12 - (إذ يوحي ربك إلى الملائكة) الذين أمد بهم المسلمين (أني) أي بأني (معكم) بالعون والنصر (فثبتوا الذين آمنوا) بالإعانة والتبشير (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) الخوف (فاضربوا فوق الأعناق) أي الرؤوس (واضربوا منهم كل بنان) أي أطراف اليدين والرجلين فكان الرجل يقصد ضرب رقبة الكافر فتسقط قبل أن يصل إليه سيفه ورماهم صلى الله عليه وسلم بقبضة من الحصى فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه منها شيء فهزموا
وأما قوله: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم "، أنصركم، " فثبتوا الذين آمنوا "، يقول: قووا عزمهم، وصححوا نيتهم في قال عدوهم من المشركين.
وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين، كان حضورهم حربهم معهم.
وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم. وقيل: كان ذلك أن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم - يعني المشركين - يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفين! فيحدث المسلمون بعضهم بعضاً بذلك، فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
وأما ابن إسحق فإنه قال بما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " فثبتوا الذين آمنوا "، أي: فآزروا الذين آمنوا.
القول في تأويل قوله: " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سأرعب قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون، منكم، وأملأها فرقاً حتى ينهزموا عنكم، " فاضربوا فوق الأعناق ".
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فوق الأعناق ".
فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: " فاضربوا فوق الأعناق "، قال: اضربوا الأعناق.
... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الأعناق وشد الوثاق ".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " فاضربوا فوق الأعناق "، يقول: اضربوا الرقاب.
واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: ((رأيت نفس فلان))، بمعنى: رأيته. قالوا: كذلك قوله: " فاضربوا فوق الأعناق "، إنما معناه: فاضربوا الأعناق.
وقال آخرون: بل معنى ذلك، فاضربوا الرؤوس.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: " فاضربوا فوق الأعناق "، قال: الرؤوس.
واعتل قائلو هذه المقالة بأن الذي " فوق الأعناق "، الرؤوس. قالوا: وغير جائز أن تقول " فوق الأعناق "، فيكون معناه: ((الأعناق)). قالوا: ولو جاز ذلك، جاز أن يقال: ((تحت الأعناق))، فيكون معناه: ((الأعناق)). قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب، وقلب لمعاني الكلام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق، وقالوا: ((على)) و((فوق)) معناهما متقاربان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين، معلمهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله " فوق الأعناق "، محتمل أن يكون مراداً به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مراداً له:من فوق جلدة الأعناق، فيكون معناه: على الأعناق. وإذا احتمل ذلك، صح قول من قال، معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملاً ما ذكرنا من التأويل، لم يكن لنا أن نوجهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة تدل على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدراً.
وأما قوله: " واضربوا منهم كل بنان "، فإن معناه: واضربوا، أيها المؤمنون، من عدوكم كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم.
و((البنان)) جمع ((بنانة))، وهي أطراف اصابع اليدين والرجلين، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانةً ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
يعني بـ((البنانة)) واحدة ((البنان)).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: " واضربوا منهم كل بنان "، قال: كل مفصل.
حدثنا ابن وكيعق ال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: " واضربوا منهم كل بنان "، قال: المفاصل.
... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك : " واضربوا منهم كل بنان "، قال: كل مفصل.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: " واضربوا منهم كل بنان "، قال: الأطراف. ويقال: كل مفصل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " واضربوا منهم كل بنان "، يعني بالبنان: الأطراف.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "واضربوا منهم كل بنان "، قال: الأطراف.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " واضربوا منهم كل بنان "، يعني:الأطراف.
قوله تعالى: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم" العامل في إذ، يثبت أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت. وقيل: العامل ليربط أي وليربط إذ يوحي. وقد يكون التقدير: اذكر "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم" في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة. معكم بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف. "فثبتوا الذين آمنوا" أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم، وقد تقدم في آل عمران أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رؤوساً تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمع بعضهم قائلاً يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدم حيزوم. وقيل: كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مدداً.
