114 - (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) بقوله : سأستغفر لك ربي ، رجاءَ أن يسلم (فلما تبين له أنه عدو لله) بموته على الكفر (تبرأ منه) وترك الاستغفار له (إن إبراهيم لأوَّاه) كثير التضرع والدعاء (حليم) صبور على الأذى
وأما قوله: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه "، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه.
فقال بعضهم: أنزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين، ظناً منهم أن إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك، حين أنزل الله قوله خبراً عن إبراهيم: " قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " [مريم: 47].
وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره، وسنذكر عمن لم يذكره.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق، عن أبي الخليل، عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأنزل الله: " وما كان استغفار إبراهيم " إلى " تبرأ منه ".
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحق، عن أبي الخليل، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لأبويه وهما مشركان، حتى نزلت: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه "، إلى قوله: " تبرأ منه ".
وقيل: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة "، ومعناه: إلا من بعد موعدة، كما يقال: ((ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا))، بمعنى: من بعد ذلك السبب، أو من أجله. فكذلك قوله: " إلا عن موعدة "، من أجل موعدة وبعدها.
وقد تأول قوم قول الله: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى "، الآية، أن النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، لقوله: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ". وقالوا: ذلك لا يتبينه أحد إلا بأن يموت على كفره، وأما وهو حي فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سليمان بن عمر الرقي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، لم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حياً، فإذا مات، وكله إلى شأنه! ثم قال: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، لم يدع.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا فضيل، عن ضرار بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني، فوكله ابنه إلى أهل دينه، فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنه واستغفر له؟ ثم تلا: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه "، الآية.
وتأول آخرون ((الاستغفار))، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثني إسحق قال، حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان قال، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاء بن أبي رباح قال: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشيةً حبلى من الزنا، لأني لم أسمع الله يحجب الصلاة إلا عن المشركين، يقول الله: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ".
وتأوله آخرون، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا، إن أبي مات وهو مشرك.
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى ((الاستغفار)): مسألة العبد ربه غفر الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة، لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسداً، لأن الله عم بالنهي عن الاستغفار للمشرك، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص عن ذلك حالاً أباح فيها الاستغفار له.
وأما قوله: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم "، فإن معناه ما قد بينت، من أنه: من بعد ما يعلمون بموته كافراً أنه من أهل النار.
وقيل: " أصحاب الجحيم "، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها، كما يقال لسكان الدار: ((هؤلاء أصحاب هذه الدار))، بمعنى: سكانها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم "، قال: تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين مات أن التوبة قد انقطعت عنه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: " تبين له " حين مات، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه، يعني في قوله: " من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية، يقول: إذا ماتوا مشركين، يقول الله: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة "، الآية، [المائدة: 72].
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ".
قال بعضهم: معناه: فلما تبين له بموته مشركاً بالله، تبرأ منه، وترك الاستغفار له.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات، تبين له أنه عدو الله.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات لم يستغفر له.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، يعني: استغفر له ما كان حياً، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو عاصم، وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة، قالا، حدثنا شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله: " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، قال: لما مات.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " فلما تبين له أنه عدو لله "، قال: موته وهو كافر.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
... قال، حدثنا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، قال، حين مات ولم يؤمن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، موته وهو كافر.
... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، قال: لما مات.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة :" فلما تبين له أنه عدو لله "، لما مات على شركه، " تبرأ منه ".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه "، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حياً فلما مات على شركه تبرأ منه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، قال: موته وهو كافر.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله، فلم يستغفر له.
... قال، حدثنا أبو أحمد قال، قال أبو إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فلما تبين له أنه عدو لله "، قال: فلما مات.
