12 - (إنا نحن نحيي الموتى) للبعث (ونكتب) في اللوح المحفوظ (ما قدموا) في حياتهم من خير وشر ليجاوزوا عليه (وآثارهم) ما استن به بعدهم (وكل شيء) نصبه بفعل يفسر (أحصيناه) ضبطناه (في إمام مبين) كتاب بين هو اللوح المحفوظ
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابي سعيد الخدري قال كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن آثاركم تكتب فلا تنتقلوا وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله
يقول تعالى ذكره: " إنا نحن نحيي الموتى " من خلقنا " ونكتب ما قدموا " في الدنيا من خير وشر، وصالح الأعمال وسيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا " من عمل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " ونكتب ما قدموا " قال: ما عملوا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " ما قدموا " قال: أعمالهم.
وقوله " وآثارهم " يعني: وآثار خطاهم بأرجلهم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقرب عليهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد فنزلت " ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقالوا: نثبت في مكاننا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا، قال: فنزلت " ونكتب ما قدموا وآثارهم " فثبتوا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سلمة قرب المسجد، قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني سلمة دياركم إنها تكتب آثاركم ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر، قال: سمعت كهمساً يحدث، عن أبي نضرة، عن جابر، قال: " أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني سلمة دياركم إنها تكتب آثاركم قال: فأقاموا وقالوا: ما يسرنا ا،ا كنا تحولنا ".
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن طريف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: " شكت بنو سلمة بعد منازلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقال: عليكم منازلكم تكتب آثاركم ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين، عن ثابت، ثاب: " مشيت عن أنس، فأسرعت المشي، فأخذ بيدي، فمشينا رويداً، فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت، فأسرعت المشي، فقال: يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن أن بني سلمة " كانت دورهم قاصية عن المسجد، فهموا أن يتحولوا قرب المسجد، فيشهدون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تحتسبون آثاركم يا بني سلمة؟ فمكثوا في ديارهم ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم ابن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله " ما قدموا وآثارهم " قال: خطاهم بأرجلهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " وآثارهم " قال: خطاهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وآثارهم " قال: قال الحسن: وآثارهم قال: خطاهم. وقال قتادة: لو كان مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار.
وقوله " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " يقول تعالى ذكره: وكل شيء كان أو هو كائن أحصيناه، فاثبتناه في أم الكتاب، وهو الإمام المبين. وقيل: " مبين "، لأنه يبين عن حقيقة جميع ما أثبت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد " في إمام مبين " قال: في أم الكتاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " كل شيء محصي عند الله في كتاب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " قال: أم الكتاب التي عند الله فيها الأشياء كلها هي الإمام المبين.
فيه أربع مسائل :
الأولى - قوله تعالى : " إنا نحن نحيي الموتى " أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى رداً على الكفرة . وقال الضحاك و الحسن : أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل . والأول أظهر ، أي نحييهم بالبعث للجزاء . ثم توعدهم بذكره كتب الآثار وهي :
الثانية - وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان . قال قتادة : معناه من عمل وقاله مجاهد و ابن زيد . ونظيره قوله : " علمت نفس ما قدمت وأخرت " [ الانفطار : 5 ] وقوله : " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " [ القيامة : 13 ] ، وقال : " اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " [ الحشر : 18 ] فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها من أثر حسن ، كعلم علموه ، أو كتاب صنفوه ، أو حبيس احتبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك . أو سيىء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم ، أو شيء أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر و ابن عباس و سعيد بن جبير . وعن ابن عباس أيضاً أن معنى : < وأثارهم > خطاهم إلى المساجد . قال النحاس : وهذا أولى ما قيل فيه ، لأنه قال : إن الآية نزلت في ذلك ، لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد ؟ " وفي الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يكتب له برجل حصنة وتحط عنه برجل سيئة ذاهباً وراجعاً إذا خرج المسجد " .
قلت : وفي الترمذي " عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية : " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا " . قال : هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري . وفي صحيح مسلم " عن جابر بن عبد الله قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، قال : والبقاع خالية ، قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم " فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا . وقال ثابت البناني :
" مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت ، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسرعت ، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : أما علمت أن الآثار تكتب " فهذا احتجاج بالآية . وقال قتادة و مجاهد أيضاً و الحسن : الآثار في هذه الخطا . وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال : الآثار هي الخطا إلى الجمعة . وواحد الآثار أثر ويقال أثر .
