(ومن يشاقق) يخالف (الرسول) فيما جاء به من الحق (من بعد ما تبين له الهدى) ظهر له الحق بالمعجزات (ويتبع) طريقا (غير سبيل المؤمنين) أي طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يكفر (نوله ما تولى) نجعله واليا لما تولاه من الضلال بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا (ونصله) ندخله في الآخرة (جهنم) فيحترق فيها (وساءت مصيرا) مرجعا هي
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، معادياً له ، فيفارقه على العداوة له ، "من بعد ما تبين له الهدى"، يعني : من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، "ويتبع غير سبيل المؤمنين"، يقول : ويتبع طريقاً غير طريق أهل التصديق ، ويسلك منهاجاً غير منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم ، "نوله ما تولى"، يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئاً، ولا تنفعه ، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "نوله ما تولى"، قال : من آلهة الباطل .
حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
"ونصله جهنم"، يقول : ونجعله صلاء نار جهنم ، يعني : نحرقه بها.
وقد بينا معنى الصلي فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
"وساءت مصيرا"، يقول وساءت جهنم ، "مصيرا"، موضعاً يصير إليه من صار إليه .
ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله : "ولا تكن للخائنين خصيما"، لما أبى التوبة من أبى منهم ، وهو طعمة بن الأبيرق ، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتداً، مفارقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
فيه مسألتان:
الأولى- قال العلماء: هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكمن النبي صلى الله عليه وسلم بالقطع وهرب إلى مكة وارتد، قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتاً بمكة فلحقه المشركون فقتلوه، فأنزل الله تعالى :" إن الله لا يغفر أن يشرك به " إلى قوله :" فقد ضل ضلالا بعيدا" وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية " ومن يشاقق الرسول " والمشاقة المعادة، والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين و" الهدى " الرشد والبيان وقد تقدم وقوله تعالى : " نوله ما تولى " يقال: إنه نزل فيمن ارتد والمعنى: نتركه وما يعبد عن مجاهد: أن نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا ضرر، وقاله مقاتل، وقال الكلبي: نزل قوله تعالى :" نوله ما تولى " في ابن أبيرق، لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً لرجل بمكة يقال له : حجاج بن علاط، فقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة فخرج إلى مكة الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه فنزلت : " نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصير " وقرأ عصا وحمزة وأبو عمرو وله نصله بجزم الهاء والباقون بكسرها وهما لغتان.
الثانية - قال العلماء في قوله تعالى :" ومن يشاقق الرسول " دليل على صحة القول بالإجماع ، وفي قوله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به " رد على الخوارج، حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر، وقد تقدم القول في هذا المعنى، وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية :" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قال : هذا حديث غريب قال ابن فورك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول ، أو بابتداء رحمة من الله تعالى . وقال الضحاك.
"إن شيخنا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى :" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "".
يقول تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم" يعني كلام الناس "إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" أي إلا نجوى من قال ذلك, كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم, حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث, حدثنا محمد بن يزيد بن حنيس, قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده, فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي , فقال له سفيان الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح, ردده علي, فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل, أو أمر بمعروف, أو نهي عن منكر" فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " ؟ فهو هذا بعينه, أو ما سمعت الله يقول: "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا" فهو هذا بعينه, أو ما سمعت الله يقول في كتابه: " والعصر * إن الإنسان لفي خسر " الخ ؟ فهو هذا بعينه, وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان به, ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها, ثم قال الترمذي: حديث غريب, لا يعرف إلا من حديث ابن خنيس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, حدثنا صالح بن كيسان, حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً, أو يقول خيراً", وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس, وحديث الرجل امرأته, وحديث المرأة زوجها, قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن الزهري به نحوه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سالم بن أبي الجعد, عن أم الدرداء, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام, والصلاة, والصدقة ؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين", قال: "وفساد ذات البين هي الحالقة". ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية, وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا سريج بن يونس, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر حدثنا أبي عن حميد, عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب "ألا أدلك على تجارة ؟" قال: بلى يا رسول الله. قال "تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا, وتقارب بينهم إذا تباعدوا" ثم قال البزار وعبد الرحمن بن عبد الله العمري: لين, وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها, ولهذا قال: " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله " أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند الله عز وجل, "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً.