وقال آخرون: معناه: فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلق به إذا أراد أن يجوز الصراط، فيمر به عليه، حتى إذا كاد أن يجاوزه، حانت من إبراهيم التفاتة، فإذا هو بأبيه في صورة قرد أو ضبع، فيخلي عنه ويتبرأ منه حينئذ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقول يوم القيامة: ((رب والدي، رب والدي))! فإذا كانت الثالثة، أخذ بيده، فيلتفت اليه وهو ضبعان، فيتبرأ منه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيد بن عمير قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد، يسمعكم الداعي، وينفذكم البصر. قال: فتزفر جهنم لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع لركبتيه، ترعد فرائصه! قال: فحسبته يقول: نفسي نفسي! ويضرب الصراط على جهنم كحد السيف، دحض مزلة، وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السعدان. قال: فيمضون كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال، والملائكة يقولون: ((رب سلم سلم))، فناج سالم ومخدوش ناج، ومكدوس في النار، فيقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخذ بحقوي! فيأخذ بضبعيه، فيمسخ ضبعاً، فإذا رآه مسخ تبرأ منه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول الله، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين أن أباه لله عدو، تبرأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدو، وهو به مشرك، وهو حال موته على شركه.
القول في تأويل قوله: " إن إبراهيم لأواه حليم ".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ((الأواه)).
فقال بعضهم: هو الدعاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: ((الأواه))، الدعاء.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا، حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: ((الأواه))، الدعاء.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: سألت عبد الله عن ((الأواه))، فقال: هو الدعاء.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
... قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: ((الأواه))، الدعاء.
... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، وإسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: نبئت عن عبيد بن عمير قال: ((الأواه))، الدعاء.
حدثني إسحق بن شاهين قال، حدثنا داود، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن أبيه قال: ((الأواه))، الدعاء.
وقال آخرون: بل هو الرحيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين قال: سئل عبد الله عن ((الأواه))، فقال: الرحيم.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن أبي العبيدين، رجل ضرير البصر: أنه سأل عبد الله عن ((الأواه))، فقال: الرحيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل، جميعاً، عن المسعودي ، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين: أنه سأل ابن مسعود فقال: ما ((الأواه))؟ قال: الرحيم.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين: أنه جاء الى عبد الله - وكان ضرير البصر - فقال: يا أبا عبد الرحمن، من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رق له، قال: أخبرني عن ((الأواه))؟ قال: الرحيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين قال: سألت عبد الله عن ((الأواه))، فقال: هو الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له: ما حاجتك؟ قال: ما ((الأواه))؟ قال: الرحيم.
... قال، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، رجل من بني سواءة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن ((الأواه))، فقال له عبد الله: الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وهانىء بن سعيد، عن حجاج، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، عن عبد الله قال: ((الأواه))، الرحيم.
حدثني يعقوب وابن وكيع قالا، حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار: أن أبا العبيدين، رجل من بني نمير - قال يعقوب: كان ضرير البصر، وقال ابن وكيع: كان مكفوف البصر - سأل ابن مسعود فقال: ما ((الأواه))؟ قال: الرحيم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة قال: ((الأواه))، الرحيم.
... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحق ، عن أبي ميسرة، مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن إسحق، عن أبي ميسرة، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة ، عن الحسن قال: هو الرحيم.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كنا نحدث أن ((الأواه)) الرحيم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " إن إبراهيم لأواه "، قال: رحيم.
وقال عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود مثل ذلك.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال: ((الأواه))، الرحيم.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله عن ((الأواه)) فقال الرحيم.
... قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق ، عن عمرو بن شرحبيل قال: ((الأواه))، الرحيم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال: ((الأواه))، الرحيم بعباد الله.
... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو خيثمة زهير قال، حدثنا أبو إسحق الهمداني، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل قال: ((الأواه))، الرحيم، بلحن الحبشة.
وقال آخرون: بل هو الموقن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ((الأواه))، الموقن.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك ، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ((الأواه))، الموقن، بلسان الحبشة.
... قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن ، عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس، قال: ((الأواه))، الموقن، بلسان الحبشة.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، سمعت سفيان يقول: ((الأواه))، الموقن، وقال بعضهم: الفقيه الموقن.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن عطاء قال: ((الأواه))، الموقن، بلسان الحبشة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن رجل، عن عكرمة، قال: هو الموقن، بلسان الحبشة.
... قال، حدثنا ابن نمير، عن الثوري ، عن مجالد ، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: ((الأواه))، الموقن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن مسلم ، عن مجاهد قال: ((الأواه))، الموقن.
... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: ((الأواه))، الموقن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ((أواه))، موقن.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ((أواه))، قال: مؤتمن موقن.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " إن إبراهيم لأواه حليم "، قال: ((الأواه))، الموقن.
