14 - (وهو الذي سخر البحر) ذلله لركوبه والغوص فيه (لتأكلوا منه لحما طريا) هو السمك (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) هي اللؤلؤ والمرجان (وترى) تبصر (الفلك) السفن (مواخر فيه) تمخر الماء أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة (ولتبتغوا) عطف على لتأكلوا تطلبوا (من فضله) تعالى بالتجارة (ولعلكم تشكرون) الله على ذلك
يقول تعالى ذكره : والذي فعل هذه الأفعال بكم ، وأنعم عليكم ، أيها الناس هذه النعم : الذي سخر لكم البحر ، وهو كل نهر ، ملحاً كان ماؤه أو عذباً "لتأكلوا منه لحما طريا" وهو السمك الذي يصطاد منه "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" وهو اللؤلؤ والمرجان .
كما حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا" قال : منهما جميعاً "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" قال : هذا اللؤلؤ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "لتأكلوا منه لحما طريا" يعني حيتان البحر .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال :حدثنا حماد ، عن يحيى ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر ، فقال : هل في حلي النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال الله تعالى "حلية تلبسونها وترى الفلك" يعني : السفن "مواخر فيه" وهي جمع ماخرة .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله "مواخر" فقال بعضهم : الواخر : المواقر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن موسى القزاز ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال :حدثنا يونس ، عن الحسن ، في قوله "وترى الفلك مواخر فيه" ، قال : المواقر .
وقال آخرون في ذلك ، ما :
حدثنا به عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ،عن أبي بكر الأصم ، عن عكرمة ، في قوله "وترى الفلك مواخر فيه" قال : ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء ، فهو المواخر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، في قوله "وترى الفلك مواخر فيه" قال : هي السفينة تقول بالماء هكذا ، يعني تشقه .
وقال آخرون فيه بما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وترى الفلك مواخر فيه" قال: تمخر السفينة الرياح ،ولا تمخر الريح من السفن ، إلا الفلك العظام .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال :حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعاً ،عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه ، غير أن الحارث قال في حديثه : ولا تمخر الرياح من السفن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ،في قوله "مواخر" قال : تمخر الريح .
وقال آخرون فيه ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "وترى الفلك مواخر فيه" تجري بريح واحدة ، مقبلة ومدبرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : تجري مقبلة ومدبرة بريح واحدة .
حدثنا المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن إبراهيم ، قال : سمعت الحسن : "وترى الفلك مواخر فيه" قال : مقبلة ومدبرة بريح واحد . والمخر في كلام العرب : صوت هبوب الريح ، إذا اشتد هبوبها ، وهو في هذا الموضع : صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها ، يقال منه : مخرت السفينة تمخر مخراً ومخوراً ، وهي ماخرة ، ويقال : امتخرت الريح وتمخرتها : إذا نظرت من أين هبوبها ، وتسمعت صوت هبوبها . ومنه قول واصل مولى ابن عيينة : كان يقال : إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ، يريد بذلك : لينظر من أين مجراها وهبوبها ليستدبرها فلا ترجع عليه البول وترده عليه .
وقوله : "ولتبتغوا من فضله" يقول تعالى ذكره : ولتتصرفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم .
كما حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ولتبتغوا من فضله" قال : تجارة البر والبحر .
وقوله : "ولعلكم تشكرون" يقول : ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك ، سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عددها في هذه الآيات .