قوله تعالى: "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب" تقدم في آل عمران بيانه. "فاضربوا فوق الأعناق" هذا أمر للملائكة. وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، وفوق زائدة، قاله الأخفش والضحاك وعطية. وقد روى المسعودي قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق". وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن فوق تفيد معنى فلا يجوز زيادتها، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. وقال ابن عباس: كل هام وجمجمة. وقيل: أي ما فوق الأعناق، وهو الرؤوس، قاله عكرمة. والضرب على الرأس أبلغ، لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ. وقد مضى شيء من هذا المعنى في النساء وأن فوق ليست بزائدة، عند قوله: "فوق اثنتين" [النساء: 11]. "واضربوا منهم كل بنان" قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة:
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كل بنان
ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضاً:
وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني
وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن. وقال الضحاك: البنان كل مفصل.
يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم, وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" الاية, قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد, ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم, إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: النعاس في القتال أمنة من الله, وفي الصلاة من الشيطان, وقال قتادة: النعاس في الرأس, والنوم في القلب, قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جداً, وأما الاية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر, وهي دالة على وقوع ذلك أيضاً وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله, وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى: " فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا " ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسماً فقال: "أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: "سيهزم الجمع ويولون الدبر". وقوله "وينزل عليكم من السماء ماء" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم, وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة, وميكائيل في خمسمائة مجنبة. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام. ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي, وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه عطش أصابهم يوم بدر. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة" فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب, ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك, وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك, يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام فقال "هل تعرف هذا" ؟ فنظر إليه فقال: ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان. وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مالبد لهم الأرض, ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم, وقال ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وقوله "ليطهركم به" أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر "ويذهب عنكم رجز الشيطان" أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة " فهذا زينة الظاهر "وسقاهم ربهم شراباً طهوراً" أي مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته "وليربط على قلوبكم" أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن "ويثبت به الأقدام" وهو شجاعة الظاهر, والله أعلم.
وقوله "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق: وآزروهم. وقال غيره: قاتلوا معهم وقيل كثروا سوادهم وقيل كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضاً بذلك فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه, وقوله "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب" أي ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي "فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" أي اضربوا الهام ففلقوها, واحتزوا الرقاب فقطعوها, وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى "فوق الأعناق" فقيل معناه اضربوا الرؤوس, قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله, إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق" واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام, قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول "يفلق هاماً" فيقول أبو بكر:
من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما قال تعالى: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به, وقوله "واضربوا منهم كل بنان" وقال ابن جرير: معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم, والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانة ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "واضربوا منهم كل بنان" يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن جرير: وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل مفصل, وقال الأوزاعي في قوله تعالى: "واضربوا منهم كل بنان" قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس: فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل لا تقتلوهم قتلاً ولكن خذوهم أخذاً حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله إلى الملائكة "أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" الاية, فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً, وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً فوفى ذلك سبعين يعني قتيلاً ولهذا قال تعالى: "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله" أي خالفوهما فساروا في شق, وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق, ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين "ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب" أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله ولا رب سواه "ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار" هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الاخرة .
قوله: 12- "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم" الظرف منصوب بفعل محذوف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقف على ذلك سواه: أي واذكر يا محمد وقت إيحاء ربك إلى الملائكة، وقيل: هو بدل من "إذ يعدكم" كما تقدم ولكنه يأبى ذلك أن هذا لا يقف عليه المسلمون فلا يكون من جملة النعم التي عددها الله عليهم، وقيل: العامل فيه يثبت فيكون المعنى: يثبت الأقدام وقت الوحي وليس لهذا التقييد معنى، وقيل: العامل فيه "ليربط" ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء، ومعنى الآية: أني معكم بالنصر والمعونة، فعلى قراءة الفتح للهمزة هو مفعول "يوحي" وعلى قراءة الكسر يكون بتقدير القول. ومعنى "فثبتوا الذين آمنوا" بشروهم بالنصر أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم وتكثير سوادهم، وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. قوله: "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب" قد تقدم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران، قيل: هذه الجملة تفسير لقوله: "أني معكم". قوله: "فاضربوا فوق الأعناق" قيل: المراد الأعناق أنفسها و "فوق" زائدة: قاله الأخفش وغيره. وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن فوق يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها، وقيل: المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس، وقيل: المراد بفوق الأعناق: أعاليها لأنها المفاصل الذي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع. قيل: وهذا أمر للملائكة وقيل: للمؤمنين، وعلى الأول قيل: هو تفسير لقوله: "فثبتوا الذين آمنوا". قوله: "واضربوا منهم كل بنان". قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء، والبنان مشتق من قولهم أبن الرجل بالمكان إذا أقام به، لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة، وقيل المراد بالبنان هنا: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة:
وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كل بنان
وقال عنترة أيضاً:
وإن الموت طوع يدي إذا ما وطئت بنانها بالهنـــداوي
قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف.
