114 - (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا) أي يوم نزولها (عيدا) نعظمه ونشرفه (لأولنا) بدل من لنا بإعادة الجار (وآخرنا) لمن يأتي بعدنا (وآية منك) على قدرتك ونبوتي (وارزقنا) إياها (وأنت خير الرازقين)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم ، أنه أجاب القوم إلى ما سألوه من مسألة ربه مائدة تنزل عليهم من السماء.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا".
فقال بعضهم : معناه : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا"، يقول : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا"، قال : أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : "أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا"، قال : الذين هم أحياء منهم يومئذ، "وآخرنا"، من بعدهم منهم .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، قال سفيان : "تكون لنا عيدا"، قالوا : نصلي فيه . قال نزلت مرتين .
وقال آخرون : معناه : نأكل منها جميعاً.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس أنه قال : أكل منها -يعني : من المائدة- حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس ، كما أكل منها أولهم.
وقال آخرون : معنى قوله : "عيدا"، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهاناً.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب ، قول من قال : معناه : تكون لنا عيداً، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه ، ونصلي له فيه ، كما يعبد الناس في أعيادهم لا، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في العيد، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال : معناه : عائدة من الله علينا . وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به ، أولى من توجيهه إلى المجهول منه ، ما وجد إليه السبيل .
وأما قوله : "لأولنا وآخرنا"، فإن الأولى من تأويله بالصواب ، قول من قال : تأويله : للأحياء منا اليوم ، ومن يجيء بعدنا منا، للعلة التي ذكرناها في قوله : "تكون لنا عيدا"، لأن ذلك هو الأغلب من معناه .
وأما قوله : "وآية منك"، فإن معناه : وعلامة وحجة منك يا رب ، على عبادك في وحدانيتك، وفي صدقي على أني رسول إليهم بما أرسلتني به ، "وارزقنا وأنت خير الرازقين"، وأعطنا من عطائك ، فإنك يا رب خير من يعطي ، وأجود من تفضل ، لأنه لا يدخل عطاءه من ولا نكد.
وقد اختلف أهل التأويل في المائدة، هل أنزلت عليهم أم لا؟ وما كانت ؟ .
فقال بعضهم : نزلت ، وكانت حوتاً وطعاماً، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداث منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نزلت المائدة، خبزا وسمكا.
حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي ، عن الفضيل ، عن عطية قال : المائدة، سمكة فيها طعم كل طعام .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن فضيل ، عن مسروق ، عن عطية قال : المائدة، سمك فيه من طعم كل طعام .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال : نزلت المائدة خبزا وسمكا .
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين ، خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المنذر بن النعمان: أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : "أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا"، قال : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات . قال الحسن ، قال أبو بكر: فحدثت به عبد الصمد بن معقل فقال : سمعت وهباً، وقيل له : وما كان ذلك يغني عنهم ؟ فقال : لا شيء ، ولكن الله حثا بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، وجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال : هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : "مائدة من السماء"، قال : مائدة عليها طعام ، أتوا بها، حين عرض عليهم العذاب إن كفروا . ألوان من طعام ينزل عليهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله : أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، ياكلون منها ما شاؤوا. قال : فسرق بعضهم منها وقال : لعلها لا تنزل غداً! فرفعت .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن سماك بن حرب ، عن رجل من بني عجل قال : صليت إلى جنب عمار بن ياسر، فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شان مائدة بني إسرائيل ؟ قال فقلت : لا! قال : إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال : فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإني أعذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ! قال : فما تم يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا، فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين . وإنكم معشر العرب ، كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم ، تعرفون حسبه ونسبه ، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهرون على العرب ، ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة . وايم الله ! لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما، ويعذبكم عذابا أليماً.
حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير".
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا يوسف بن خالد قال ، حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة، عن ابن عباس ، في المائدة قال : كانت طعاماً ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.
وقال آخرون : كانت المائدة تنزل وعليها ثمر من ثمار الجنة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار قال : نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمر الجنة، فأمروا أن لا يخبأوا ولا يخونوا ولا يدخروا ، قال : فخان القوم وخبأوا وادخروا، فحولهم الله قردة وخنازير.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة، وأمروا أن لا يخبأوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به ، وكانوا إذا فعلوا شيئاً من ذلك ، أنباهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبأوا وادخروا لغد.
وقال آخرون : كان عليها من كل طعام إلا اللحم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل ، اختلفت عليها الأيدي بكل طعام .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان قالا: كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن زاذان وميسرة، في : "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، قالا: رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم .
وقال آخرون : لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة.
ثم اختلف قائلو هذه المقالة.
فقال بعضهم : إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه ، نهاهم به عن مسألة نبي الله الآيات .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : "أنزل علينا مائدة من السماء"، قال : مثل ضرب ، لم ينزل عليهم شيء.
