13 - (فبأي آلاء) نعم (ربكما) أيها الإنس والجن (تكذبان) ذكرت إحدى وثلاثين مرة والاستفهام فيها للتقرير لما روى الحاكم عن جابر قال قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال مالي أراكم سكوتا للجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا ولابشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد
يعني تعالى ذكره بقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " : فبأي نعم ربكما معشر الجن والإنس من هذه النعم تكذبان .
كما حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سهل السراج عن الحسن " فبأي آلاء ربكما تكذبان " فبأي نعمة ربكما تكذبان .
قال عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قال : لا بأيتها يا رب .
حدثنا محمد بن عباد بن موسى و عمرو بن مالك النضري قالا : ثنا يحيى بن سليمان الطافي عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال ما لي أسمع الجن أحسن جواباً لربها منكم ؟ قالوا ماذا يا رسول الله ؟ قال : ما أتيت على قول الله : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلا قالت الجن :لا بشيء من نعمة ربنا نكذب " .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يقول : فبأي نعمة الله تكذبان .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يقول للجن والإنس : بأي نعم الله تكذبان .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن الأعمش وغيره عن مجاهد عن ابن عباس انه كان إذا قرأ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قال : لا بأيتها ربنا .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قال : الآلا : القدرة فبأي آلائه تكذب خلقكم كذا وكذا فبأي قدرة الله تكذبان أيها الثقلان الجن والإنس .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " فخاطب اثنين وإنما ذكر في أول الكلام واحد وهو الإنسان قيل : عاد بالخطاب في قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلى الإنسان والجان
قوله تعالى " فبأي آلاء ربكما تكذبان " خطاب للإنس والجن لأن الأنام واقع عليهما ، وهذا قول الجمهور يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة وخرجه الترمذي وفيه "للجن أحسن منكم ردا" وقيل لما قال "خلق الإنسان" و"خلق الجان" دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما . وأيضا قال "سنفرغ لكم أيها الثقلان "وهو خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة : "يا معشر الجن والإنس "وقال الجرجان: خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر كقوله تعالى " حتى توارت بالحجاب " وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن ، والقرآن كالسورة الواحدة فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات وقيل الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية حسب ما تقدم من القول في " ألقيا في جهنم " وكذلك قوله
قفا نبك
و خليلي مرا بي
فأما ما بعد " خلق الإنسان "و"خلق الجان " فإنه خطاب للإنس والجن والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى " والأرض وضعها للأنام " والآلاء النعم وه وقول جميع المفسرين ، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال وفي واحد " آناء الليل " ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام ، وقد مضى في الأعراف والنجم . وقال ابن زيد إنها القدرة وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان وقاله الكلبيواختاره الترمذي محمد بن علي وقال هذه السورة من بين سور علم القرآن والعلم إمام الجند والجند تتبعه ، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة فقال : " الرحمن * علم القرآن " فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال " الرحمن * علم القرآن " ثم ذكر الإنسان فقال " خلق الإنسان " ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به ، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذين الثقلين الجن والإنس حين رأوى ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان وكل معبدود اتخذوه من دونه وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم فقال سائلا لهم : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي بأي قدرة ربكما تكذبان فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه ويقدر معه فذلك تكذيبهم ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال وذكر خلق الجان من مارج من نار ، ثم سألهم فقال : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي بأي قدرة ربكما تكذبان فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق ، وقال القتبي : إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا ؟ ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا ؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا والتكرير حسن في مثل هذا قال :
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة إياك من دمة إياك إياك
وقال آخر
لا تقطعن الصديق ما طرفت عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته زره وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل : التكرير طردا للغفلة وتأكيدا للحجة .
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن, ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى: " الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان " قال الحسن: يعني النطق, وقال الضحاك وقتادة وغيرهما: يعني الخير والشر, وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن, وهو أداء تلاوته, وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها. وقوله تعالى: "الشمس والقمر بحسبان" أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" وقال تعالى: "فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم".