وقال آخرون: هي كلمة بالحبشة، معناها المؤمن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " لأواه حليم "، قال: ((الأواه))، هو المؤمن، بالحبشية.
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس قوله: " إن إبراهيم لأواه "، يعني: المؤمن التواب.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: ((الأواه))، المؤمن.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج : ((الأواه))، المؤمن، بالحبشية.
وقال آخرون: هو المسبح، الكثير الذكر لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد قال: ((الأواه))، المسبح.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم ابن يناق: " أن رجلاً كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أواه".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حيان، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر قال: ((الأواه))، الكثير الذكر لله.
وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
ذكر من قال ذلك.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة، عن حجاج بن أرطاة، عن عطاء ، عن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتاً، فقال: يرحمك الله، إن كنت لأواهاً، يعني تلاءً للقرآن ".
وقال آخرون: هو من التأوه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي يونس القشيري، عن قاص كان بمكة، " أن رجلاً كان في الطواف فجعل يقول: أوه! قال: فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه، إنه أواه! "
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي يونس الباهلي قال: " سمعت رجلاً بمكة كان أصله رومياً، يحدث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: ((أوه! أوه))، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أواه! "، زاد أبو كريب في حديثه قال: " فخرجت ذات ليلة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلاً ومعه المصباح ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان قال، حدثنا أبو عمران، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال: ((الأواه))، إذا ذكر النار قال: أوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان قال، أخبرنا أبو عمران قال، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول، سمعت كعباً يقول: " إن إبراهيم لأواه "، قال: إذا ذكر النار قال: ((أوه من النار)).
وقال آخرون: معناه:إنه فقيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " إن إبراهيم لأواه "، قال: فقيه.
وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، قال رجل: يا رسول الله، ما ((الأواه))؟قال: المتضرع، قال: " إن إبراهيم لأواه حليم " ".
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن عبد الحميد، عن شهر، عن عبد الله بن شداد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأواه))، الخاشع المتضرع " .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القول الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زر: أنه الدعاء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه فقال: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال: إن إبراهيم لدعاء لربه، شاك له. حليم عمن سبه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له، ودعاء الله له بالمغفرة، عند وعيد أبيه إياه وتهدده له بالشتم، بعد ما رد عليه نصيحته في الله وقوله: " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا "، فقال له صلوات الله عليه، " سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " [مريم: 46 -48]. فوفى لأبيه بالاستغفار له، حتى تبين له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دعاء لربه، حليم عمن سفه عليه.
وأصله من ((التأوه))، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق، كما روى عبد الله بن شداد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما روى عقبة بن عامر، الخبر الذي حدثنيه:
يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثني الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أنه قال لرجل يقال له ((ذو البجادين)): ((إنه أواه))! وذلك أنه رجل كان يكثر ذلك الله بالقرآن والدعاء، ويرفع صوته.
ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: ((لا تتأوه)) كما قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهه الرجل الحزين
ومنه قول الجعدي:
ضروح مروح تتبع الورق بعدما يعرسن شكوى، آهةً وتنمرا
لا تكاد العرب تنطق منه: بـ((فعل يفعل))، وإنما تقول فيه: ((تفعل يتفعل))، مثل: ((تأوه يتأوه))، ((وأوه يؤوه)).
كما قال الراجز:
فأوه الراعي وضوضى أكلبه
وقالوا أيضاً: ((أوه منك))!، ذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده:
فأوه من الذكرى إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض بيننا وسماء
قال: وربما أنشدنا: ((فأو من الذكرى))، بغيرها، ولو جاء ((فعل)) منه على الأصل لكان: ((آه، يؤوه، أوهاً)).
ولأن معنى ذلك: ((توجع، وتحزن، وتضرع))، اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت.
فقال من قال: معناه: ((الرحمة)): إن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرقة على أبيه، والرحمة له، ولغيره من الناس.
وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه، وحسن معرفته بعظمة الله، وتواضعه له.
وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل الله الذي أنزله عليه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر ربه.
وكل ذلك عائد إلى ما قلت، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض، لأن الحزين المتضرع إلى ربه، الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه، ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وجه المفسرون إليها تأويل قول الله: " إن إبراهيم لأواه حليم ".
