13 - (أنى لهم الذكرى) أي لا ينفعهم الإيمان عند نزول العذاب (وقد جاءهم رسول مبين) بين الرسالة
يقول تعالى ذكره : من أي وجه لهؤلاء المشركين التذكر من بعد نزول البلاء بهم ، وقد تولوا عن رسولنا حين جاءهم مدبرين عنه ، لا يتذكرون بما يتلى عليهم من كتابنا ، ولا يتعظون بما يعظهم به من حججنا ، ويقولون : إنما هو مجنون علم هذا الكلام .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : " أنى لهم الذكرى " قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : " أنى لهم الذكرى " يقول : كيف لهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " أنى لهم الذكرى " بعد وقوع هذا البلاء .
قوله تعالى : " أنى لهم الذكرى " أي من أين يكون لهم التذكر والاتعاظ عند حلول العذاب ، " وقد جاءهم رسول مبين " يبي، لهم الحق ، والذكرى والذكر واحد ، قاله البخاري .
يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به, ثم قال عز وجل متوعداً لهم ومهدداً: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح, عن مسروق قال: دخلنا المسجد, يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة, فإذا رجل يقص على أصحابه "يوم تأتي السماء بدخان مبين" تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام, قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه, فذكرنا له ذلك وكان مضطجعاً, ففزع فقعد وقال: إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك, إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف, فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة, وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان, وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.
قال الله تعالى: " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم " فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت, فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل: "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون" قال يعني يوم بدر قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده, وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما, وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به, وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الاية بهذا, وأن الدخان مضى: جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي, وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا جعفر بن مسافر, حدثنا يحيى بن حسان, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: "يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال: كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جداً بل منكر. وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه, قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها, والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم والدجال وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق, وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب, ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا". تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه, وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: "إني خبأت لك خبأ" قال: هو الدخ, قال صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب, وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان, وهم يقرطمون العبارة, ولهذا قال هو الدخ, يعني الدخان, فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم: "اخسأ فلن تعدو قدرك".
ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رواد بن الجراح, حدثنا أبي, حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري, حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الايات الدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام, ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا, والدخان ـ قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم" ـ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة, أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة, وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره". قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً وإنما لم أشهد له بالصحة لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل رواداً عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان ؟ فقال له: لا , قال فقلت: أقرأته عليه ؟ قال: لا , قال فقلت: أقرىء عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال: لا , فقلت له: فمن أين جئت به ؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي اسمعه منا, فقرءوه علي ثم ذهبوا به فحدثوا به عني أو كما قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا, فإنه موضوع بهذا السند, وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير, وفيه منكرات كثيرة جداً, ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى, والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة, ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه, والثانية الدابة والثالثة الدجال". ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهيج الدخان بالناس, فأما المؤمن فيأخذه الزكمة, وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه". ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفاً, وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد, يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة, عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام, ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف, ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم ؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب, فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد, عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن, وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع, ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الايات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن, قال الله تبارك وتعالى: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" أي بين واضح يراه كل أحد, وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد, وهكذا قوله تعالى: "يغشى الناس" أي يتغشاهم ويعمهم, ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه "يغشى الناس".
وقوله تعالى: "هذا عذاب أليم" أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عز وجل: " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون " أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: "ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون" أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين" وكذا قوله جل وعلا: "وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال". وهكذا قال جل وعلا ههنا: "أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون". يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة, ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون, وهذا كقوله جلت عظمته: " يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى " الاية وكقوله عز وجل: "ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد" إلى آخر السورة.
وقوله تعالى: " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " يحتمل معنيين: (أحدهما) أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا, لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون" وكقوله جلت عظمته: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون". و (الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم. وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال, ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: "إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين". ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم, ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه, قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم, وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله.
وقوله عز وجل: "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون" فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر, وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم, وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه, وهو محتمل, والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً قال ابن جرير: حدثني ابن علية, حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة, وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه, والله أعلم.
13- "أنى لهم الذكرى" أي كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم "و" الحال أن "قد جاءهم رسول مبين" يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا.
13. "أنى لهم الذكرى "، من أين لهم التذكرة والاتعاظ؟ يقول: كيف يتذكرون ويتعظون؟ " وقد جاءهم رسول مبين "، ظاهر الصدق يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
13-" أنى لهم الذكرى " من أين لهم وكيف يتذكرون بهذه الحالة . " وقد جاءهم رسول مبين " بين لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الادكار من الآيات والمعجزات .
13. How can there be remembrance for them, when a messenger making plain (the truth) had already come unto them,
13 - How shall the Message be (effectual) for them, seeing that an Apostle explaining things clearly has (already) come to them,