وقوله: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم, فصار في شق, والشرع في شق, وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له.
وقوله: "ويتبع غير سبيل المؤمنين" هذا ملازم للصفة الأولى, ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع, وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً, فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم, وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك, قد ذكرنا منها طرفاً صالحاً في كتاب أحاديث الأصول, ومن العلماء من ادعى تواتر معناها, والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الاية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل, وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها, وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك, ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: "نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له, كما قال تعالى: "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون", وقال تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم", وقوله: "ونذرهم في طغيانهم يعمهون" وجعل النار مصيره في الاخرة, لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة, كما قال تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" الاية, وقال تعالى: "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً".
115- "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" المشاققة: المعاداة والمخالفة. وتبين الهدى ظهوره، بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاققة "ويتبع غير سبيل المؤمنين" أي: غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه "نوله ما تولى" أي: نجعله والياً لما توالاه من الضلال "ونصله جهنم" قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو "نوله" "ونصله" بسكون الهاء في الموضعين. وقرأ الباقون بكسرهما وهما لغتان، وقرئ ونصله بفتح النون من صلاة، وقد تقدم بيان ذلك. وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله "ويتبع غير سبيل المؤمنين" ولا حجة في ذلك عندي، لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم.
وقد أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله عز وجل". قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله "لا خير في كثير من نجواهم" الآية، وقوله "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا"، وقوله " والعصر* إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ". وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير من آفات اللسان والترغيب في حفظه، وفي الحث على الإصلاح بين الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله "ومن يفعل ذلك" تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس. وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن أنس قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل علي القرآن يا أعرابي "لا خير في كثير من نجواهم" إلى قوله "فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" يا أعرابي الأجر العظيم الجنة، قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام". وأخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة، فمن شذ شذر في النار". وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً.
115-قوله تعالى:"ومن يشاقق الرسول"، نزلت في طعمة بن أبيرق وذلك أنه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة ، فهرب إلى مكة وارتد عن الدين ، فقال تعالى:"ومن يشاقق الرسول"،أي: يخالفه،"من بعد ما تبين له الهدى"،من التوحيد والحدود"ويتبع غير سبيل المؤمنين"أي:غير طريق المؤمنين"نوله ما تولى"أي: نكله في الآخرة] /إلى ما تولى في الدنيا،"ونصله جهنم وساءت مصيراً".
روي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاط ، فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح، فأخذ ليقتل، فقال بعضهم : دعوة فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام ، فنزلوا منزلاً فسرق بعض متاعهم وهرب، فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الحجارة، وقيل:إنه ركب سفينة إلى جده فسرق فيها كيساً فيه دنانير فأخذ ، فألقي في البحر، وقيل:إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنماً إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه.
115" ومن يشاقق الرسول " يخالفه، من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر. " من بعد ما تبين له الهدى " ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات. " ويتبع غير سبيل المؤمنين " غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل. " نوله ما تولى " نجعله ولياً لما تولى من الضلال، ونخل بينه وبين ما اختاره. " ونصله جهنم " وندخله فيها. وقرئ بفتح النون من صلاة. " وساءت مصيرا " جهنم، والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع، لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهم أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً كان اتباع سبيلهم واجباً، لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم، وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام.
115. And whoso opposeth the messenger after the guidance (of Allah) hath been manifested unto him, and followeth other than the believer's way, We appoint for him that unto which he himself hath turned, and expose him unto hell a hapless journey's end!
115 - If anyone contends with the apostle even after guidance has been plainly conveyed to him, and follows a path other than that becoming to men of faith, we shall leave him in the path he has chosen, and land him in hell, what an evil refuge