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه؟ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه". والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا عند عدة. وقال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله، فترك الدعاء له، فالكناية في قوله: إياه ترجع إلى إبراهيم، والواعد أبوه. وقيل: الواعد إبراهيم، أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، فلما مات مشركاً تبرأ منه. ودل على هذا الوعد قوله: "سأستغفر لك ربي" [مريم: 47]. قال القاضي أبو بكر بن العربي: تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: "سأستغفر لك ربي" فأخبر الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعداً قبل أن يتبين الكفر منه، فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد، وقد شاهدت موته كافراً.
الثانية- ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله، بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس:
"يا رسول الله، هل نفعت عمك بشيء؟ قال: نعم". وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار، على ما بيناه في كتاب التذكرة.
الثالثة- قوله تعالى: "إن إبراهيم لأواه حليم" اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولاً: الأول -أنه الدعاء الذي يكثر الدعاء، قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير. الثاني -أنه الرحيم بعباد الله، قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود. والأول أصح إسناداً عن ابن مسعود، قاله النحاس. الثالث -أنه الموقن، قاله عطاء وعكرمة، ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس. الرابع -أنه المؤمن بلغة الحبشة، قاله ابن عباس أيضاً. الخامس -أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر المتوحشة، قاله الكلبي وسعيد بن المسيب. السادس -أنه الكثير الذكر لله تعالى، قاله عقبة بن عامر، "وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يكثر الذكر ويسبح فقال:
إنه لأواه". السابع -أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس.
قلت: وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها. الثامن -أنه المتأوه، قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول: أه من النار قبل ألا تنفع آه. وقال أبو ذر: "كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه فإنه أواه" فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلاً ومعه المصباح. التاسع -أنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي. العاشر -أنه المتضرع الخاشع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أنس: "تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
دعوها فإنها أواهة قيل: يا رسول الله، وما الأواهة؟ قال: الخاشعة". الحادي عشر -أنه الذي إذا ذكر خطاياة استغفر منها، قاله أبو أيوب. الثاني عشر -أنه الكثير التأوه من الذنوب، قاله الفراء. الثالث عشر -أنه المعلم للخير، قاله سعيد بن جبير. الرابع عشر- أنه الشفيق، قاله عبد العزيز بن يحيى. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته ورأفته. الخامس عشر -أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى، قاله عطاء. وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال كعب: كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه. قال الجوهري: قولهم عند الشكاية أوه من كذا (ساكنة الواو) إنما هو توجع. قال الشاعر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض بيننا وسماء
وربما قلبوا الواو ألفاً فقالوا: آه من كذا. وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه من كذا. وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أو من كذا، بلا مد. وبعضهم يقول: آوه، بالمد والتشديد وفتح الواو سكانة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا: أوتاه، يمد ولا يمد. وقد أوه الرجل تأويهاً وتأوه تأوهاً إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد. قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
والحليم: الكثير الحلم، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى. وقيل: الذي لم يعاقب أحداً قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله. وكان إبراهيم عليه السلام كذلك، وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق, حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية, فقال "أي عم, قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال: أنا على ملة عبد المطلب, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم" قال ونزلت فيه "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" أخرجاه. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان, فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الاية, قال لما مات فلا أدري, قاله سفيان أو قاله إسرائيل أو هو في الحديث لما مات, (قلت): هذا ثابت عن مجاهد أنه قال لما مات. وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا زهير, حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر, فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب, فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان, فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال: يا رسول الله مالك ؟ قال "إني سألت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار, وإني كنت نهيتكم عن ثلاث: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكركم زيارتها خيراً. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وأمسكوا ما شئتم, ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً".
وروى ابن جرير من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة, أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبراً, فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت. قال: "إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي" فما رئي باكياً أكثر من يومئذ. وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي, حدثنا خالد بن خداش, حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن جريج عن أيوب بن هانىء عن مسروق عن عبد الله بن مسعود, قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها, فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه, ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب فدعاه ثم دعانا, فقال "ما أبكاكم ؟" فقلنا بكينا لبكائك. قال: "إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة, وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي" ثم أورده من وجه آخر, ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريباً منه, وفيه "وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل علي "ما كان للنبي والذين آمنوا" الاية, فأخذني ما يأخذ الولد للوالد, وكنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها فإنها تذكر الاخرة".