فيه تسع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: " وهو الذي سخر البحر " تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده. وسماه هنا لحماً واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الأربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلاً، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلاً وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلاً. وقال ابو حنيفة : اللحوم كلها أصناف مختلفة كأصولها، فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الإبل صنف، وكذلك الوحش مختلف، وكذلك الطير، وكذلك السمك، وهو أحد قولي الشافعي . والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الأول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال: " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " ( الأنعام: 143) ثم قال: " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " ( الأنعام: 144) فلما أن أم بالجميع إلى اللحم قال: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ( المائدة: 1) فجمعها بلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز. وقال في موضع آخر: " ولحم طير مما يشتهون " ( الواقعة: 21) وهذا جمع طائر الذي هو الواحد، لقوله تعالى: " ولا طائر يطير بجناحيه " ( الأنعام: 38) فجمع لحم الطير كله باسم واحد. وقال هنا: ( لحما طريا) فجمع أصناف السمك بذكر واحد، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما. وقد روي عن ابن عمر أنه سئل عن لحم المعز بلحم الكباش أشيء واحد؟ فقال لا، ولا مخالف له فصار كالإجماع، والله أعلم. ولا حجة للمخالف في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل، فإن الطعام في الإطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم، ألا ترى أن القائل إذا قال: أكلت اليوم طعاماً لم يسبق الفهم منه إلى أكل اللحم، وأيضاً فإنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وهذا جنسان، وأيضاً فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم الطير متفاضلاً لا لعلة أنه بيع طعام لا زكاة له بيع بلحم ليس فيه الزكاة، كذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلاً.
الثانية - وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلاً. وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر.
الثالثة - اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحماً، فقال ابن القاسم: يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة: لا يحنث إلا بكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره، مراعاة للعرف والعادة، وتقديماً لها على إطلاق اللفظ اللغوي، وهو أحسن.
الرابعة - قوله تعالى: " وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " يعني به اللؤلؤ والمرجان، لقوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " ( الرحمن: 22). وإخراج الحلية إنما هي فيما عرف من الملح فقط. ويقال: إن في الزمرد بحريا. وقد خطيء الهذلي في قوله في وصف الدرة:
فجاء بها من درة لطمية على وجهها ماء الفرات يدوم
فجعلها من الماء الحلو. فالحلية حق وهي نحلة الله تعالى لآدم وولده. خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذي ورثه عنه سليمان بن داود صلوات الله عليهم، وكان يقال له خاتم العز فيما روي.
الخامسة - امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتناناً عاماً بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير. روى الصحيح عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تلبسو الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ". وسيأتي في سورة ( الحج) الكلام فيه إن شاء الله. وروى البخاري عن ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، وجعل فصه مما يلي باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: لا ألبسه أبداً ثم اتخذ خاتماً من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس. قال أبو داود: لم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده. وأجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال. قال الخطابي : وكره للنساء التختم بالفضة، لأنه من زي الرجال، فإن لم يجدن ذهباً فليصفرنه بزعفران أو بشبهه. وجمهور العلماء من السلف والخلف على تحريم اتخاذ الرجال خاتم الذهب، إلا ما روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن وخباب، وهو خلاف شاذ، وكل منهما لم يبلغهما النهي والنسخ. والله أعلم. وأما ما رواه أنس بن مالك: " أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم - أخرجه الصحيحان و اللفظ للبخاري - فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب، لأن الذي نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. رواه عبد العزيز بن صهيب وثابت وقتادة عن أنس، وهو خلاف ما روى ابن شهاب عن أنس فوجب القضاء بالجماعة على الواحد إذا خالفها، مع يشهد للجماعة من حديث ابن عمر.
السادسة - إذا ثبت جواز التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلي به، فقد كره ابن سيرين وغيره من العلماء نقشه وأن يكون فيه ذكر الله. وأجاز نقشه جماعة من العلماء. ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله، فهل يدخل به الخلاء ويستنجي بشماله؟ خففه سعيد بن المسيب ومالك. قيل لمالك : إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجي به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفاً. وروي عنه الكراهة وهو الأولى. وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه. وقد روى همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ". قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه. قال أبو داود: لم يحدث بهذا إلا همام.