وعن عكرمة أنه قال: لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد, ثم كشف حجاباً واحداً من سبعين حجاباً دون الشمس, لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي, ونور الكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش, ونور العرش جزء من سبعين جزءاً من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عياناً, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: "والنجم والشجر يسجدان" قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله والنجم بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق, فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض يعني من النبات, وكذا قال سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري, وقد اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى. وقال مجاهد: النجم الذي في السماء. وكذا قال الحسن وقتادة, وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لقوله تعالى: "ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس" الاية.
وقوله تعالى: "والسماء رفعها ووضع الميزان" يعني العدل كما قال تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" وهكذا قال ههنا: " أن لا تطغوا في الميزان " أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل. ولهذا قال تعالى: "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط كما قال تعالى: "وزنوا بالقسطاس المستقيم" وقوله تعالى: "والأرض وضعها للأنام" أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات, لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام الخلق "فيها فاكهة" أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح "والنخل ذات الأكمام" أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً, والأكمام قال ابن جريج عن ابن عباس: هي أوعية الطلع وهكذا قال غير واحد من المفسرين, وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود, فيكون بسراً ثم رطباً ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمرو بن علي الصيرفي, حدثنا أبو قتيبة, حدثنا يونس بن الحارث عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير, تخرج مثل آذان الحمير ثم تشقق مثل اللؤلؤ, ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر, ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر, ثم تينع فتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل, ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر, فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة, فكتب إليه عمر بن الخطاب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم, إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا, وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها, فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين" وقيل: الأكمام رفاتها وهو الليف الذي على عنق النخلة, وهو قول الحسن وقتادة.
"والحب ذو العصف والريحان" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "والحب ذو العصف" يعني التبن. وقال العوفي عن ابن عباس: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه, فهو يسمى العصف إذا يبس, وكذا قال قتادة والضحاك وأبو مالك عصفه تبنه. وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: والريحان يعني الورق. وقال الحسن: هو ريحانكم هذا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: والريحان خضر الزرع, ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف, وهو ما على السنبلة, وريحان وهو الورق الملتف على ساقها. وقيل: العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلاً والريحان الورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب, كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منـــه حبـــه في رؤوســــه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله تعالى: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" أي فبأي الالاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان ؟ قاله مجاهد وغير واحد, ويدل عليه السياق بعده, أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها, فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به: اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب, فلك الحمد. وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أي لا نكذب بشيء منها, قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون "فبأي آلاء ربكما تكذبان".
13- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" الخطاب للجن والإنس، لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل. وبهذا قال الجمهور من المفسرين: ويدل عليه قوله فيما سيأتي: "سنفرغ لكم أيها الثقلان" ويدل على هذا ما قدمنا في فاتحة هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الجن والإنس، وقيل الخطاب للإنس، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية كما قدمنا في قوله: "ألقيا في جهنم" والآلاء النعم. قال القرطبي: وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى مثل معى وعصا. وقال ابن زيد: إنها القدرة: أي فبأي قدرة ربكما تكذبان، وبه قال الكلبي. وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها على عادة العرب في الاتساع. قال القتيبي: إن الله عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها كما تقول لمن تتابع له إحسانك، وهو يكفره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكرهذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، ومنه قول الشاعر:
لا تقتلي رجلاً إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك
قال الحسين بن الفضل: التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة.
13. " فبأي آلاء ربكما تكذبان "، أيها الثقلان، يريد من هذه الأشياء المذكرة. وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريراً للنعمة وتأكيداً في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع، يعدد على الخلق آلاه، ويفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملاً؟ فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا التكرير شائع في كلام العرب حسن تقريراً.
وقيل: خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب تخاطب الواحد بلفظ التثنية كقوله تعالى: " ألقيا في جهنم " (ق-24).
وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله "قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: مالي أراكم سكوتاً للجن [كانوا] أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلا قالوا: ولا بشيء من نعمتك ربنا نكذب، فلك الحمد ".
13-" فبأي آلاء ربكما تكذبان " الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله : " للأنام " وقوله : " أيها الثقلان" .
13. Which is it, of the favors of your Lord, that ye deny?
13 - Then which of the favours of your Lord will ye deny?