(حديث آخر) في معناه. قال الطبراني: حدثنا محمد بن علي المروزي, حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب, حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان, عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر, فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم, فذهب فنزل على قبر أمه فناجى ربه طويلاً, ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه, وقالوا ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث الله في أمته شيئاً لا تطيقه, فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال: "ما يبكيكم ؟" قالوا يا نبي الله بكينا لبكائك, فقلنا لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه, قال: "لا, وقد كان بعضه, ولكن نزلت على قبر أمي فسألت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى الله أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فبكيت, ثم جاءني جبريل فقال: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه, فرحمتها وهي أمي ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعاً فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين, ودعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعاً وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض, فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج" وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم, وهذا حديث غريب وسياق عجيب, وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاحق بسند مجهول عن عائشة في حديث فيه قصة, أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت, وكذلك ما رواه السهيلي في الروض بسند فيه جماعة مجهولون: إن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به. وقد قال الحافظ ابن دحية في هذا الاستدلال, بما حاصله أن هذه حياة جديدة كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها, فصلى علي العصر, قال الطحاوي: وهو حديث ثابت يعني حديث الشمس, قال القرطبي: فليس إحياؤهما يمتنع عقلاً ولا شرعاً, قال وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب فآمن به, (قلت) وهذا كله متوقف على صحة الحديث فإذا صح فلا مانع منه, والله أعلم .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الاية, أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه فنهاه الله عز وجل عن ذلك, فقال "إن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه" فأنزل الله "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه" الاية, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية, كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الاية, فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا, ثم أنزل الله "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه" الاية, وقال قتادة في الاية: ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم ؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "بلى والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه" فأنزل الله "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" حتى بلغ قوله "الجحيم" ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام, فقال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه" الاية, قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أوحى الله إلي كلمات فدخلن في أذني وقرن في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركاً, ومن أعطى فضل ماله فهو خير له, ومن أمسك فهو شر له, ولا يلوم الله على كفاف".
وقال الثوري عن الشيباني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه, فذكر ذلك لابن عباس فقال: فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حياً, فإذا مات وكله إلى شأنه, ثم قال: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " لم يدع. ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه, لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله: إن عمك الشيخ الضال قد مات, قال: "اذهب فواره ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني" فذكر تمام الحديث, وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال: "وصلتك رحمة يا عم" وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة, ولو كانت حبشية حبلى من الزنا, لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين, يقول الله عز وجل: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الاية.
وروى ابن جرير, عن ابن وكيع عن أبيه عن عصمة بن زامل عن أبيه, قال: سمعت أبا هريرة يقول رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه, قلت ولأبيه. قال لا. قال إن أبي مات مشركاً, وقوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه" قال ابن عباس: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه, وفي رواية لما مات تبين له أنه عدو لله, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم رحمهم الله, وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حتى يلقى أباه, وعلى وجه أبيه القترة والغبرة, فيقول: يا إبراهيم إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك, فيقول أي رب ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون, فأي خزي أخزى من أبي الأبعد, فيقال انظر إلى ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ, أي قد مسخ ضبعاً ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار. وقوله: "إن إبراهيم لأواه حليم" قال سفيان الثوري وغير واحد: عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود, أنه قال الأواه الدعاء, وكذا روي من غير وجه: عن ابن مسعود, وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا الحجاج بن منهال, حدثني عبد الحميد بن بهرام, حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد, قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس قال: رجل يا رسول الله ما الأواه ؟ قال: "المتضرع" قال: "إن إبراهيم لأواه حليم" ورواه ابن أبي حاتم: من حديث ابن المبارك عن عبد الحميد بن بهرام به, ولفظه قال الأواه المتضرع الدعاء. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي الغدير, أنه سأل ابن مسعود عن الأواه فقال هو الرحيم, وبه قال مجاهد وأبو ميسرة عمر بن شرحبيل والحسن البصري وقتادة وغيرهما أي الرحيم أي بعباد الله.
