13 - فنقضوا الميثاق قال تعالى: (فبما نقضهم) ما زائدة (ميثاقهم لعناهم) أبعدناهم عن رحمتنا (وجعلنا قلوبهم قاسية) لا تلين لقبول الإيمان (يحرفون الكلم) الذي في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وغيره (عن مواضعه) التي وضعه الله عليها أي يبدلونه (ونسوا) تركوا (حظا) نصيبا (مما ذكروا) أمروا (به) في التوراة من اتباع محمد (ولا تزال) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم (تطلع) تظهر (على خائنة) أي خيانة (منهم) بنقض العهد وغيره (إلا قليلا منهم) ممن أسلم (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وهذا منسوخ بآية السيف
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم، غدراً منهم بك وبأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم، ومن ذلك أني أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيباً قد تخيروا من جميعهم ليتحسسوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصر عليهم، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العبر والآيات -بإهلاك فرعون وقومه في البحر، وفلق البحر لهم، وسائر العبر- ما أريتهم، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني، ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم. فإذ كان ذلك من فعل خيارهم، مع أيادي عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أراذلهم.
وفي الكلام محذوف، اكتفي بدلالة الظاهر عليه . وذلك أن معنى الكلام : "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل"- فنقضوا الميثاق ، فلعنتهم، "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم"، فاكتفى بقوله: "فبما نقضهم ميثاقهم" من ذكر فنقضوا.
ويعني بقوله جل ثناؤه: "فبما نقضهم ميثاقهم"، فبنقضهم ميثاقهم، كما قال قتادة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم"، يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : "فبما نقضهم ميثاقهم"، قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه.
وقد ذكرنا معنى اللعن في غير هذا الموضع.
والهاء والميم من قوله: "فبما نقضهم"، عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: "قاسية" بالألف.
على تقدير فاعلة من قسوة القلب، من قول القائل: قسا قلبه، فهو يقسو، وهو قاس، وذلك إذا غلظ واشتد وصار يابساً صلباً، كما قال الراجز:
وقد قسوت وقست لداتي
فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل ، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني، "وجعلنا قلوبهم قاسية"، غليظة يابسةً عن الإيمان بي ، والتوفيق لطاعتي ، منزوعةً منها الرأفة والرحمة.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: وجعلنا قلوبهم قسيةً.
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك معنى القسوة، لأن فعيلة، في الذم أبلغ من فاعلة، فاخترنا قراءتها قسية على "قاسية"، لذلك.
وقال آخرون منهم: بل معنى قسية غير معنى القسوة، وإنما القسية في هذا الموضع: القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله ، ولكن يخالط إيمانها كفر، كالدراهم القسية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك، كما قال أبو زبيد الطائي:
لها صواهل في صم السلام، كما صاح القسيات في أيدي الصياريف
يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي السلام.
قال أبو جعفر: وأعجب القراءتين إلي في ذلك، قراءة من قرأ: وجعلنا قلوبهم قسيةً، على فعيلة، لأنها أبلغ في ذم القوم من "قاسية". وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله: فعيلة من القسوة، كما قيل: نفس زكية و زاكية، وامرأة شاهدة و شهيدة، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان ، فتكون قلوبهم موصوفة بان إيمانها يخالطه كفر، كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش.
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره : وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية، منزوعاً منها الخير، مرفوعاً منها التوفيق ، فلا يؤمنون ولا يهتدون ، فهم لنزع الله عز وجل التوفيق من قلوبهم والإيمان، يحرفون كلام ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فيبدلونه، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جل وعز على نبيهم، ثم يقولون لجهال الناس: هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أوحاها إليه. وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود، ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم ، إذ كانوا من أبنائهم ، وعلى منهاجهم في الكذب على الله ، والفرية عليه ، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله: "يحرفون الكلم عن مواضعه"، يعني : حدود الله في التوراة، ويقولون : إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا.
يعني تعالى ذكره بقوله: "ونسوا حظا"، وتركوا نصيباً، وهو كقوله : "نسوا الله فنسيهم" [التوبة: 67]، أي: تركوا أمر الله فتركهم الله.
وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "ونسوا حظا مما ذكروا به"، يقول : تركوا نصيباً.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: "ونسوا حظا مما ذكروا به"، قال: تركوا عرى دينهم ، ووظائف الله جل ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها...
قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا محمد، تطلع من اليهود، الذين أنبأتك نبأهم، من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم عهدي ، مع أيادي عندهم ، ونعمتي عليهم -على مثل ذلك من الغدر والخيانة- "إلا قليلا منهم"، إلا قليلاً منهم لم يخونوا.