الثالثة : في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل ، فلو كان بجوار مسجد ، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد ؟ اختلف فيه ، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم . وروي عن غيره : الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً . وكره الحسن وغيره هذا ، وقال : لا يدع مسجداً قربه ويأتي غيره . وهذا مذهب مالك . وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان . وخرج ابن ماجه " من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائه صلاة "
الرابعة : < دياركم > منصوب على الإغراء أي الزموا ، و < نكتب > جزم على جواب ذلك الأمر . < وكل > نصب بفعل مضمر يدل عليه < أحصيناه > كأنه قال : وأحصينا كل شيء أحصيناه . ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى ، ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل ؟ وهو قول الخليل و سيبويه . والإمام : الكتاب المقتدى به الذي هو حجة . وقال مجاهد و قتادة و ابن زيد : أراد اللوح المحفوظ . وقالت فرقة : أراد صحائف الأعمال .
يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل, فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه, فارتفع رأسه فصار مقمحاً, ولهذا قال تعالى: "فهم مقمحون" والمقمح هو الرافع رأسه, كما قالت أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح, أي أشرب فأروي, وأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً, واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين, كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي لا يأتليني ؟
فاكتفى بذكر الخير عن الشر, لما دل الكلام والسياق عليه, وهكذا هذا لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق, اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون" قال: هو كقوله عز وجل: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد "فهم مقمحون" قال: رافعي رؤوسهم, وأيديهم موضوعة على أفواههم, فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله تعالى: "وجعلنا من بين أيديهم سداً" قال مجاهد : عن الحق "ومن خلفهم سداً" قال مجاهد : عن الحق فهم يترددون. وقال قتادة : في الضلالات. وقوله تعالى: "فأغشيناهم" أي أغشينا أبصارهم عن الحق "فهم لا يبصرون" أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. قال ابن جرير : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ " فأغشيناهم " بالعين المهملة من العشا, وهو داء في العين, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان, فهم لا يخلصون إليه, وقرأ " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " ثم قال: من منعه الله تعالى لا يستطيع.وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن, فأنزلت " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " قال: وكانوا يقولون هذا محمد, فيقول: أين هو أين هو ؟ لا يبصره, رواه ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال: قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم, وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن, وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح, ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب, وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه, فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ " يس * والقرآن الحكيم " حتى انتهى إلى قوله تعالى " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته, وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار, فقال: مالكم ؟ قالوا: ننتظر محمداً, قال: قد خرج عليكم فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً, ثم ذهب لحاجته, فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال: وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: "وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه أحدهم".
وقوله تبارك وتعالى: " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " أي فقد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به, وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة, وكما قال تبارك وتعالى: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " "إنما تنذر من اتبع الذكر" أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر وهو القرآن العظيم "وخشي الرحمن بالغيب" أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل "فبشره بمغفرة " أي لذنوبه "وأجر كريم" أي كثير واسع حسن جميل, كما قال تبارك وتعالى: "إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير" ثم قال عز وجل: "إنا نحن نحيي الموتى" أي يوم القيامة, وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار, الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق, كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: " اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ".
وقوله تعالى: " ونكتب ما قدموا " أي من الأعمال, وفي قوله تعالى: "وآثارهم" قولان: (أحدهما) نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم, وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر, كقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها, وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً" رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وفيه قصة مجتابي النمار المضريين, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي , عن أبي المحياة يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله, ثم تلا هذه الأية "ونكتب ما قدموا وآثارهم" وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبدالملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره.
وهكذا الحديث الاخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له, أو صدقة جارية من بعده", وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: سمعت مجاهداً يقول في قوله تعالى: "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" قال: ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: "ونكتب ما قدموا وآثارهم" يعني ما أثروا, يقول: ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم, فإن كانت خيراً فلهم مثل أجورهم لاينقص من أجر من عمل به شيئاً, وإن كانت شراً فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً, ذكرهما ابن أبي حاتم , وهذا القول هو اختيار البغوي.
(والقول الثاني) أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية, قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد "ما قدموا" أعمالهم "وآثارهم" قال: خطاهم بأرجلهم, وكذا قال الحسن وقتاده "وآثارهم" يعني خطاهم. وقال قتادة : لو كان الله عز وجل مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الاثار, ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته, فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد وردت في هذا المعنى أحاديث:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا أبي , حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: خلت البقاع حول المسجد, فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ؟ قالوا: نعم يارسول الله قد أردنا ذلك, فقال صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة, دياركم تكتب آثاركم, دياركم تكتب آثاركم", وهكذا رواه مسلم من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن , كلاهما عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي , عن جابر رضي عنه به.
(الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي , حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة , عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة, فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد, فنزلت "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا, تفرد بإخراجه الترمذي عند تفسيره هذه الاية الكريمة عن محمد بن الوزير به, ثم قال: حسن غريب من حديث الثوري , ورواه ابن جرير عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي , عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن طريف ـ وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي ـ عن أبي نضرة به.
