143 - (ولما جاء موسى لميقاتنا) أي للوقت الذي وعدناه بالكلام فيه (وكلمه ربه) بلا واسطة كلاماً سمعه من كل جهة (قال رب أرني) نفسك (أنظر إليك قال لن تراني) أي لا تقدر على رؤيتي ، والتعبير به دون لن أُرى يفيد إمكان رؤيته تعالى (ولكن انظر إلى الجبل) الذي هو أقوى منك (فإن استقر) ثبت (مكانه فسوف تراني) أي تثبت لرؤيتي وإلا فلا طاقة لك (فلما تجلى ربه) أي ظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر كما في حديث صححه الحاكم (للجبل جعله دكا) بالقصر والمد أي مدكوكاً مستوياً بالأرض (وخر موسى صعقاً) مغشياً عليه لهول ما رأى (فلما أفاق قال سبحانك) تنزيهاً لك (تبت إليك) من سؤال ما لم أؤمر به (وأنا أول المؤمنين) في زماني
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه، " وكلمه ربه "، وناجاه، " قال " موسى لربه، " أرني أنظر إليك "، قال الله له مجيباً: " لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ". وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه، ما:
حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: إن موسى عليه السلام لما كلمه ربه، أحب أن ينظر إليه، قال: " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني "، فحف حول الجبل بملائكة، وحف حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحف حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " وقربناه نجيا " [مريم: 52]، قال: حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قربه الرب حتى سمع صريف القلم، فقال عند ذلك من الشوق إليه: " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي قال: لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله، اشتاق إلى النظر إليه فقال: رب أرني أنظر إليك! قال: لن تراني، وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا، من نظر إلي مات! قال: إلهي، سمعت منطقك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموت، أحب إلي من أن أعيش ولا أراك! قال: فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " أرني أنظر إليك "، قال: أعطني.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: استخلف موسى هرون على بني إسرائيل وقال: إني متعجل إلى ربي، فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلاً للقيه شوقاً إليه، وأقام هرون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. فلما كلم الله موسى، طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال الله لموسى: إنك لن تراني، " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " الآية. قال ابن إسحق : فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه، وأهل الكتاب يزعمون وأهل التوراة: أن قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة، ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله، والله أعلم.
قال ابن إسحق : عن بعض أهل العلم الأول بأحاديث أهل الكتاب، أنهم يجدون في تفسير ما عندهم من خبر موسى حين طلب ذلك إلى ربه، أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته، وطلب ذلكمنه، ورد عليه ربه منه ما رد: أن موسى كان تطهر وطهر ثيابه، وصام للقاء ربه. فلما أتى طور سيناء، ودنا الله له في الغمام فكلمه، سبحه وحمده وكبره وقدسه، مع تضرع وبكاء حزين، ثم أخذ في مدحته فقال: رب ما أعظمك وأعظم شأنك كله، من عظمتك أنه لم يكن شيء من قبلك، فأنت الواحد القهار، كأن عرشك تحت عظمتك ناراً توقد لك، وجعلت سرادقاً من نور من دونه سرادق من نور، فما أعظمك رب وأعظم ملكك! جعلت بينك وبين ملائكتك مسيرة خمسمئة عام. فما أعظمك رب وأعظم ملكك في سلطانك! وإذا أردت شيئاً تقضيه في جنودك الذين في السماء أو الذين في الأرض، وجنودك الذين في البحر، بعثت الروح من عندك لا يراها شيء من خلقك، إلا أنت إن شئت، فدخلت في جوف من شئت من أنبيائك، فبلغوا من أردت من عبادك. وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئاً من عظمتك ولا من عرشك ولا يسمع صوتك، فقد أنعمت علي وأعظمت علي في الفضل، وأحسن إلي كل الإحسان! عظمتني في أمم الأرض، وعظمتني عند ملائكتك، وأسمعتني صوتك، وبذلت لي كلامك، وآتيتني حكمتك، فإن أعد نعماك لا أحصيها، وإن أرد شكرك لا أستطيعه. دعوتك رب على فرعون بالآيات العظام والعقوبة الشديدة، فضربت بعصاي التي في البحر فانفلق لي ولمن معي! ودعوتك حين أجزت البحر، فأغرقت عدوك وعدوي. وسألتك الماء لي ولأمتي، فضربت بعصاي التي في يدي الحجر، فمنه أرويتني وأمتي. وسألتك لأمتي طعاماً لم يأكله أحد كان قبلهم، فأمرتني أن أدعوك من قبل المشرق ومن قبل المغرب، فناديتك من شرقي أمتي فأعطيتهم المن من مشرق لنفسي، وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر. واشتكيت الحر فناديتك، فظللت عليهم بالغمام. فما أطيق نعماك على أن أعدها ولا أحصيها، وإن أردت شكرها لا أستطيعه. فجئتك اليوم راغباً طالباً سائلاً متضرعاً، لتعطيني ما منعت غيري. أطلب إليك وأسألك ياذا العظمة والعزة والسلطان، أن تريني أنظر إليك، فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك! قال له رب العزة: ألا ترى يا ابن عمران ما تقول؟ تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق! [لا يراني أحد فيحيى، ليس في السموات معمري، فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي وليس في الأرض معمري، فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي] فلست في مكان واحد، فأتجلى لعين تنظر إلي. قال موسى: يا رب، أن أراك وأموت، أحب إلي من أن لا أراك وأحيى. قال له رب العزة: يا ابن عمران، تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق، لا يراني أحد فيحيى! قال: رب تمم علي نعماك، وتمم علي فضلك، وتمم علي إحسانك، بهذا الذي سألتك، ليس لي أن أراك فأقبض، ولكن أحب أن أراك فيطمئن قلبي. قال له: يا ابن عمران، لن يراني أحد فيحيى! قال موسى: رب تمم علي نعماك، وتمم علي فضلك وتمم علي إحسانك بهذا الذي سألتك، فأموت على إثر ذلك، أحب إلي من الحياة! فقال الرحمن المترحم على خلقه: قد طلبت يا موسى [وحييت]، لاعطينك سؤلك إن استطعت أن تنظر إلي، فاذهب فاتخذ لوحين، ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل، فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا ابن عمران. ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير. ففعل موسى كما أمره ربه، نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل، فجلس على الحجر، فلما استوى عليه أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا فقال: ضعي أكتافك حول الجبل. فسمعت ما قال الرب، ففعلت أمره. ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى، أربعة فراسخ من كل ناحية، ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمروا بموسى، فاعترضوا عليه، فمروا به طيران النغر، تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد، فقال موسى بن عمران عليه السلام: رب، إني كنت عن هذا غنياً، ما ترى عيناي شيئاً، قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفف على ملائكة ربي! ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية: أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه! فهبطوا أمثال الأسد لهم لجب بالتسبيح والتقديس، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع، فاقشعرت كل شعرة في رأسه وجلده، ثم قال: ندمت على مسألتي إياك، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له كبير الملائكة ورأسهم: يا موسى، اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت! ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة: أن اهبطوا على موسى، فاعترضوا عليه! فأقبلوا أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس، كلجب الجيش العظيم، كلهب النار. ففزع موسى وأسيت نفسه، وساء ظنه، وأيس من الحياة، فقال له كبير الملائكة ورأسهم: مكانك يا ابن عمران، حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران! فأقبلوا وهبطوا عليه، لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم. فاصطكت ركبتاه، وأرعد قلبه، واشتد بكاؤه، فقال كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران، اصبر لما سألت، فقليل من كثير ما رأيت! ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة: أن اهبطوا فاعترضوا على موسى! فهبطوا عليه سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم طرفه، ولم ير مثلهم، ولم يسمع مثل أصواتهم، وامتلأ جوفه خوفاً، واشتد حزنه وكثر بكاؤه، فقال له كبير الملائكة ورأسهم: يا ابن عمران، مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة: أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى بن عمران، واعترضوا عليه! فهبطوا عليه، في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة ناراً أشد ضوءاً من الشمس، ولباسهم كلهب النار، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات كلهم يقولون بشدة أصواتهم: ((سبوح قدوس، رب العزة أبداً لا يموت))، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول: ((رب اذكرني ولا تنس عبدك، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا، إن خرجت أحرقت، وإن مكثت مت))! فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلىء جوفك، وينخلع قلبك، ويشتد بكاؤك، فاصبر للذي جلست تنظر إليه يا ابن عمران! وكان جبل موسى جبلاً عظيماً، فأمر الله أن يحمل عرشه، ثم قال: مروا بي على عبدي ليراني، فقليل من كثير ما رأى! فانفرج الجبل من عظمة الرب، وغشى ضوء عرش الرحمن جبل موسى، ورفعت ملائكة السموات أصواتها جميعاً، فارتج الجبل فاندرك وكل شجرة كانت فيه، وخر العبد الضعيف موسى بن عمران صعقاً على وجهه، ليس معه روحه، فأرسل الله الحياة برحمته، فتغشاه الروح برحمته، وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعدة كهيئة القبة، لئلا يحترق موسى. فأقامه الروح، مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع. قال: فقام موسى يسبح الله ويقول: آمنت أنك ربي، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيى، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه، فما أعظمك رب، وأعظم ملائكتك، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، تأمر الجنود الذين عندك فيطيعونك وتأمر السماء وما فيها فتطيعك، لا تستنكف من ذلك، ولا يعدلك شيء، ولا يقوم لك شيء، رب تبت إليك، الحمد لله الذي لا شريك له، ما أعظمك وأجلك رب العالمين!
القول في تأويل قوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما اطلع الرب للجبل، جعل الله الجبل دكاً، أي: مستوياً بالأرض، " وخر موسى صعقا "، أي: مغشياً عليه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسن بن محمد بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي ، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر، " جعله دكا "، قال: تراباً، " وخر موسى صعقا "، قال: مغشياً عليه.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي ، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: تجلى منه مثل الخنصر، فجعل الجبل دكاً وخر موسى صعقاً، فلم يزل صعقاً ما شاء الله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وخر موسى صعقا "، قال: مغشياً عليه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، قال: انقعر بعضه على بعض، " وخر موسى صعقا "، أي: ميتاً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: " وخر موسى صعقا "، أي: ميتاً.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: " دكا "، قال: دك بعضه بعضاً.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، قال: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، عن حجاج، عن أبي بكر الهذلي: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي قال، حدثنا قرة بن عيسى قال، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما تجلى ربه للجبل، أشار بإصبعه، فجعله دكاً ". وأرانا أبو إسمعيل بإصبعه السبابة.
حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، قال هكذا بإصبعه - ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل ".
حدثني المثنى قال، حدثنا هدبة بن خالد قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا "، قال: وضع الإبهام قريباً من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل "، فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ قال: فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس، وأنا أكتمه!.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا "، وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور، صار مثل دك من الدكات.
حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد : " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه "، فإنه أكبر منك وأشد خلقاً، " فلما تجلى ربه للجبل "، فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل يندرك على أوله. فلما رأى موسى ما يصنع الجبل، خر صعقاً.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " دكا ".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: " دكا "، مقصوراً بالتنوين بمعنى: ((دك الله الجبل دكاً)) أي: فتته، واعتباراً بقول الله: " كلا إذا دكت الأرض دكا دكا " [الفجر: 21]. وقوله: " وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة " [الحاقة: 14]، واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد:
يدك أركان الجبال هزمه تخطر بالبيض الرقاق بهمه
وقرأته عامة قرأة الكوفيين: ((جعله دكاء))، بالمد وترك الجر والتنوين، مثل ((حمراء)) و((سوداء)). وكان ممن يقرأه كذلك، عكرمة، ويقول فيه ما:
حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن يزيد بن حازم، عن عكرمة قال: ((دكاء من الدكاوات)). وقال: لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صحراء تراباً.
