كفرهم وضلالتهم.
القول في تأويل قوله: " يعمهون ".
قال أبو جعفر: والعمه نفسه: الضلال. يقال منه: عمه فلان يعمه عمهاناً وعموهاً، إذا ضل.
ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مضلة من المهامه:
ومخفق من لهله ولهله من مهمه يجتبنه في مهمه
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
والعمه جمع عامه، وهم الذين يضفون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذا: "في طغيانهم يعمهون ": في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه، يترددون حيارى ضلالاً، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلاً.
وبنحو ما قلنا في العمه جاء تأويل المتأولين.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يعمهون "، يتمادون في كفرهم.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يعمهون "، قال: يتمادون.
حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: "يعمهون،"، قال: يترددون.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال:قال ابن عباس: "يعمهون ": المتلدد .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "في طغيانهم يعمهون "، قال: يترددود.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله.
حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن: الربيع "يعمهون" قال: يترددون.
قوله تعالى : "الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون" .
قوله تعالى : "الله يستهزئ بهم" أي ينتقم منهم ويعاقبهم ،ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم ، فسمى العقوبة باسم الذنب . هذا قول الجمهور من العلماء ، والعرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم ، من ذلك قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلاً ، والجهل لا يفتخر به ذو عقل ، وإنما قاله ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما . وكانت العرب إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفاً له في معناه ، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة . وقال الله عز وجل : "وجزاء سيئة سيئة مثلها" . وقال : "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" . والجزاء لا يكون سيئة . والقصاص لا يكون اعتداء ، لأنه حق وجب ، ومثله : "ومكروا ومكر الله" . و "إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا" و "إنما نحن مستهزئون" "الله يستهزئ بهم" . وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد ، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم ، وكذلك "يخادعون الله وهو خادعهم" "فيسخرون منهم سخر الله منهم" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا" . قيل : حتى بمعنى الواو أي تملوا . وقيل المعنى وأنتم تملون . وقيل : المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل . وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هز وخدع ومكر ، حسب ما روى : إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم . وروى الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا" هم منافقوا أهل الكتاب ، فذكرهم وذكر استهزاءهم ، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر ـ على ما تقدم ـ قالوا : إنا معكم على دينكم إنما نحن مستهزئون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : الله يستهزىء بهم في الآخرة ، يفتح لهم باب جهنم من الجنة ، ثم يقال لهم تعالوا ، فيقبلون يسبحون في النار ، والمؤمنون على الأرائك ـ وهي السرر ـ في الحجال ينظرون اليهم ، فإذا انتهو الى الباب سد عنهم ، فيضح المؤمنون منهم ، فذلك قول الله عز وجل : "الله يستهزئ بهم" أي في الآخرة ، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب ، فذلك قوله تعالى : "فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون" . إلى أهل النار "هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون" . وقال قوم : الخداع من الله والاستهزاء هو استدارجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم ، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم ، ويستر عنهم من عذاب الآخرة ، فيظنون أنه راض عنهم ، وهو تعالى قد حتم عذابهم . فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع ، ودل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم :
"إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدارج" . ثم نزع بهذه الآية : "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" . وقال بعض العلماء في قوله تعالى : "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" . كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة .
قوله تعالى : "ويمدهم" أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم ، كما قال : "إنما نملي لهم ليزدادوا إثما" وأصله الزيادة . قال يونس بن حبيب : يقال مد لهم في الشر ، وأمد في الخير ، قال الله تعالى : "وأمددناكم بأموال وبنين" . وقال : "وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون" . وحكي عن الأخفش : مددت له إذا تركته ، وأمددته إذا أعطيته . وعن الفراء واللحياني : مددت ، فيما كانت زيادته من مثله ، يقال مد النهر النهر ، وفي التنزيل : "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر" . وأمددت ، فيما كانت زيادته من غيره ، كقولك : أمددت الجيش بمدد ، ومنه : "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة" . وأمد الجرح ، لأن المدة من غيره ، أي صارت فيه مدة .