والخائنة في هذا الموضع: الخيانة، وضع -وهو اسم- موضع المصدر، كما قيل: خاطئة، للخطيئة ، و قائلة للقيلولة.
وقوله: "إلا قليلا منهم"، استثناء من الهاء والميم اللتين في قوله: "على خائنة منهم".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، قال : على خيانة وكذب وفجور.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، قال: هم يهود، مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج، قال مجاهد وعكرمة قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، من يهود، مثل الذي هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم.
وقال بعض القائلين: معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم. قال: والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر، كقولهم : هو راوية للشعر ، و رجل علامة، وأنشد:
حدثت نفسك بالوفاء، ولم تكن للغدر خائنةً مغل الإصبع
فقال: خائنة، وهو يخاطب رجلاً.
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في ذلك، القول الذي رويناه عن أهل التأويل. لأن الله عنى بهذه الآية، القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد هموا به. ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم، وإعلامه منهج أسلافهم ، وأن آخرهم على منهاج أولهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال جل ثناؤه : ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد، ولم يرد أنه لا يزال يطلع على رجل منهم خائن. وذلك أن الخبر ابتدئ به عن جماعتهم فقيل: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، ثم قيل: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، فإذ كان الابتداء عن الجماعة، فالختم بالجماعة أولى.
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله عز ذكره نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله جل وعز له : اعف ، يا محمد، عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرض لمكروههم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه.
وكان قتادة يقول: هذه منسوخة. ويقول : نسختها آية براءة: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، الآية [التوبة: 29].
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فاعف عنهم واصفح"، قال : نسختها: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" [التوبة: 29].
حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثا همام، عن قتادة: "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين"، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في براءة فقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة: 29]، وهم أهل الكتاب ، فأمر الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقروا بالجزية.
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة، نحوه.
قال أبو جعفر: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان نافياً كل معاني خلافه الذي كان قبله ، فأما ما كان غير ناف جميعه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" [التوبة: 29]، دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود.
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جائزاً، مع إقرارهم بالصغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها، أو نكثة عزموا عليها، ما لم ينصبوا حراباً دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الأحكام اللازمتهم، لم يكن واجباً أن يحكم لقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" [التوبة: 29] الآية، بأنه ناسخ قوله: "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين".
قوله تعالى : " فبما نقضهم ميثاقهم " أي فبنقضهم ميثاقهم ما زائدة للتوكيد عن قتادة وسائر أهل العلم وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم ومن جهة تكثر للتوكيد كما قال :
لشيء ما يسود من يسود
فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير " لعناهم " قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ عطاء : أبعدناهم واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة" وجعلنا قلوبهم قاسية " أي صلبة لا تعي خيراً ولا تفعله والقاسية والعاتية بمعنى واحد وقرأ الكسائي وحمزة قسية بتشديد الياء من غير ألف وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب، والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة فمعنى قسمة على هذا ليست بالخالصة الإيمان أي فيها نفقا قال النحاس: وهذا قول حسن، لأنه يقال : درهم قسي إذا كان مغشوشاً بنحاس أو غيره يقال: درهم قسي ( مخفف السين مشدد الياء) مثال شقي أي زائف ذكر ذلك أبوعبيد وأنشد:
لها صواهل في صم السلام كما صاع القسيات في أيدي الصياريف
يصف وقع المساحي في الحجار وقال الأصمعي وأبو عبيد كدرهم قسي كأنه معرب قاشي قال القشيري: وهذا بعيد لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب بل الدرهم القسي من القوة والشدة أيضاً لأن ما قلت نقرته يقسو ويصلب وقرأ الأعمش قسية بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية من قسي يقسى لا من قسا يقسو وقرأ الباقون على وزن فاعلة وهو اختيار أبي عبيد وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزكية قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة فالمعنى : جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كثر كالدراهم القسية التي خالطها غش قال الرجز:
قد قسوت وقست لداتي
"يحرفون الكلم عن مواضعه " أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام وقيل:معناه يبدلون حروفه ويحرفون في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين وقرأ السلمي والنخعي الكلام بالألف وذلك أنههم غيروا صفة مجمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم " ونسوا حظا مما ذكروا به " أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته " ولا تزال تطلع" أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف " على خائنة منهم " والخائنة الخيانة قاله قتادة وهذا جائز في اللغة ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة وقد تقع خائنة للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة فخائنه على هذا للمبالغة يقال رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة قال الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع
قال ابن عباس: على خائنة أي معصية وقيل: كذب وفجور وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه " إلا قليلا منهم " لم يخونوا فهو استثناء متصل من الهاء والميم اللتين في خائنة منهم " فاعف عنهم واصفح " في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل ذمة والقول الآخر أنه منسوخ بآية السيف وقيل: بقوله عز وجل " وإما تخافن من قوم خيانة " [ الأنفال : 58]
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وأمرهم بالقيام بالحق, والشهادة بالعدل, وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى, شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى, فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم, وطرداً عن بابه وجنابه, وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق, وهو العلم النافع, والعمل الصالح, فقال تعالى: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه, وقد ذكر ابن عباس عن ابن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة, فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب, قال محمد بن إسحاق: فكان من سبط روبيل شامون بن ركون, ومن سبط شمعون شافاط بن حري, ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا, ومن سبط أتين ميخائيل بن يوسف, ومن سبط يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون, ومن سبط بنيامين فلطم بن دفون ومن سبط زبولون جدي بن شورى ومن سبط منشأ بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان خملائيل بن حمل ومن سبط أشار ساطور بن ملكيل, ومن سبط نفثالي بحر بن وقسي, ومن سبط يساخر لايل بن مكيد .
