(ومن الذين قالوا إنا نصارى) متعلق بقوله (أخذنا ميثاقهم) كما أخذنا على بني إسرائيل اليهود (فنسوا حظا مما ذكروا به) في الإنجيل من الإيمان وغيره ونقضوا الميثاق (فأغرينا) أوقعنا (بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) بتفرقهم واختلاف أهوائهم فكل فرقة تكفر الأخرى (وسوف ينبئهم الله) في الآخرة (بما كانوا يصنعون) فيجازيهم عليه
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي، واتباع رسلي والتصديق بهم ، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود، فبدلوا كذلك دينهم ، ونقضوه نقضهم، وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي، وضيعوا أمري، كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به"، نسوا كتاب الله بين أظهرهم ، وعهد الله الذي عهده إليهم ، وأمر الله الذي أمرهم به.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظاً مما ذكروا به.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فأغرينا بينهم"، حرشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشيء بالشيء.
يقول جل ثناؤه : لما ترك هؤلاء النصارى، الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي ، حظهم مما عهدت إليهم من أمري ونهيي ، أغريت بينهم العداوة والبغضاء.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة (إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة، والبغضاء).
فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي في قوله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال : هذه الأهواء المختلفة والتباغض ، فهو الإغراء.
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هرون، عن العوام بن حوشب قال: سمعت النخعي يقول: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي والتيمي قوله: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: ما أرى (الإغراء) في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة . وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الأعمال.
وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" الآية، إن القوم لما تركوا كتاب الله، وعصوا رسله ، وضيعوا فرائضه ، وعطلوا حدوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعمالهم أعمال السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره، ما افترقوا ولا تباغضوا.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالحق ، تأويل من قال: (أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم)، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى بينهم ، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح ، وذلك أهواء، لا وحي من الله.
واختلف أهل التأويل في المعني بـ (الهاء والميم) اللتين في قوله: "فأغرينا بينهم".
فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم : فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظاً مما ذكروا به.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: وقال في النصارى أيضاً: "فنسوا حظاً مما ذكروا به"، فلما فعلوا ذلك ، أغرى الله عز وجل بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، قال: هم اليهود والنصارى . قال ابن زيد: كما تغري بين اثنين من البهائم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال : اليهود والنصارى.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: هم اليهود والنصارى، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك النصارى وحدها. وقالوا : معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى، عقوبةً لها بنسيانها حظاً مما ذكرت به . قالوا: وعليها عادت (الهاء والميم) في "بينهم"، دون اليهود.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، قال : إن الله عز ذكره تقدم إلى بني إسرائيل: أن لا تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجراً! فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، فأخذوا الرشوة في الحكم ، وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" [المائدة: 64]، وقال في النصارى: "فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة".
قال أبو جعفر: وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أن المعني بالإغراء بينهم ، النصارى، في هذه الآية خاصة، وأن (الهاء والميم) عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر (الإغراء) في خبر الله عن النصارى، بعد تقضي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى، فلأن يكون ذلك معنياً به النصارى خاصةً، أولى من أن يكون معنياً به الحزبان جميعاً، لما ذكرنا.
فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟
قيل: ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية، الملكية ، والملكية ، النسطورية واليعقوبية. وليس الذي قاله من قال : (معني بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى) ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي، وأشبه بتأويل الآية، لما ذكرنا.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح ، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم، بما كانوا في الدنيا يصنعون ، من نقضهم ميثاقه ، ونكثهم عهده ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم أمره ونهيه ، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم.
قوله تعالى :" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم " أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ هو مكتوب في الإنجيل " فنسوا حظا" وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، أي لم يعلموا بما أمروا به وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سبباً للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم " أخذنا ميثاقهم " هو كقولك : أخذت من زيد ثوبه ودرهمه قاله الأخفش: ورتبه "الذين " أن تكون بعد" أخذنا " وقبل الميثاق فيكون التقدير : أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم لأه في موضع المفعول الثاني لأخذنا وتقديره عند الكوفيين : ومن الذين قاولا إنا نصارى من أخذنا ميثاقهم فالهاء والميم تعودان على " ومن " المحذوفة وعلى القول الأول تعودان على " الذين " ولا يجيز لئلا يتقدم أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى ولا ألينها لبست من الثياب، لئلا يتقدم مضمر على ظاهر وفي قولهم " إنا نصارى " ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها روي معناه عن الحسن .