واختلف أهل العربية في معناه إذا قرىء كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: العرب تقول: ((ناقة دكاء))، ليس لها سنام. وقال: ((الجبل)) مذكر، فلا يشبه أن يكون منه، إلا أن يكون جعله: ((مثل دكاء))، حذف ((مثل))، وأجراه مجرى: " واسأل القرية " [يوسف: 82].
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضاً دكاء، ثم حذفت ((الأرض))، وأقيمت ((الدكاء)) مقامها، إذ أدت عنها.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأ: ((جعله دكاء))، بالمد وترك الجر، لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحته. وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فساخ الجبل "، ولم يقل ((فتفتت)) ولا ((تحول تراباً)). ولا شك أنه إذا ساخ فذهب، ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها، وصارت دكاء بلا سنام. وأما إذا دك بعضه، فإنما يكسر بعضه بعضاً ويتفتت ولا يسوخ.
وأما ((الدكاء)) فإنها خلف من ((الأرض))، فلذلك أنثت، على ما قد بينت.
فمعنى الكلام إذاً: فلما تجلى ربه للجبل ساخ، فجعل مكانه أرضاً دكاء.
وقد بينا معنى ((الصعق)) بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله: " فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خر لها موسى صلى الله عليه وسلم، " قال سبحانك "، تنزيهاً لك، يا رب، وتبرئةً أن يراك أحد في الدنيا، ثم يعيش، " تبت إليك "، من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية، " وأنا أول المؤمنين "، بك من قومي، أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع أنس، عن أبي العالية في قوله: " تبت إليك وأنا أول المؤمنين "، قال: كان قبله مؤمنون، ولكن يقول: أنا أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما رأى موسى ذلك وأفاق، عرف أنه قد سأل أمراً لا ينبغي له، فقال: " سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين "، قال أبو العالية: عنى: إني أول من آمن بك أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: " وخر موسى صعقا "، فمرت به الملائكة وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحيض، لقد سألت ربك أمراً عظيماً! فلما أفاق قال: سبحانك لا إله إلا أنت تبت إليك وأنا أول المؤمنين! قال: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد من خلقك، يعني: في الدنيا.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين "، يقول: أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد : " سبحانك تبت إليك "، قال: من مسألتي الرؤية.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد : " قال سبحانك تبت إليك "، أن أسألك الرؤية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن رجل، عن مجاهد : " سبحانك تبت إليك "، أن أسألك الرؤية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد في قوله: " سبحانك تبت إليك "، قال: تبت إليك من أن أسألك الرؤية.
وقال آخرون: معناه: قوله: وأنا أول المؤمنين بك من بني إسرائيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي ، عن عكرمة، عن ابن عباس: " وأنا أول المؤمنين "، قال: أول من آمن بك، من بني إسرائيل.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي ، عن عكرمة، عن ابن عباس: " وأنا أول المؤمنين "، يعني: أول المؤمنين من بني إسرائيل.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " وأنا أول المؤمنين "، أنا أول قومي إيماناً.
حدثنا ابن وكيع والمثنى قالا، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن رجل عن مجاهد : " وأنا أول المؤمنين "، يقول: أول قومي إيماناً.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وأنا أول المؤمنين "، قال: أنا أول قومي إيماناً.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهداً يقول في قوله: " وأنا أول المؤمنين "، قال: أول قومي آمن.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: " وأنا أول المؤمنين "، على قول من قال: معناه: أنا أول المؤمنين من بني إسرائيل، لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء، منهم ولد إسرائيل لصلبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء. فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.
