14 - (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) كعذابكم
و قوله " لا تدعوا اليوم " أيها المشركون ندما واحدا : أي مرة واحدة ، و لكن ادعوا ذلك كثيرا ، و إنما قيل " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا " لأن الثبور مصدر ، و المصادر لا تجمع ، و إنما توصف بامتداد وقتها و كثرتها ، كما يقال : قعد قعودا طويلا ، و أكل أكلا كثيرا .
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، قال : ثنا علي بن زيد ، عن أنس بن مالك ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ، ويسحبها من خلفه ، و ذريته من خلفه ، و هو يقول : يا ثبوراه ، و هم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار ، و هو يقول : يا ثبوراه ، وهم ينادون يا ثبورهم فيقال " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " " .
قوله تعالى : " لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً " فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة . قال : ثبوراً لأنه مصدر يقع للقيل والكثير ولذلك لم يجمع ، وهو كقولك : ضربته ضرباً كثيراً ، وقعد قعوداً طويلاً . ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه .
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم, وإنما تعللوا بقولهم " مال هذا الرسول يأكل الطعام " يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج إليه "ويمشي في الأسواق" أي يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب والتجارة "لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً" يقولون: هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهداً على صدق ما يدعيه, وهذا كما قال فرعون " فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين " وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم, ولهذا قالوا "أو يلقى إليه كنز" أي علم كنز ينفق منه "أو تكون له جنة يأكل منها" أي تسير معه حيث سار, وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً" قال الله تعالى: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا" أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر, وكلها أقوال باطلة, كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك, ولهذا قال "فضلوا" عن طريق الهدى "فلا يستطيعون سبيلاً" وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى, فإنه ضال حيثما توجه, لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً.
ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه إن شاء لاتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن, فقال "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك" الاية, قال مجاهد : يعني في الدنيا, قال: وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصراً كبيراً كان أو صغيراً, قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة : " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك, ولا نعطي أحداً من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله, فقال : اجمعوها لي في الاخرة" فأنزل الله عز وجل في ذلك "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك" الاية.
وقوله "بل كذبوا بالساعة" أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً لا أنهم يطلبون ذلك تبصراً واسترشاداً بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال "وأعتدنا" أي أرصدنا "لمن كذب بالساعة سعيراً" أي عذاباً أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم. قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير "السعير" واد من قيح جهنم. وقوله "إذا رأتهم" أي جهنم "من مكان بعيد" يعني في مقام المحشر. قال السدي : من مسيرة مائة عام "سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" أي حنقاً عليهم, كما قال تعالى: " إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ " أي يكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله.
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا إدريس بن حاتم بن الأحنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير , عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال رسول الله: من يقل علي ما لم أقل, أو ادعى إلى غير والديه, أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ـ وفي رواية ـ فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً . قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : أما سمعتم الله يقول "إذا رأتهم من مكان بعيد" الاية " , ورواه ابن جرير عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي , حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم , فمروا على حداد, فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار, ونظر الربيع بن خيثم إليها, فتمايل الربيع ليسقط, فمر عبد الله على أتون على شاطىء الفرات, فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه, قرأ هذه الاية "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" فصعق, يعني الربيع , وحملوه إلى أهل بيته, فرابطه عبد الله إلى الظهر, فلم يفق رضي الله عنه.
وحدثنا أبي , حدثنا عبد الله بن رجاء , حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير, ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف, هكذا رواه ابن أبي حاتم بأسناده مختصراً, وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي , حدثنا عبيد الله بن موسى , أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض, فيقول لها الرحمن: ما لك ؟ قالت: إنه يستجير مني, فيقول: أرسلوا عبدي, وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك, فيقول: فما كان ظنك ؟ فيقول: أن تسعني رحمتك, فيقول: أرسلوا عبدي, وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير, وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف, وهذا إسناد صحيح.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله "سمعوا لها تغيظاً وزفيراً" قال: إن جهنم لتزفر زفرة لايبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه ترتعد فرائصه, حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: رب لاأسألك اليوم إلا نفسي. وقوله " وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين " قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح, أي من ضيقه, وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, " أنه سئل عن قول الله "وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين" قال : والذي نفسي بيده, إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط " .
وقوله "مقرنين" قال أبو صالح : يعني مكتفين "دعوا هنالك ثبوراً" أي بالويل والحسرة والخيبة " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا " الاية. روى الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أول من يكسى حلة من النار إبليس, فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده, وهو ينادي ياثبوراه, وينادون ياثبورهم حتى يقفوا على النار, فيقول يا ثبوراه ويقولون ياثبورهم, فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً, وادعوا ثبوراً كثيراً" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به, ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا " الاية, أي لاتدعوا اليوم ويلاً واحداً, وادعوا ويلاً كثيراً, وقال الضحاك : الثبور الهلاك, والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار, كما قال موسى لفرعون " وإني لأظنك يا فرعون مثبورا " أي هالكاً. وقال عبد الله بن الزبعري :
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
فأجيب عليهم بقوله: 14- "لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً" أي فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة: أي اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم، كذا قال الزجاج "وادعوا ثبوراً كثيراً" والثبور مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة هاهنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نسبه، فإنه شيء واحد. والمعنى: لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاءً واحداً وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشد من ذلك لطول مدته وعدم تناهيه، وقيل هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه، ثم وبخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً على لسان رسوله.
فيقال لهم:
14- " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا "، قيل: أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، فادعوا أدعية كثيرة.
14ـ " لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً " أي يقال لهم ذلك . " وادعوا ثبوراً كثيراً " لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته ، أو لأنه يتجدد لقوله تعالى : " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور .
14. Pray not that day for one destruction, but pray for many destructions!
14 - This day plead not for a single destruction: plead for destruction oft repeated!