قوله تعالى :" فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " أي هيجنا . وقيل: الصقنا بهم مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال: غري بالشي يغرى غراً بفتح الغين مقصوراً وغراء بكسر الغين ممدوداً إذا أولع به كأنه التصق به وحكا الرماني : الإغراء تسليط بعضهم على بعض وقيل: الإغراء التحريش وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غراً مقصور وممدود مفتوح الأول إذا لصقت به وقال كثير:
إذا قيل مهلاً قالت العين بالبكا غراء ومدتها حوافل نهل
وأغريت زيداً بكذا حتى غري به ومنه الغراء الذي يغرى به للصوقه فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه وأغريت الكب أي أولعته بالصيد "بينهم " ظرف للعداوة " والبغضاء" البغض أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما عن السدي وقتادة : بعضهم لبعض عدو. وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة قاله الربيع بن أنس لأنهم أقرب مذكور وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية أي كفر بعضهم بعضاً قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم فكل فرقة مأمورة بعداوة وإبغاضهم لأنهم كفار وقوله : " وسوف ينبئهم الله " تهديد لهم أي سيلقون جزاء نقض الميثاق .
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وأمرهم بالقيام بالحق, والشهادة بالعدل, وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى, شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى, فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم, وطرداً عن بابه وجنابه, وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق, وهو العلم النافع, والعمل الصالح, فقال تعالى: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه, وقد ذكر ابن عباس عن ابن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة, فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب, قال محمد بن إسحاق: فكان من سبط روبيل شامون بن ركون, ومن سبط شمعون شافاط بن حري, ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا, ومن سبط أتين ميخائيل بن يوسف, ومن سبط يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون, ومن سبط بنيامين فلطم بن دفون ومن سبط زبولون جدي بن شورى ومن سبط منشأ بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان خملائيل بن حمل ومن سبط أشار ساطور بن ملكيل, ومن سبط نفثالي بحر بن وقسي, ومن سبط يساخر لايل بن مكيد .
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق, والله أعلم, قال فيها: فعلى بني روبيل اليصور بن سادون, وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي, وعلى بني يهوذا الحشون بن عمياذاب, وعلى بني يساخر شال بن صاعون, وعلى بني زبولون الياب بن حالوب, وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهور, وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون, وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون, وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي, وعلى بني أشار نحايل بن عجران, وعلى بني كان السيف بن دعواييل, وعلى بني نفتالي أجذع بن عمينان .
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة, كان فيهم اثنا عشر نقيباً: ثلاثة من الأوس: وهم أسيد بن الحضير, وسعد بن خيثمة, ورفاعة بن عبد المنذر, ويقال بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه, وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة, وسعد بن الربيع, وعبد الله بن رواحة, ورافع بن مالك بن العجلان, والبراء بن معرور, وعبادة بن الصامت, وسعد بن عبادة, وعبد الله بن عمرو بن حرام, والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم, وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له, كما أورده ابن إسحاق رحمه الله, والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك, وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي, عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن, فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن, هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك, ثم قال: نعم, ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي, فسألت أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم. ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم, ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم, بل وقد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر, وعمر, وعثمان, وعلي, رضي الله عنهم, ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس, ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة, والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره, فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه, فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً, وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا, فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية, بل هو من هوس العقول السخيفة, وتوهم الخيالات الضعيفة, وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم .
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام, وإن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً, وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة, وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر, فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى: "وقال الله إني معكم" أي بحفظي وكلاءتي ونصري "لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي" أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي, "وعزرتموهم" أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق "وأقرضتم الله قرضاً حسناً" وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته, "لأكفرن عنكم سيئاتكم" أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها, "ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود .
وقوله "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده, وعامله معاملة من لا يعرفه, فقد أخطأ الطريق الواضح, وعدل عن الهدى إلى الضلال, ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده, فقال "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم, أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى , "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها, "يحرفون الكلم عن مواضعه" أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله, وتأولوا كتابه على غير ما أنزله, وحملوه على غير مراده, وقالوا عليه مالم يقل, عياذاً بالله من ذلك, "ونسوا حظاً مما ذكروا به" أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها, وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة, فلا قلوب سليمة, ولا فطر مستقيمة, ولا أعمال قويمة, "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك . وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم "فاعف عنهم واصفح" وهذا هو عين النصر والظفر, كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه, وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق, ولعل الله أن يهديهم, ولهذا قال تعالى: "إن الله يحب المحسنين" يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية (فاعف عنهم واصفح) منسوخة بقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية .
وقوله تعالى: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم" أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسوا كذلك, أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومناصرته, ومؤازرته, واقتفاء آثاره, وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض, ففعلوا كما فعل اليهود, خالفوا المواثيق, ونقضوا العهود, ولهذا قال تعالى: "فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً, ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة, وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً, ويلعن بعضهم بعضاً, فكل فرقة تحرم الأخرى, ولا تدعها تلج معبدها, فالملكية تكفر اليعقوبية, وكذلك الآخرون, وكذلك النسطورية والآريوسية, كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, ثم قال تعالى: "وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله, وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً, من جعلهم له صاحبة وولداً, تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
قوله: 14- "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم" أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. قال الأخفش: هو كقولك أخذت من زيد ثوبه ودرهم، فرتبة الذين بعد أخذنا. وقال الكوفيون بخلافه، وقيل إن الضمير في قوله: "ميثاقهم" راجع إلى بني إسرائيل: أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل، وقال: "من الذين قالوا إنا نصارى" ولم يقل ومن النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله. قوله: "فنسوا حظاً مما ذكروا به" أي نسوا من الميثاق المأخوذ عليهم نصيباً وافراً عقب أخذه عليهم "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" أي ألصقنا ذلك بهم، مأخوذ من الغراء: وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال غرى بالشيء يغري غرياً بفتح الغين مقصوراً، وغراء بكسرها ممدوداً: أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقاً به، ومثل الإغراء التحرش، وأغريت الكلب: أي أولعته بالصيد، والمراد بقوله: "بينهم" اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعاً، وقيل بين النصارى خاصة، لأنهم أقرب مذكور، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكفر بعضهم بعضاً، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم. قال النحاس: وما أحسن ما قيل في معنى "أغرينا بينهم العداوة والبغضاء" إن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها. قوله: "وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" تهديد لهم: أي سيلقون جزاء نقض الميثاق.
وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: أخذ مواثيقهم بأن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره "وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" أي كفيلاً كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "اثني عشر نقيباً" قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يافنة، فإنهما أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما، فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك، فضرب موسى الحجر لكل سبط عيناً حجراً لهم يحملونه معهم، فقال لهم موسى: اشربوا يا حمير، فنهاه الله عن سبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "اثني عشر نقيباً" قال: هم من بين إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل، فقال: اقدروا قوة قوم وبأسهم وهذه فاكهتهم، فعند ذلك فتنوا فقالوا: لا نستطيع القتال "فاذهب أنت وربك فقاتلا" وقد ذكر ابن إسحاق أسماء هؤلاء الأسباط، وأسماؤهم مذكورة في السفر الرابع من التوراة، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعزرتموهم" قال: أعنتموهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وعزرتموهم" قال: نصرتموهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فبما نقضهم ميثاقهم" قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "يحرفون الكلم عن مواضعه" يعني حدود الله، يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ونسوا حظاً مما ذكروا به" قال: نسوا الكتاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم حائطهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: كذب وفجور، وفي قوله: "فاعف عنهم واصفح" قال: لم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح ثم نسخ ذلك في براءة فقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله: "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" قال: أغرى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين.
14-قوله عز وجل :" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم "، قيل: أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى بذكر أحدهما ، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة لأنه قد تقدم ذكر اليهود ، وقال الحسن : فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى ، أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة، " فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة "، بالأهواء المختلفة والجدال في الدين، قال مجاهد و قتادة : يعني بين اليهود والنصارى، وقال قوم: هم النصارى وحدهم صاروا فرقاً منهم اليعقوبية والنسطورية و الملكانية، و كل فرقة تكفر الأخرى، " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " في الآخرة.
14" ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم " أي وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم، وقيل تقديره ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا، وإنما قال قالوا إنا نصارى ليدل على أنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله سبحانه وتعالى. " فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا " فألزمنا من غري بالشيء إذا لصق به. " بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " بين فرق النصارى، وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية أو بينهم وبين اليهود. " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " بالجزاء والعقاب.
14. And with those who say: "Lo! we are Christians," We made a covenant, but they forgot a part of that whereof they were admonished. Therefor We have stirred up enmity and hatred among them till the Day of Resurrection, when Allah will inform them of their handiwork.
14 - From those, too, who call themselves Christians, we did take a covenant, but they forgot a good part of the message that was sent them: so we estranged them, with enmity and hatred between the one and the other, to the day of judgment. and soon will God show them what it is they have done.