119 - (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) بترك معاصيه (وكونوا مع الصادقين) في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين، معرفهم سبيل النجاة من عقابه، والخلاص من أليم عذابه: " يا أيها الذين آمنوا "، بالله ورسوله، " اتقوا الله "، وراقبوه، بأداء فرائضه، وتجنب حدوده، " وكونوا "، في الدنيا، من أهل ولاية الله وطاعته، تكونوا في الآخرة، " مع الصادقين "، في الجنة. يعني: مع من صدق الله الإيمان به، فحقق قوله بفعله، ولم يكن من أهل التفاق فيه، الذين يكذب قيلهم فعلهم.
وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا، كما قال جل ثناؤه: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " [النساء: 70].
وإنما قلنا: ذلك معنى الكلام، لأن كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأي وجوه الكون كان معهم، إن لم يكن عاملاً عملهم. وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم، كان وجه الكلام أن يقال: " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله، فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو: مع النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، رحمة الله عليهم.
ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، عن نافع في قول الله: " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، قال: مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن زيد بن أسلم، عن نافع قال: قيل للثلاثة الذين خلفوا: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، محمد وأصحابه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق بن إسمعيل، عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: " وكونوا مع الصادقين "، قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما، رحمة الله عليهم.
... قال، حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا إسحق بن بشر الكاهلي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير في قول الله: " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، قال: مع أبي بكر وعمر، رحمة لله عليهما.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، قال: مع المهاجرين الصادقين.
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه، يقرؤه: ((وكونوا من الصادقين))، ويتأوله:أن ذلك نهي من الله عن الكذب.
ذكر الرواية عنه بذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحل منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين)) - قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود: ((من الصادقين)) - فهل ترون في الكذب رخصة؟
... قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة، عن عبد الله، نحوه.
قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة يحدث عن عبد الله قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين)) - وهي كذلك في قراءة عبد الله - فهل ترون من رخصة في الكذب؟
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن ابراهيم، عن عبد الله قال: لا يصلح الكذب في هزل ولا جد. ثم تلا عبد الله: " اتقوا الله وكونوا " ما أدري أقال: ((من الصادقين)) أو " مع الصادقين " - وهو في كتابي " مع الصادقين ".
... قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن مجاهد ، عن أبي معمر، عن عبد الله، مثله.
... قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله، مثله.
قال أبو جعفر: والصحيح من التأويل في ذلك، هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع و الضحاك . وذلك أن رسوم المصاحف كلها مجمعة على: " وكونوا مع الصادقين "، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحد القراءة بخلافها.
وتأويل عبد الله، رحمة الله عليه، في ذلك على قراءته، تأويل صحيح، غير أن القراءة بخلافها.
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: "وكونوا مع الصادقين" هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف.
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال، فقيل: هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب. وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، أي اتقوا مخالفة أمر الله. "وكونوا مع الصادقين" أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين. أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم. وقيل: هم الأنبياء، أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة. وقيل: هم المراد بقوله: "ليس البر أن تولوا وجوهكم" -الآية إلى قوله- "أولئك الذين صدقوا" [البقرة: 177]. وقيل: هم الموفون بما عاهدوا، وذلك لقوله تعالى: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" [الأحزاب: 23] وقيل: هم المهاجرون، لقول أبي بكر يوم السقيفة، إن الله سمانا الصادقين فقال: "للفقراء المهاجرين" [الحشر: 8] الآية، ثم سماكم بالمفلحين فقال: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " [الحشر: 9] الآية. وقيل: هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم. قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى، فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم. وأما من قال: إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب. وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها، فإن جميع الصفات فيهم موجودة.
الثانية- حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار، قال صلى الله عليه وسلم:
"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً". والكذب على الضد من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً". خرجه مسلم. فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة الرجل في كذبة كذبها. قال معمر: لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس. وسئل شريك بن عبد الله فقيل له: يا أبا عبد الله، رجل سمعته يكذب متعمداً أأصلي خلفه؟ قال: لا. وعن ابن مسعود قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئاً ثم لا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" هل ترون في الكذب رخصة؟ وقال مالك: لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: يقبل حديثه. والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه، فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات.