قوله تعالى : "في طغيانهم" كفرهم وضلالهم . وأصل الطغيان مجاوزة الحد ، ومنه قوله تعالى : "إنا لما طغى الماء" أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخزان . وقوله في فرعون : "إنه طغى" أي أسرف في الدعوى حيث قال : "أنا ربكم الأعلى" والمعنى في الآية : يمدهم بطلو العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم .
قوله تعالى : "يعمهون" يعمون . وقال مجاهد : أي يترددون متحرين في الكفر . وحكي أهل اللغة : عمه الرجل يعمه عموهاً وعمهاً فهو عمه وعامه إذا حار ، ويقال رجل عامه وعمه :حائر متردد ، وجمعه عمه . وذهبت إبله العمهى إذا لم يدر أين ذهبت . والعمى في العين ، والعمه في القلب ، وفي التنزيل : "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" .
يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وتقية وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به ومنهم من قال إلى هنا بمعنى مع والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير وقال السدي عن أبي مالك: خلوا يعني مضوا، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "وإذا خلوا إلى شياطينهم": يعني هم رؤساءهم في الكفر . وقال الضحاك عن ابن عباس: وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذا خلوا إلى شياطينهم" من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: "وإذا خلوا إلى شياطينهم" إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة "وإذا خلوا إلى شياطينهم" قال إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس . قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وفي المسند عن أبي ذر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقلت يا رسول أو للإنس شياطين ؟ قال نعم" وقوله "قالوا إنا معكم" قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أي إنا على مثل ما أنتم عليه "إنما نحن مستهزئون" أي إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم وقال الضحاك عن ابن عباس قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى جواباً ومقابلة على صنيعهم "الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون" وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" الاية، وقوله تعالى "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً" الاية، قال فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل قال: وقال آخرون بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به. قال: وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك. ولم يكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه قالوا وكذلك قوله تعالى "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" و " الله يستهزئ بهم" على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم، وقال آخرون قوله تعالى "إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم" وقوله "يخادعون الله وهو خادعهم" وقوله "فيسخرون منهم سخر الله منهم" و "نسوا الله فنسيهم" وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله" وقوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" فالأول ظلم والثاني عدل فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما، قال وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك . قال: وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا دخلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم مستهزئون، فأخبر تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة دماءهم وأموالهم خلاف الذي عنده في الاخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس حدثنا أبو كريب حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله " الله يستهزئ بهم " قال يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى "ويمدهم في طغيانهم يعمهون" قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يمدهم يملي لهم وقال مجاهد يزيدهم، وقال تعالى: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقال : "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" قال بعضهم كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" والطغيان: هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى: "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية" وقال الضاحك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون، وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير : والعمه: الضلال. يقال عمه فلان يعمه عمها وعموهاً إذا ضل، قال وقوله في طغيانهم يعمهون في ضلالتهم، وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقال بعضهم: العمى في العين والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" وتقول عمه الرجل يعمه عموهاً فهو عمه وعامه وجمعه عمه، وذهبت إبله العمهاء إذا لم يدر أين ذهبت.