السابعة - روى البخاري عن أنس بن مالك: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه محمد رسول الله وقال: إني اتخذت خاتماً من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه ". قال علماؤنا: فهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. قال مالك : ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم، ونهيه عليه السلام: لا ينقشن أحد على نقش خاتمه، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه. وروى أهل الشام أنه لا يجوز اتخاذ الخاتم لغير ذي سلطان. وروي في ذلك حديثاً عن أبي ريحانة، وهو حديث لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: " لا ينقشن أحد على نقشه " يرده، ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس، إذا لم ينقش على نقش خاتمه. وكان نقش خاتم الزهري ( محمد يسأل الله العافية). وكان نقش خاتم مالك ( حسبي الله ونعم الوكيل). وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول أن نقش خاتم موسى عليه السلام ( لكل أجل كتاب) وقد مضى في الرعد. وبلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتماً بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتماً بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتماً من حديد بدرهم، واكتب عليه ( رحم الله أمرأ عرف قدر نفسه).
الثامنة - من حلف ألا يلبس حلياً فلبس لؤلؤا لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة . قال ابن خويز منداد: لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان تخص بالعرف، ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وغن كان الله تعالى قد سمي الأرض فراشاً والشمس سراجاً. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: من حلف ألا يلبس حلياً ولبس اللؤلؤ فإنه يحنث، لقوله تعالى: " وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " ( النحل: 14) والذي يخرج منه: اللؤلؤ والمرجان.
التاسعة - قوله تعالى: " وترى الفلك مواخر فيه " قد تقدم ذكر الفلك وركوب البحر في ( البقرة) وغيرها. وقوله: " مواخر " قال ابن عباس: جواري، من جرت تجري. سعيد بن جبير: معترضة. الحسن: مواقر. قتادة و الضحاك : أي تذهب وتجيء، مقبلةً ومدبرة بريح واحدة. وقيل: ( مواخر) ملججة في داخل البحر، وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال. مخرت السفينة تمخر وتمخر مخراً ومخوراً إذا جرت تشق الماء مع صوت، ومنه قوله تعالى: " وترى الفلك مواخر فيه " يعني جواري. قال الجوهري : ومخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض شقها للزراعة، ومخرها بالماء إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة، أي خليقةً بجودة نبات الزرع. وقال الطبري : المخر في اللغة صوت هبوب الريح، ولم يقيد كونه في ماء، وقال: إن من ذلك قول واصل مولى أبي عيينة: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله. " ولتبتغوا من فضله " أي ولتركبوا للتجارة وطلب الربح. " ولعلكم تشكرون " تقدم جميع هذا في ( البقرة) والحمد لله.
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج, ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه, وجعله السمك والحيتان فيه, وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والإحرام, وما يخلقه فيه من اللالىء والجواهر النفيسة, وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها, وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه, وقيل تمخر الرياح, وكلاهما صحيح, وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم ـ الذي أرشد العباد إلى صنعتها وهداهم إلى ذلك إرثاً عن أبيهم نوح عليه السلام, فإنه أول من ركب السفن, وله كان تعليم صنعتها, ثم أخذها الناس عنه قرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, يسيرون من قطر إلى قطر, ومن بلد إلى بلد, ومن إقليم إلى إقليم, لجلب ما هناك إلى ما هنا, وما هنا إلى ما هناك, ولهذا قال تعالى: "ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" أي نعمه وإحسانه.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه, عن أبي هريرة قال: كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي, فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عباداً من عبادي, فكيف أنت صانع فيهم ؟ قال: أغرقهم, فقال: بأسك في نواحيك, وأحملهم على يدي, وحرمت الحلية والصيد, وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عباداً من عبادي فما أنت صانع بهم ؟ فقال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها, فأثابه الحلية والصيد, ثم قال البزار: لا نعلم من رواه عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو, وهو منكر الحديث. وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمر موقوفاً.
ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات, والجبال الراسيات, لتقر الأرض ولا تميد, أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك, ولهذا قال: "والجبال أرساها" وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة, سمعت الحسن يقول: لما خلقت الأرض كانت تميد, فقالوا: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً, فأصبحوا وقد خلقت الجبال, فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور, فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحت صبحاً وفيها رواسيها. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثني حجاج بن منهال, حدثنا حماد عن عطاء بن السائب, عن عبد الله بن حبيب, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث ؟ قال: فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون, فكان إقرارها كاللحم يترجرج.