12 - "إذ يوحي ربك إلى الملائكة " ، الذين أمد بهم المؤمنين ،" أني معكم " ، بالعون والنصر ، " فثبتوا الذين آمنوا" ، أي : قووا قلوبهم / قيل : ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم ، أي : ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين .
وقال مقاتل : أي : بشروهم بالنصر ،وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم . " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب " ، قال عطاء : يريد الخوف من أوليائي ، " فاضربوا فوق الأعناق " ، قيل : هذا خطاب مر المؤمنين . وقيل : هذا خطاب مر الملائكة ،وهو متصل بقوله " فثبتوا الذين آمنوا " ، وقوله : " فوق الأعناق " ، قال عكرمة : يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق . وقال الضحاك : معناه فاضربوا الأعناق ، وفوق صلة كما قال تعالى : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " ( محمد -4 ) وقيل : معناه فاضربوا على الأعناق . فوق بمعنى : على .
" واضربوا منهم كل بنان " ، قال عطية : يعني كل مفصل . وقال ابن عباس و ابن جريج و الضحاك : يعني الأطراف . والبنان جمع بنانة ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين . قال ابن الأنباري : ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون ، فعلمهم الله عز وجل .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ،أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن حجاج ، ثنا زهير بن حرب ، ثنا عمرو بن يونس الحنفي ،ثنا عكرمة بن عمار ، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال :" بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذا سمع ضربة السوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً ، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة . فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين" . وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدراً قال : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيرى .
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : والله ، لقد رأيتنا يوم بدر ، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك ، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف .
وقال عكرمة ، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت أم الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزاً وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم ، فو الله إني لجالس أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري ، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم ، فقال أبو لهب : إلي بابن أخي فعندك الخبر ، فجلس إليه والناس قيام عليه ، قال : يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال : لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وايم الله مر ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ، لا والله ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ، ثم قلت : تلك والله الملائكة ، قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، فثاورته ، فاحتملني فضرب بي الأرض ، ثم برك علي يضربني ، وكنت رجلاً ضعيفاً فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربةً فقلت به رأسه شجة منكرة ، وقالت : تستضعفه أن غاب عنه سيده ؟ فقام مولياً ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته .
وروى مقسم عن ابن عباس قال :" كان الذي أسر العباس أبو اليسر ، كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً ، وكان العباس رجلاً جسيماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر ، كيف أسرت العباس ؟قال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم " .
12." إذ يوحي ربك " بدل ثالث أو متعلق بتثبت. " إلى الملائكة أني معكم " في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول " يوحي " وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه . " فثبتوا الذين آمنوا" بالبشارة أو بتكثير سوادهم ، أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله : " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب " كالتفسير لقوله " أني معكم فثبتوا " ، وفيه دليل على أ،هم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله : " سألقي " إلى قوله : " كل بنان " تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال ، قولوا لهم قولي هذا. " فاضربوا فوق الأعناق " أعليها التي هي المذابح أو الرؤوس . " واضربوا منهم كل بنان" أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم .
12. When thy Lord inspired the angels, (saying:) I am with you. So make those who believe stand firm. I will throw fear into the hearts of those who disbelieve. Then smite the necks and smite of them each finger.
12 - Remember thy Lord inspired the angels (with the message): I am with you: give firmness to the believers: I will instil terror into the hearts of the unbelievers: smite ye above their necks and smite all their finger tips off them.