فرد الله ذلك عليهم بقوله: 15- "الله يستهزئ بهم" أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخف بهم انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاءً مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة: وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاءً ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه. وورد في ذلك في القرآن كثيراً، ومنه "وجزاء سيئة سيئة مثلها" "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداءً لأنه حق، ومنه "ومكروا ومكر الله" " إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا "، "يخادعون الله والذين آمنوا"، "يخادعون الله وهو خادعهم"، "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك". وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمل حتى تملوا" وإنما قال: "الله يستهزئ بهم" لأنه يفيد التجدد وقتاً بعد وقت، وهو أشد عليهم وأنكأ لقلوبهم وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشد على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمر لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه. والمد: الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد في الشر وأمد في الخير، ومنه "وأمددناكم بأموال وبنين"، " وأمددناهم بفاكهة ولحم ". وقال الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددت: إذا أعطيته. وقال الفراء واللحياني: مددت فيما كانت زيادته زيادته من مثله، يقال: مد النهر، ومنه "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر" وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه "يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة" والطغيان مجاوزة الحد والغلو في الكفر ومنه " إنا لما طغى الماء " أي تجاوز المقدار الذي قدرته الخزان، وقوله في فرعون: "إنه طغى" أي أسرف في الدعوى حيث قال: "أنا ربكم الأعلى". والعمه والعامه: الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهي: إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى. والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدة ويمهلهم كما قال: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً". قال ابن جرير: "في طغيانهم يعمهون" في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قط طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقد أخرج الواحدي والثعلبيبسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" وهم إخوانهم قالوا: "إنا معكم" على مثل ما أنتم عليه " إنما نحن مستهزئون " بأصحاب محمد "الله يستهزئ بهم" قال: يسخر بهم للنقمة منهم "ويمدهم في طغيانهم" قال: في كفرهم "يعمهون" قال: يترددون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأول. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "وإذا خلوا إلى شياطينهم" قال: رؤسائهم في الكفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: "وإذا خلوا" أي مضوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "ويمدهم" قال: يملي لهم "في طغيانهم يعمهون" قال: في كفرهم يتمادون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد "يمدهم" يزيدهم "في طغيانهم يعمهون" قال: يلعبون ويترددون في الضلالة. وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: نعم.
قرأ أبو جعفر مستهزون ويستهزون وقل استهزوا وليطفوا وليواطوا ويستنبونك وخاطين وخاطون ومتكن ومتكون فمالون والمنشون بترك الهمزة فيهن.
15. " الله يستهزئ بهم " أي يجازيهم جزاء استهزائهم سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته كما قال الله تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (40-الشورى) قال ابن عباس: هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم، وردوا إلى النار وقيل هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين كما قال الله تعالى: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " (54-سبأ) قال الله تعالى: " فضرب بينهم بسور له باب " الآية (13-الحديد) وقال الحسن معناه الله يظهر المؤمنين على نفاقهم " ويمدهم " يتركهم ويمهلهم والمد والإمداد واحد، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير قال الله تعالى في المد " ونمد له من العذاب مداً " (79-مريم) وقال في الإمداد " وأمددناكم بأموال وبنين " (6 ـ الإسراء ) " وأمددناهم بفاكهة " (22-الطور) " في طغيانهم " أي في ضلالتهم وأصله مجاوزة الحد. ومنه طغى الماء " يعمهون " أي يترددون في الضلالة متحيرين.
15-" الله يستهزئ بهم " يجازهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلاً له في القدر ، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم ، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء ، أو الغرض منه ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة : فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه ، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم ، وأن استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل : الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالاً فحالاً ويتجدد حيناً بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين " .
" ويمدهم في طغيانهم يعمهون " من مد الجيش وأمده إذا زاد وقواه ، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له . ويدل عليه قراءة ابن كثير ( ويمدهم ) . والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا : لما منعهم الله تعالى ألطافة التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم ريناً وظلمة ، تزايد قلوب المؤمنين انشراحاً ونوراً ، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغياناً ، أسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازاً ، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ، ومصدق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال " وإخوانهم يمدونهم في الغي " . أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلا طغياناً وعمهاً ، فحذفت اللام وعدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى : " واختار موسى قومه " . أو التقدير يمدهم استصلاحاً ، وهم مع ذلك يعمهون في الكفر . والطغيان بالضم والكسر كلقيان ، والطغيان : تجاوز الحد في العتو ، والغلو في الكفر ، وأصله تجاوز الشئ عن مكانه قال تعالى : " إنا لما طغى الماء حملناكم " . والعمه في البصيرة كالعمى في البصر ، وهو : التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه ' وأرض عمهاء لا منار بها قال :
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
15. Allah (Himself) doth mock them, leaving them to wander blindly on in their contumacy.
15 - God will throw back Their mockery on them, And give them rope in their trespasses; So they Will Wander like blind ones (To and fro).