وقال ابن المبارك عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس, قال: الأواه الموقن بلسان الحبشة, وكذا قال العوفي عن ابن عباس أنه الموقن, وكذا قال مجاهد والضحاك, وقال علي بن أبي طلحة ومجاهد عن ابن عباس: الأواه المؤمن, زاد علي بن أبي طلحة عنه: هو المؤمن التواب, وقال العوفي عنه هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جريج هو المؤمن بلسان الحبشة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين "إنه أواه" وذلك أنه رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته بالدعاء, ورواه ابن جرير. وقال سعيد بن جبير والشعبي: الأواه المسبح, وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه, وقال شفي بن مانع عن أبي أيوب, الأواه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها, وعن مجاهد الأواه الحفيظ الوجل يذنب الذنب سراً ثم يتوب منه سراً, ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه الله. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا المحاربي عن حجاج عن الحكم عن الحسن بن مسلم بن بيان, أن رجلاً كان يكثر ذكر الله ويسبح, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "إنه أواه".
وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن هانىء, حدثنا المنهال بن خليفة عن حجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس, أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتاً فقال: "رحمك الله إن كنت لأواها" يعني تلاء للقرآن, وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي, قال سمعت رجلاً بمكة وكان أصله رومياً وكان قاصاً يحدث عن أبي ذر, قال: كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه: أوه أوه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "إنه أواه" قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلاً ومعه المصباح, هذا حديث غريب رواه ابن جرير. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: سمعت "إن إبراهيم لأواه" قال كان إذا ذكر النار قال: أوه من النار, وقال ابن جريج عن ابن عباس "إن إبراهيم لأواه" قال: فقيه. قال الإمام أبو جعفر بن جرير: وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعاء وهو المناسب للسياق, وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه, وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليماً عمن ظلمه وأناله مكروهاً, ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله "أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً" فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر, ولهذا قال تعالى: "إن إبراهيم لأواه حليم".
قوله: 114- "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه" الآية: ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له. ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدو الله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار. ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدل على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا صلى الله عليه وسلم بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل. وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام، وهو ضعيف جداً. وقيل: المراد بالاستغفار في هذه الآية النهي عن الصلاة على جنائز الكفار، فهو كقوله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً" ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم، فقال: "إن إبراهيم لأواه" وهو كثير التأوه كما تدل على ذلك صيغة المبالغة.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأواه، فقال ابن مسعود وعبيد بن عمير: إنه الذي يكثر الدعاء. وقال الحسن وقتادة: إنه الرحيم بعباد الله. وروي عن ابن عباس: أنه المؤمن بلغة الحبشة. وقال الكلبي: إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر. وروي مثله عن ابن المسيب، وقيل: الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد، روي ذلك عن عقبة بن عامر. وقيل: هو الذي يكثر التلاوة، حكي ذلك عن ابن عباس. وقيل: إنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي. وقيل: المتضرع الخاضع، روي ذلك عن عبد الله بن شداد بن الهاد. وقيل: هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها، روي ذلك عن أبي أيوب. وقيل: هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى. وقال: إنه المعلم للخير. وقيل: إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله قاله عطاء. والمطابق لمعنى الأواه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوه من ذنوبه، فيقول مثلاً: آه من ذنوبي آه مما أعاقب به بسببها ونحو ذلك، وبه قال الفراء، وهو مروي عن أبي ذر، ومعنى التأوه هو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال في الصحاح: وقد أوه الرجل تأويهاً، وتأوه تأوهاً إذا قال أوه، والاسم منه آهة بالمد، قال:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
و "حليم" الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى، وقيل الذي لا يعاقب أحداً قط إلا الله.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال:" لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاندانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: "ما كان للنبي" الآية وأنزل الله في أبي طالب "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"." وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "ما كان للنبي" الآية. وأخرج ابن سعد
وابن عساكر عن علي قال: "أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب، فبكى، فقال:اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه، ففعلت، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه "ما كان للنبي" الآية". وقد روي كون سبب نزول الآية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة: منها عن محمد بن كعب عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ مرسل. ومنها عن عمرو بن دينار عند ابن جرير وهو مرسل أيضاً. ومنها عن سعيد بن المسيب عند ابن جرير، وهو مرسل أيضاً. ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد وأبي الشيخ وابن عساكر. ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر وهو مرسل. وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه واستغفاره لها من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، وعن بريدة عند ابن مردويه وما في الصحيحين مقدم على ما لم يكن فيهما على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى قوله: "كما ربياني صغيراً" قال: ثم استثنى فقال: "ما كان للنبي" إلى قوله: "إلا عن موعدة وعدها إياه". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " فلما تبين له أنه عدو لله " قال: تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو الله فتبرأ منه. وأخرج ابن مردويه عن جابر "أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض صوته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإنه أواه". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عقبة بن عامر" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين: إنه أواه"، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء. وأخرجه أيضاً أحمد قال: حدثنا موسى بن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر فذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: قال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع الدعاء. وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأواه، وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدثني المثنى، حدثني الحجاج بن منهال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد فذكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن إبراهيم لأواه حليم" قال: كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله.