وقوله: "وأنهاراً وسبلاً" أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى مكان آخر رزقاً للعباد, ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر, فيقطع البقاع والبراري والقفار, ويخترق الجبال والاكام, فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة, وجنوباً وشمالاً. وشرقاً وغرباً, ما بين صغار وكبار, وأودية تجري حيناً وتنقطع في وقت, وما بين نبع وجمع , وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر ويسر, فلا إله إلا هو ولا رب سواه, وكذلك جعل فيها سبلاً أي طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممراً ومسلكاً, كما قال تعالى: "وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً" الاية.
وقوله: "وعلامات" أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك , يستدل بها المسافرون براً وبحراً إذا ضلوا الطرق. وقوله: "وبالنجم هم يهتدون" أي في ظلام الليل, قاله ابن عباس, وعن مالك في قوله: "وعلامات وبالنجم هم يهتدون" يقول: النجوم وهي الجبال, ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً بل هم يخلقون, ولهذا قال: "أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون" ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم, فقال: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم" أي يتجاوز عنكم, ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك, ولو أمركم به لضعفتم وتركتم, ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم, ولكنه غفور رحيم, يغفر الكثير ويجازي على اليسير, وقال ابن جرير: يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته, رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.
14- "وهو الذي سخر البحر" امتن الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة، وتكميلاً للإنذار، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: "لتأكلوا منه لحماً طرياً" المراد به السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" أي لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" وظاهر قوله "تلبسونها" أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان: أي يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله "تلبسونها" بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهن، وقد ورد الشرع بمنعه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان "وترى الفلك مواخر فيه" أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها. ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل مواخر: جواري، وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجيء، وقيل ملججة. قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء "ولتبتغوا من فضله" معطوف على تستخرجوا، وما بينهما اعتراض، أو علة على محذوفة تقديره لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا: أي لتتجروا فيه فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه "ولعلكم تشكرون" أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان. قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.
14. " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا" يعني: السمك، " وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" يعني: اللؤلؤ والمرجان،" وترى الفلك مواخر فيه" جواري.
قال قتادة مقبلة ومدبرة، وهو أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر،تجريان بريح واحدة.
وقال الحسن: ((مواخر))أي مملوءة.
وقال الفراء والأخفش شواق تشق الماء بجناحيها .
قال مجاهد: تمخر السفن الرياح .
وأصل ألمخر: الرفع والشق، وفي الحديث "إذا أراد احدكم البول فليستمخر الريح "أي: لينظر من أين مجراها وهبوبها، فليستدبرها حتى لا برد عليه البول.
وقال أبو عبيده: صوائخ،والمخر: صوت هبوب الريح عند شدتها.
" ولتبتغوا من فضله" يعني: التجارة، " ولعلكم تشكرون"،إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم.
14."وهو الذي سخر البحر"جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص."لتأكلوا منه لحماً طرياً"هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله ، ولإظهار قدرته في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق ، وتمسك به مالك والثوريعلى أن من حلف أن لا يأكل لحماً حنث بأكل السمك . وأجيب عنه بأن مبنى الإيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه ."وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها" كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم ، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم ."وترى الفلك"السفن ."مواخر فيه "حواري فيه تشقه بحيزومها. من المخر وهو شق الماء .وقيل صوت حري الفلك."ولتبتغوا من فضله"من سعة رزقه بركوبها للتجارة."ولعلكم تشكرون"أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها،ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سبباً للانتفاع تحصيل المعاش.
14. And He it is Who hath constrained the sea to be of service that ye eat fresh meat from thence, and bring forth from thence ornaments which ye wear. And thou seest the ships ploughing it that ye (mankind) may seek of His bounty, and that haply ye may give thanks.
14 - It is he who has mad the sea subject, that ye may eat thereof flesh that is fresh and tender, and that ye may extract therefrom ornaments to wear; and thou seest the ships therein that plough the waves, that ye may seek (thus) of the bounty of God and that ye may be grateful.