وقد روي من غير طريق الثوري فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن زياد الساجي , حدثنا عثمان بن عمر , حدثنا شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة , عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد, فنزلت" ونكتب ما قدموا وآثارهم " فأقاموا في مكانهم. وحدثنا محمد بن المثنى , حدثنا عبد الأعلى , حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الاية, والسورة بكمالها مكية, فالله أعلم.
(الحديث الثالث) قال ابن جرير : حدثنا نصر بن علي الجهضمي , حدثنا أبو أحمد الزبيري , حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد, فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد,فنزلت " ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقالوا: نثبت مكاننا, هكذا رواه, وليس فيه شيء مرفوع. ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل , عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد, فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد, فنزلت "ونكتب ما قدموا وآثارهم" فثبتوا في منازلهم.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد : حدثنا حسن , حدثنا ابن لهيعة , حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, قال: " توفي رجل في المدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم: وقال يا ليته مات في غير مولده , فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل إذا توفي في غير مولده, قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة", ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى وابن ماجه عن حرملة , كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به. وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا أبو نميلة , حدثنا الحسين عن ثابت قال: مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً, فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي,فقال: يا أنس أما شعرت أن الاثار تكتب ؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول, بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى, فإنه إذا كانت هذه الاثار تكتب, فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى, والله أعلم.
وقوله تعالى: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ, والإمام المبين ههنا هو أم الكتاب, قاله مجاهد وقتاده وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم , وكذا في قوله تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر, كما قال عز وجل: "ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء" وقال تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ".
ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال: 12- "إنا نحن نحيي الموتى" أي نبعثهم بعد الموت. وقال الحسن والضحاك: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى. ثم توعدهم بكتب آثارهم فقال: "ونكتب ما قدموا" أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة "وآثارهم" أي ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت: كمن سن سنة حسنة أو نحو ذلك، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها: كمن سن سنة سيئة. قال مجاهد وابن زيد: ونظيره قوله: "علمت نفس ما قدمت وأخرت" وقوله: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" وقيل المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك. ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، ومن الخير تعليم العليم وتصنيفه والوقف على القرب وعمارة المساجد والقناطر. ومن الشر ابتداع المظالم وإحداث ما يضر بالناس ويقتدي به أهل الجور ويعملون عليه من مكس أو غيره، ولهذا قال سبحانه: "وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" أي وكل شيء من أعمال العباد وغيرها كائناً ما كان في إمام مبين: أي كتاب مقتدى به موضح لكل شيء. قال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال. قرأ الجمهور "ونكتب" على البناء للفاعل. وقرأ زر ومسروق على البناء للمفعول. وقرأ الجمهور "كل شيء أحصيناه" بنصب "كل" على الاشتغال. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وابن عباس في قوله "يس" قالا: يا محمد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "يس" قال: يا إنسان. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك وعكرمة مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت " يس * والقرآن الحكيم " إلى قوله: "أم لم تنذرهم لا يؤمنون" قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد" وفي الباب روايات في سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن "فهم مقمحون" كما تقمح الدابة باللجام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "وجعلنا من بين أيديهم سداً" الآية قال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرونه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه، فشق ذلك عليه، فأتاه جبريل بسورة يس وأمره بالخروج عليهم، فأخذ كفاً من تراب وخرج وهو يقرأها ويذر التراب على رؤوسهم، فما رأوه حتى جاز، فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب، وجاء بعضهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا ننظر محمداً، فقال: لقد رأيته داخلاً المسجد، قال: قوموا فقد سحركم. وأخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله: "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه يكتب آثاركم، ثم قرأ عليهم الآية فتركوا. وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال "إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحولوا قريباً من المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم".
12. " إنا نحن نحيي الموتى "، عند البعث، " ونكتب ما قدموا "، من الأعمال منخير وشر، " وآثارهم "، أي: ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنةً حسنةً يعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً ".
وقال قوم: قوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " أي: خطاهم إلى المسجد.
روي عن أبي سعيد الخدري قال: شكت بنو سلمة بعد منازلهم من المسجد فأنزل الله تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم ". أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، حدثنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس النميري ، حدثنا مروان الفزازي ، حدثنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال:"أرادت بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، فقال: يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا".
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشىً، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام ".
قوله تعالى: " وكل شيء أحصيناه " حفظناه وعددناه وبيناه، " في إمام مبين "، وهو اللوح المحفوظ.
12 -" إنا نحن نحيي الموتى " الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية . " ونكتب ما قدموا " ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة . " وآثارهم " الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه ، والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم . " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " يعني اللوح المحفوظ .
12. Lo! We it is Who bring the dead to life. We record that which they send before (them), and their footprints. And all things We have kept in a clear register.
12 - Verily We shall give life to the dead, and We record that which they send before and that which they leave behind, and of all things have We taken account in a clear Book (of evidence).