114-قوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه "، قال بعضهم: الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم عليه السلام. والوعد كان من أبيه، وذلك أن أباه كان وعده أن يسلم، فقال له إبراهيم سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت.
وقال بعضهم الهاء راجعة إلى الأب، وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه. وهو قوله: "سأستغفر لك ربي". يدل عليه قراءة الحسن: وعدها أباه، بالباء الموحدة.
والدليل على أن الوعد من إبراهيم، وكان الاستغفار في حال شرك الأب، قوله تعالى: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم"، إلى أن قال: "إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك" (الممتحنة -4) فصرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار، وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم.
"فلما تبين له أنه عدو لله"، لموته عل الكفر، "تبرأ منه"، وقيل: فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه أي: يتبرأ منه، وذلك ما:
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟! فيقول له أبوه:فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم عليه السلام: يا ربي إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا إبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" وفي رواية: يتبرأ منه يومئذ.
قوله تعالى: "إن إبراهيم لأواه حليم"، اختلفوا في معنى الأواه، جاء في الحديث: "إن الأواه الخاشع المتضرع".
وقال عبد الله بن مسعود: الأواه الدعاء.
وعن ابن عباس قال: هو المؤمن التواب.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله.
وقال مجاهد: الأواه الموقن.
وقال عكرمة: هو المستيقن بلغة الحبشة.
وقال كعب الأحبار: هو الذي يكثر التأوه، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول: آه من النار، قبل أن لا ينفع آه.
وقيل: هو الذي يتأوه من الذنوب.
وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله تعالى.
وعن سعيد بن جبير قال: الأواه المسبح. وروي عنه: الأواه: المعلم للخير.
وقال النخعي: هو الفقيه.
وقال عطاء: هو الراجع عن كل ما يكره الله. وقال أيضا: هو الخائف من النار.
وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا. يريد أن يكون تضرعه يقينا ولزوما للطاعة.
قال الزجاج: قد انتظم في قول أبي عبيدة أكثر ما قيل في الأواه.
وأصله: من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء، والفعل منه أوه وتأوه، والحليم الصفوح عمن سبه أو ناله بالمكروه، كما قال لأبيه، عند وعيده، وقوله " لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي " (مريم -46)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحليم السيد.
114. :"وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه" وعدها إبراهيم أباه بقوله:"لأستغفرن لك"أي لأطلبن مغفرتك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب ما قبله ، ويدل عليه قراءة من قرأ(أباه)، أو (وعدها إبراهيم أبوه) وهي الوعد بالإيمان "فلما تبين له أنه عدو لله"بأن مات على الكفر ،أو أوحي إليه بأنه لن يؤمن "تبرأ منه"قطع استغفاره . "إن إبراهيم لأواه" لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه." حليم"صبور على الأذى ، والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع شكاسته عليه.
114. The prayer of Abraham for the forgiveness of his father was only because of a promise he had promised him, but when it had become clear unto him that he (his father) was an enemy to Allah he (Abraham) disowned him. Lo! Abraham was soft of heart, lone suffering.
114 - And Abraham prayed for his father's forgiveness only because of a promise he had made to him. but when it became clear to him that he was an enemy to God, he dissociated himself from him: for Abraham was most tender hearted, forbearing.