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله, عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي, قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك, غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها, وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد, ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام, وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر, وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة, والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز, واستقبل عدواً كثيراً فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم, فأخبرهم وجهه الذي يريد, والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير, لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر, فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه, فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا, فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد, فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً, ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت, ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل, ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك, فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك" فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه, فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك, حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب, وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي, فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً, زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً, فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس, فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى, حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب, ثم قال لي "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: "ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهراً" فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر, لقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي, ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله ما كان لي عذر, والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك" فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون, فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك, قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي, قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت, وقيل لهما مثل ما قيل لك, فقلت فمن هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي, فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة, قال: فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه, فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم, فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر, فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي, فإذا التفت نحوه أعرض عني, حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي, فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام, فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت, قال فعدت له فنشدته فسكت, فعدت له فنشدته فسكت, فقال الله ورسوله أعلم .
قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار, فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك, قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً, فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة, فالحق بنا نواسك, قال: فقلت حين قرأته وهذا أيضاً من البلاء, قال: فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين, إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك, قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها, قال وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك, قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء, قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه, قال "لا ولكن لا يقربنك" قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء, وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا, قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه, قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا, قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا, فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت, سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك, قال: فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا, فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر, فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون, وركض إلي رجل فرساً وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس, فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته, والله ما أملك يومئذ غيرهما, واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنوني بتوبة الله, يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد والناس حوله, فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره, قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة, قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قال: قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله ؟ قال "لا بل من عند الله" قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه, فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله, قال "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله: إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت, قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى, والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا, وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي.
(قال) وأنزل الله تعالى: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " إلى آخر الايات. قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ, أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه, فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد, فقال الله تعالى: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم, وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه, فلذلك قال عز وجل "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" وليس تخليفه إيانا وارجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو, وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم, من حديث الزهري بنحوه, فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الاية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها, وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها, كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قال: هم كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن الربيع, وكلهم من الأنصار, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة, وكذا في مسلم ابن ربيعة في بعض نسخه, وفي بعضها مرارة بن الربيع, وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب, وقوله فسموا رجلين شهدا بدراً قيل إنه خطأ من الزهري, فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدراً, والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها, وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت, أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون, فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم, وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم, فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم, ولهذا قال "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك, ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً, وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" أخرجاه في الصحيحين, وقال شعبة عن عمرو بن مرة: سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل, اقروءا إن شئتم "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" هكذا قرأها, ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة, وعن عبد الله بن عمرو في قوله "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" قال مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما, وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
قوله: 119- "وكونوا مع الصادقين" هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم" قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى. قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم، ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه "حتى يبين لهم ما يتقون" قال: حتى ينهاهم قبل ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته غامض ما فعلوا أو تركوا. وأخرج ابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأهطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن منده وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله في قوله: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار. وأخرج ابن منده وابن عساكر عن ابن عباس مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر منها في الناس وأشهر، ثم ذكر القصة الطويلة المشهورة في كتب الحديث والسير، وهي معلومة عند أهل العلم فلا نطول بذكرها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" قال: يعني خلفوا عن التوبة لم يتب عليهم حين تاب الله على أبي لبابة وأصحابه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن عساكر عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن نافع في قوله: "وكونوا مع الصادقين" قال: نزلت في الثلاثة الذين خلفوا، قيل لهم: كونوا مع محمد وأصحابه. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: "وكونوا مع الصادقين" قال: مع أبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن الضحاك في الآية قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مع علي بن أبي طالب. وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر قال: مع الثلاثة الذين خلفوا.
119-"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"، قال نافع: مع محمد وأصحابه. وقال سعيد ابن جبير: مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن جريج: مع المهاجرين، لقوله تعالى: "للفقراء المهاجرين" إلى قوله "أولئك هم الصادقون" (الحشر -8) وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية.
وقيل: مع الذين صدقوا في الإعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.
وكان ابن مسعود يقرأ: "وكونوا مع الصادقين" وقال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له، اقرؤا إن شئتم وقرأ هذه الآية.
119."يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله"فيما لا يرضاه"وكونوا مع الصادقين" في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً. وقرئ (من الصادقين) أي في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم.
119. O ye who believe! Be careful of your duty to Allah, and be with the truthful.
119 - O ye who believe fear God and be with those who are true (in word deed).