قوله تعالى: "ولما جاء موسى لميقاتنا" أي في الوقت الموعود. "وكلمه ربه" أي اسمعه كلامه من غير واسطة. "قال رب أرني أنظر إليك" سأل النظر إليه، واشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. فيهاـ"قال لن تراني" أي في الدنيا. ولا يجوز الحمل على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك، لأنه قال إليك و قال لن تراني. ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل، كما أعطاه سائر الآيات. وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى، فبطل هذا التأويل. "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" ضرب له مثالاً مما هو أقوى من بنيته وأثبت. أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي. وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه: أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقاً. وأن الجبل رأى ربه فصار دكاً بإدراك خلقه الله له. واستنبط ذلك من قوله: "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني". ثم قال: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا" وتجلى معناه ظهر، من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدإ، جلاءً فيهما. وتجلى الشيء انكشف. وقيل: تجلى أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة دكاً، يدل على صحتها "دكت الأرض دكا" [الفجر: 21] وأن الجبل مذكر. وقرأ أهل الكوفة دكاء أي جعله مثل أرض دكاء، وهي الناتئة لا تبلغ أن تكون جبلاً. والمذكر أدك، وجمع دكاء دكاوات ودك، مثل حمراوات وحمر. قال الكسائي: الدك من الجبال: العراض، واحدها أدك. غيره: والدكاوات جمع دكاء: رواب من طين ليست بالغلاظ. والدكداك كذلك من الرمل: ما التبد بالأرض فلم يرتفع. وناقة دكاء لا سنام لها. وفي التفسير: فساخ الجبل في الأرض، فهو يذهب فيها حتى الآن. وقال ابن عباس: جعله تراباً. عطية العوفي: رملاً هائلاً. "وخر موسى صعقا" أي مغشياً عليه، عن ابن عباس والحسن و قتادة. وقيل: ميتاً، صعق الرجل فهو صعق. وصعق فهو مصعوق. وقال قتادة والكلبي: خر موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. "فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك" قال مجاهد: من مسألة الرؤية في الدنيا. وقيل: سأل من غير استئذان، فلذلك تاب. وقيل: قاله على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات. وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية، فإن الأنبياء معصومون. وأيضاً عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة. وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة. وهذا لايقتضي التوبة. فقيل: أي تبت إليك من قتل القبطي، ذكره القشيري. وقد مضى في الأنعام بيان أن الرؤية جائزة. قال علي بن مهدي الطبري: لو كان سؤال موسى مستحيلاً ما أقدم عليه مع معرفته بالله، كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد. وسيأتي في القيامة مذهب المعتزلة والرد عليهم، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "وأنا أول المؤمنين" قيل: من قومي. وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. وقيل: بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق في ذلك. وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصفته الأولى". أو قال "كفته صعقته الأولى". وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما، فكلمه موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال "رب أرني أنظر إليك قال لن تراني" وقد أشكل حرف لن ههنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والاخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الاخرة كما سنوردها عند قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ".
وقوله تعالى إخباراً عن الكفار "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه الاية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤيا في الدار الاخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير" وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام "يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده" ولهذا قال تعالى: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً" قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الاية حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكاً. وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة, هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم, ثم قال حدثني المثنى, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاية "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً" قال: هكذا بأصبعه, ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر, فساخ الجبل هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كما قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً" قال: "ووضع الإبهام قريباً من طرف خنصره", قال: "فساخ الجبل" قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟ وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "فلما تجلى ربه للجبل" قال: قال "هكذا" يعني أنه أخرج طرف الخنصر قال أحمد: أرانا معاذ فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد ؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما تريد إليه ؟.