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق, والله أعلم, قال فيها: فعلى بني روبيل اليصور بن سادون, وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي, وعلى بني يهوذا الحشون بن عمياذاب, وعلى بني يساخر شال بن صاعون, وعلى بني زبولون الياب بن حالوب, وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهور, وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون, وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون, وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي, وعلى بني أشار نحايل بن عجران, وعلى بني كان السيف بن دعواييل, وعلى بني نفتالي أجذع بن عمينان .
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة, كان فيهم اثنا عشر نقيباً: ثلاثة من الأوس: وهم أسيد بن الحضير, وسعد بن خيثمة, ورفاعة بن عبد المنذر, ويقال بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه, وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة, وسعد بن الربيع, وعبد الله بن رواحة, ورافع بن مالك بن العجلان, والبراء بن معرور, وعبادة بن الصامت, وسعد بن عبادة, وعبد الله بن عمرو بن حرام, والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم, وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له, كما أورده ابن إسحاق رحمه الله, والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك, وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي, عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن, فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن, هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك, ثم قال: نعم, ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي, فسألت أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم. ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم, ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم, بل وقد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر, وعمر, وعثمان, وعلي, رضي الله عنهم, ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس, ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة, والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره, فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه, فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً, وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا, فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية, بل هو من هوس العقول السخيفة, وتوهم الخيالات الضعيفة, وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم .
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام, وإن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً, وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة, وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر, فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى: "وقال الله إني معكم" أي بحفظي وكلاءتي ونصري "لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي" أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي, "وعزرتموهم" أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق "وأقرضتم الله قرضاً حسناً" وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته, "لأكفرن عنكم سيئاتكم" أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها, "ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود .
وقوله "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده, وعامله معاملة من لا يعرفه, فقد أخطأ الطريق الواضح, وعدل عن الهدى إلى الضلال, ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده, فقال "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم, أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى , "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها, "يحرفون الكلم عن مواضعه" أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله, وتأولوا كتابه على غير ما أنزله, وحملوه على غير مراده, وقالوا عليه مالم يقل, عياذاً بالله من ذلك, "ونسوا حظاً مما ذكروا به" أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها, وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة, فلا قلوب سليمة, ولا فطر مستقيمة, ولا أعمال قويمة, "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك . وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم "فاعف عنهم واصفح" وهذا هو عين النصر والظفر, كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه, وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق, ولعل الله أن يهديهم, ولهذا قال تعالى: "إن الله يحب المحسنين" يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية (فاعف عنهم واصفح) منسوخة بقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية .
وقوله تعالى: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم" أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسوا كذلك, أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومناصرته, ومؤازرته, واقتفاء آثاره, وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض, ففعلوا كما فعل اليهود, خالفوا المواثيق, ونقضوا العهود, ولهذا قال تعالى: "فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً, ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة, وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً, ويلعن بعضهم بعضاً, فكل فرقة تحرم الأخرى, ولا تدعها تلج معبدها, فالملكية تكفر اليعقوبية, وكذلك الآخرون, وكذلك النسطورية والآريوسية, كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, ثم قال تعالى: "وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله, وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً, من جعلهم له صاحبة وولداً, تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
قوله: 13- "فبما نقضهم ميثاقهم" الباء سببية وما زائدة، أي فبسبب نقضهم ميثاقهم "لعناهم" أي طردناهم وأبعدناهم "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي صلبة لا تعي خيراً ولا تعقله. وقرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف، وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب، يقال درهم قسي مخفف السين مشدد الياء: أي زائف، ذكر ذلك أبو عبيد. وقال الأصمعي وأبو عبيدة: درهم قسي كأنه معرب قاس. وقرأ الأعمش قسية بتخفيف الياء. وقرأ الباقون: "قاسية". "يحرفون الكلم عن مواضعه" الجملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية: أي يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله. وقرأ السلمي والنخعي الكلام. قوله: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" أي لا تزال يا محمد تقف على خائنة منهم، والخائنة: الخيانة، وقيل هو نعت لمحذوف، والتقدير فرقة خائنة، وقد تقع للمبالغة نحو علامة ونسابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة، وقيل خائنة معصية. قوله: "إلا قليلاً منهم" استثناء من الضمير في "منهم" "فاعف عنهم واصفح" قيل هذا منسوخ بآية السيف، وقيل خاص بالمعاهدين.
13-" فبما نقضهم " أي: فبنقضهم، و " ما " صلة ، " ميثاقهم " ، قال قتادة: نقضوه من وجوه لأنهم كذبوا الرسل الذين جاؤوا بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيعوا فرائضه، " لعناهم " ، قال [عطاء]: أبعدناهم من رحمتنا، قال الحسن و مقاتل : عذبناهم بالمسخ، " وجعلنا قلوبهم قاسية "، قرأ حمزة الكسائي قسية بتشديد الباء من غير ألف، وهما لغتان مثل الذاكية والذكية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قاسية أي يابسة،وقيل:غليظة لا تلين، وقيل معناه:إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق، ومنه الدراهم القاسية وهي الردية المغشوشة.
" يحرفون الكلم عن مواضعه "، قيل : هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : تحريفهم بسوء التأويل، " ونسوا حظاً مما ذكروا به "، أي: وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته، " ولا تزال " ، [يا محمد]، " تطلع على خائنة منهم " ، أي: على خيانة، فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاغية، وقيل: هو بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة مثل [رواية] ونسابة وعلامة وحسابة، وقيل: على فرقة خائنة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: على خائنة أي: على معصية، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه، ونحوهما من خياناتهم التي ظهرت ، " إلا قليلاً منهم " ، لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب ، " فاعف عنهم واصفح "، أي: أعرض عنهم ولا تتعرض لهم ، " إن الله يحب المحسنين "، وهذا منسوخ بآية السيف.
13" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " طردناهم من رحمتنا، أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية. " وجعلنا قلوبهم قاسية " لا تنفعل عن الآيات والنذر. وقرأ حمزة و الكسائي" قاسية " وهي إما مبالغة " قاسية " أو بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشاً، وهي أيضاً من القسوة فإن المغشوش فيه يبس وصلابة وقرئ " قاسية " باتباع القاف للسين. " يحرفون الكلم عن مواضعه " استئناف لبيان قسوة قلوبهم، فإن لا قسوة أشد من تغيير كلام الله سبحانه وتعالى والافتراء عليه، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول " لعناهم " لا من القلوب إذ لا ضمير له فيهز " ونسوا حظا " وتركوا نصيباً وافياً. " مما ذكروا به " من التوراة، أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه، وقيل معناه أنهم حرفوها فزلت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم، لما روي أن ابن مسعود قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية. " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " خيانة منهم، أو فرقة خائنة أو خائن والتاء للمبالغة. والمعنى أن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم. " إلا قليلا منهم " لم يخزنوا وهم الذين آمنوا منهم، وقيل استثناء من قوله: " وجعلنا قلوبهم قاسية " " فاعف عنهم واصفح " إن تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية. وقيل: مطلق نسخ بآية السيف. " إن الله يحب المحسنين " تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فشلاً عن العفو عن غيره.
13. And because of their breaking their covenant, We have cursed them and made hard their hearts. They change words from their context and forget a part of that whereof they were admonished. Thou wilt not cease to discover treachery from all save a few of them. But bear with them and pardon them. Lo! Allah loveth the kindly.
13 - But because of their breach of their covenant, we cursed them, and made their hearts grow hard: they change the words from their (right) places and forget a good part of the message that was sent them, nor wilt thou cease to find them barring a few ever bent on (new) deceits: but forgive them, and overlook (their misdeeds): for God loveth those who are kind.