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الاية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه أبو محمد بن الحسن بن محمد بن علي الخلال عن محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد صحيح لا علة فيه, وقد رواه داود بن المحير عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعاً وهذا ليس بشيء, لأن داود بن المحير كذاب, رواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعاً بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً ولا يصح أيضاً, رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم. وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: "فلما تجلى ربه للجبل" قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر "جعله دكاً" قال تراباً "وخر موسى صعقاً" قال مغشياً عليه رواه ابن جرير وقال قتادة "وخر موسى صعقاً" قال ميتاً وقال سفيان الثوري ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً" انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة, بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور" وهذا حديث غريب بل منكر وقال ابن أبي حاتم ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماً ملساء فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف وقال الربيع بن أنس "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً" وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك وقال بعضهم جعله دكاً أي فتنة وقال مجاهد في قوله "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" فإنه أكبر منك وأشد خلقاً "فلما تجلى ربه للجبل" فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً وقال عكرمة جعله دكاء قال نظر الله إلى الجبل فصار صحراء تراباً وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير, وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه ابن مردويه والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان صحيحاً في اللغة كقوله تعالى: "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي. وهي قوله "فلما أفاق" والإفاقة لا تكون إلا عن غشي "قال سبحانك" تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات. وقوله "تبت إليك" قال مجاهد أن أسألك الرؤية "وأنا أول المؤمنين" قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل واختاره ابن جرير وفي رواية أخرى عن ابن عباس "وأنا أول المؤمنين" أنه لا يراك أحد وكذا قال أبو العالية قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة, وهذا قول حسن له اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ها هنا أثراً طويلاً فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم, وقوله "وخر موسى صعقاً" فيه أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه ههنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه, وقال يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال "ادعوه" فدعوه قال "لم لطمت وجهه ؟" قال يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد ؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته فقال "لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري به. وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين فقال اليهودي: والذين اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه, فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل" أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه, ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار وهذا هو أصح وأصرح والله أعلم والكلام في قوله عليه السلام: "لا تخيروني على موسى" كالكلام على قوله "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى" قيل من باب التواضع وقيل قبل أن يعلم بذلك, وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب وقيل على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي والله أعلم. وقوله "فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ولهذا قال عليه السلام "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه الشفاء بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق, حدثنا قتادة حدثنا الحسن عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ" ثم قال: ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى انتهى ما قاله وكأنه صحح هذا الحديث, وفي صحته نظر ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى منتهاه والله أعلم.
اللام في 143- "لميقاتنا" للاختصاص: أي كان مجيئه مختصاً بالميقات المذكور بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود "وكلمه ربه" أي اسمعه كلامه من غير واسطة. قوله: "أرني أنظر إليك" أي أرني نفسك أنظر إليك: أي سأله النظر إليه اشتياقاً إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها، والجواب بقوله: "لن تراني" يفيد أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنه لا يرى ما دام الرائي حياً في دار الدنيا. وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه آباءه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب. والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء. وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم. وما أقل المنصفين بعد ظهوره هذه المذاهب في الأصول والفروع فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه، والهداية منه:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح
وجملة "قال لن تراني" مستأنفة لكونها جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قال الله له؟ والاستدراك بقوله: "ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" معناه أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرماً وصلابة وقوة، وهو الجبل فانظر إليه "فإن استقر مكانه" ولم يتزلزل عند رؤيتي له "فسوف تراني" وإن ضعف عن ذلك فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام الجبل، وقيل: هو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا.
وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتي المعتزلة والأشعرية: فالمعتزلة استدلوا بقوله: "لن تراني"، وبأمره بأن ينظر إلى الجبل، والأشعرية قالوا: إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة، ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله، والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف. قوله: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً" تجلى معناه: ظهر، من قولك جلوت العروس: أي أبرزتها، وجلوت السيف: أخلصته من الصدأ، وتجلى الشيء: انكشف. والمعنى: فلما ظهر ربه للجبل جعله دكاً، وقيل المتجلي هو أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره والدك مصدر بمعنى المفعول: أي جعله مدكوكاً مدقوقاً فصار تراباً، هذا على قراءة من قرأ دكاً بالمصدر، وهم أهل المدينة وأهل البصرة، وأما على قراءة أهل الكوفة "جعله دكاء" على التأنيث، والجمع دكاوات كحمراء وحمراوات، وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض أو للأرض المستوية، فالمعنى: أن الجبل صار صغيراً كالرابية أو أرضاً مستوية. قال الكسائي: الدك: الجبال العراض واحدها أدك، والدكاوات جمع دكاء، وهي رواب من طين ليست بالغلاظ، والدكادك: ما التبد من الأرض فلم يرتفع، وناقة دكاء: لا سنام لها "وخر موسى صعقاً" أي مغشياً عليه مأخوذاً من الصاعقة: والمعنى: أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له. يقال: صعق الرجل فهو صعق ومصعوق: إذا أصابته الصاعقة "فلما أفاق" من غشيته "قال سبحانك" أي أنزهك تنزيهاً من أن أسأل شيئاً لم تأذن لي به "تبت إليك" عن العود إلى مثل هذا السؤال. قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية فإن الأنبياء معصومون، وقيل: هي توبة من قتله للقبطي، ذكره القشيري، ولا وجه له في مثل هذا المقام "وأنا أول المؤمنين" بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك.
143 - قوله عز وجل : " ولما جاء موسى لميقاتنا " ، أي : للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه . قال أهل التفسير : إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء . وفي القصة : إن الله عز وجل وأنزل ظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد عنه هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء ورأى الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وكلمة الله وناجاه حتى أسمعه ، وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمة ربه وأدناه حتى سمع صرير القلم فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه واشتاق إلى رؤيته " قال رب أرني أنظر إليك " ، قال الزجاج : فيه اختصار تقديره : أرني نفسك أنظر إليك . قال ابن عباس : أعطني انظر إليك . فإن قيل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظناً منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا " قال " الله تعالى " لن تراني " وليس لبشر أن يطيق النظر ( إلي في الدنيا من نظر إلي ) في الدنيا مات فقال إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن انظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك فقال الله عز وجل : " ولكن انظر إلى الجبل " ، وهو أعظم جبل مدين يقال له زبير .
قال السدي : لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى ، فوسوس إليه : أن يكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى الرؤية فقال الله عز وجل : " لن تراني " ، وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية ، وقالوا : قال الله تعالى : " لن تراني " ، ولن تكون للتأييد ، ولا حجة لهم فيها ومعنى الآية : لن تراني في الدنيا أو في الحال ، لأنه كان يسأل الرؤية في الحال و( لن ) لا تكون للتأييد ، كقوله تعالى " ولن يتمنوه أبداً " ( البقرة - 95 ) ، إخباراً عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة يقولون " يا مالك ليقض علينا ربك " ( الزخرف - 77 ) ، و" يا ليتها كانت القاضية " ( الحاقة - 27 ) ، والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ولم يقل إني لا أرى حتى يكون لهم حجة بل علق الرؤية على استقرار الجبل واستقرار الجبل على التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً .
قال الله تعالى : " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " ، قال وهب و ابن إسحاق لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب ، وأمر الله ملائكة السماء أن يعترضوا على موسى فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ، ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء ؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت .
ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه ، فهبطوا أمثال النسور فهم قصف ورجف شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد نفسه وأيس من الحياة ، فقال له خير الملائكة : مكانك يا بن عمران حتى ترى ما لا تصبر عليه ، ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا عليه فكان لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم ، فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير رأيت .
ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ، لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه ، فقال له خير الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه .
ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي الذي طلب ليراني ، فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة ، نار أشد ضوءاً من الشمس ، ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات ، كلهم يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدوس ، رب العزة أبداً لا يموت ، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم ( حين سبحوا ) وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت احترقت وإن مكثت مت ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : قد أوشكت يا بن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت .
ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله ، ورفعت ملائكة السموات أصواتهم جميعاً يقولون : سبحان القدوس رب العزة أبداً لا يموت بشدة أصواتهم ، فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً على وجهه ليس معه روحه ، فأرسل الله برحمته الروح فتغشاه ، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح مثل اللامة ، فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول آمنت بك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلك رب العالمين ، فذلك قوله تعالى : " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً " ، قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل ، جبل الزبير . وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور . وقال عبدالله بن سلام وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً . وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر ، يدل عليه ما روى ثابت عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل" .
وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً ، أي : مستوياً بالأرض ، قرأ حمزة و الكسائي ( دكاء ) ممدوداً غير منون هاهنا وفي سورة الكهف و ( وافق عاصم في الكهف ) ، وقرأ آخرون ( دكا) مقصوراً منوناً ، فمن قصره فمعناه جعله مدقوقاً : والدك والدق واحد ، وقيل : معناه دكه الله دكاً أي : فتته كما قال : " كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً " ( الفجر - 21 ) ، ومن قرأ بالمد أي : جعله مستوياً أرضاً دكاء .
وقيل : معناه جعله مثل دكاء وهي الناقة التي لا سنام لها قال ابن عباس : جعله تراباً. وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه . وقال عطية العوفي : صار رملاً هائلاً . وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغاراً .
ووقع في بعض التفاسير : صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة : أحد وورقان ورضوي ، ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء .
قوله عز وجل : " وخر موسى صعقاً " . قال ابن عباس والحسن : مغشياً عليه . وقال قتادة : ميتاً . وقال الكلبي : خر موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر .
قال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات : ما لابن عمران وسؤال الرؤية ؟ وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة . " فلما أفاق " موسى من صعقته وثاب إليه عقله عرف أنه قد سأل أمراً لا ينبغي له " قال سبحانك تبت إليك " عن سؤال الرؤية " وأنا أول المؤمنين " بأنك لا ترى في الدنيا . وقال مجاهد و السدي : وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل .
143. " ولما جاء موسى لميقاتنا " لوقتنا الذي وقتناه ، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا . " وكلمه ربه " من غير وسيط كما يكلم الملائكة ، وفيما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين . " قال رب أرني أنظر إليك " أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك ، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك . وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : " لن تراني " دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إلي ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : " أرنا الله جهرة " خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : " اجعل لنا إلهاً " ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه " ولا تتبع سبيل المفسدين " والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية . " قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه ، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ، والجبل قيل هو جبل زبير ، " فلما تجلى ربه للجبل " ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره . وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه ." جعله دكاً" مدكوكا مفتتا والدك والق أخوان كالشك والشق ،وقرأ حمزة والكسائي (دكاء ) أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها . وقرئ " دكاً " أي قطعا جمع دكاء . " وخر موسى صعقاً " مغشيا عليه من هول ما رأى . " فلما أفاق قال " تعظيما لما رأى . " سبحانك تبت إليك " من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن . " وأنا أول المؤمنين " مر تفسيره . وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا .
143. And when Moses came to Our appointed tryst and his Lord had spoken unto him, he said: My Lord! Show me (Thy self), that I may gaze upon Thee. He said: Thou wilt not see Me, but gaze upon the mountain! If it stand still in its place, then thou wilt see Me. And when his Lord revealed (His) glory to the mountain He sent it crashing down. And Moses fell down senseless. And when he woke he said: Glory unto Thee! I turn unto Thee repentant, and I am the first of (true) believers.
143 - When Moses came to the place appointed by us, and his Lord addressed him, he said: O my Lord show (thyself) to me, that I may look upon thee. God said. by no means canst thou see me (direct); but look upon the mount; if it abide in its place, then shalt thou see me. when his Lord manifested his glory on the mount, he made it as dust, and Moses fell down in a swoon. when he recovered his senses he said: Glory be to thee to thee I turn in repentance, and I am the first to believe.