وقال آخرون : إن القوم لما قيل لهم : "فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين"، استعفوا منها فلم تنزل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : "فمن يكفر بعد منكم"، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها! فلم تنزل .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن : أنه قال في المائدة : لم تنزل .
حدثنى الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام ، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم .
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه.
وإنما قلنا ذلك ، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم ، غير من انفرد بما ذكرنا عنه .
وبعد: فإن الله تعالى ذكره لا لخلف وعده ، ولا يقع في خبره الخلف ، وقد قال تعالى ذكره مخبراً في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك : "إني منزلها عليكم"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره : "إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول : "إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها عليهم ، جاز إن يقول : فمن يكفر بعد منكم فإني معذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، ثم يكفر منهم بعد ذلك ، فلا يعذبه ، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك .
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال : كان عليها مأكول . وجائز أن يكون كان سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون كان ثموا من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به ، ولا ضار الجهل به ، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل.
قوله تعالى :" قال عيسى ابن مريم " الأصل عند سيبويه يا الله ، والميمان بدل من يا رينا نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه " أنزل علينا مائدة " المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها الطعام، فإن لم يكن قيل : خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ونمه قول رؤبة أنشد الأخفش :
تهدي رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستطعي المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الأكلين الطعام ويسمى الطعام أيضاً مائدة تجوزاً، لأنه يؤكل على المائدة كقولهم للمطر سماء، وقال أهل الكوفة : سمت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم: ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر:
لعلك باك إن تغنت حمامة يميد بها غضن بن الأيك مائل
وقال آخر:
وأقلقني قتل الكناني بعده فكادت بي الأرض الفضاء تميد
ومنه قوله تعالى :" وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" [ النحل : 15] قال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل " عيشة راضية " [ الحاقة: 21 والقارعة : 7] بمعنى مرضية و" ماء دافق " [الطارق: 7] أي مدفوق قوله تعالى : " تكون لنا عيدا" تكون نعت لمائدة وليس بجواب.
وقرأ الأعمش تكن على الجواب والمعنى: يكون يوم نزولها " عيدا لأولنا " أي الأول أمتنا وآخرها فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيداً والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال : للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد، قاله الجوهري وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود الواو ، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر ولأضحى : عيداً لأنهما يعودان كل سنة وقال الخليل: العيد يوم يجمع كأنهم عادوا إليه وقال ابن الأنباري: سمي عيداً للعود في المرح والفرح، فهو يوم سرور الخلق كلهم ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون، ولا يصاد الوحش ولا الطيور لولا تنفذ الصبين إلى المكاتب وقيل: سمي عيداً لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته، ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيهاً بالعيد وهو فح كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية قال:
عيدية أرهنت فيها الدنانير
وقد تقدم وقرأ بن ثابت لأولانا وأخرانا على الجميع قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم " وآية منك " يعني دلالة وحجة " وارزقنا " أي أعطنا " وأنت خير الرازقين " أي خير من أعطى ورزق لأنك الغني الحميد .
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة, فيقال سورة المائدة, وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها, فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة, وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل, ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين, فالله أعلم, فقوله تعالى: "إذ قال الحواريون" وهم أتباع عيسى عليه السلام "يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك" هذه قراءة كثيرين, وقرأ آخرون " هل يستطيع ربك " أي هل تستطيع أن تسأل ربك "أن ينزل علينا مائدة من السماء" والمائدة هي الخوان عليه الطعام, وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم, فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة "قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم, وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين, "قالوا نريد أن نأكل منها" أي نحن محتاجون إلى الأكل منها, "وتطمئن قلوبنا" إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء, "ونعلم أن قد صدقتنا" أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك "ونكون عليها من الشاهدين" أي ونشهد أنها الاية من عند الله, ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا, وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا "وآية منك" أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي, فيصدقوني فيما أبلغه عنك, "وارزقنا" أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب " وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم " أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها, "فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" أي من عالمي زمانكم, كقوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ", وقوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار", وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس, عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون .
ذكر أخبار رويت عن السلف
في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, حدثني حجاج عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم, فإن أجر العامل على من عمل له, ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير, قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له, وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً, فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم, كذا رواه ابن جرير, ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب, عن الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث, فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد, حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء, قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها, عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي, حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس, عن عمار بن ياسر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم, وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد, فخانوا وادخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير, وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة, ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار, عن ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن جلاس, عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة, فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا, قال: فخان القوم وخبأوا وادخروا, فمسخهم الله قردة وخنازير.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل, قال: صليت إلى جانب عمار بن ياسر, فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: قلت: لا. قال: إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد, قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا, فإن فعلتم فإني معذبكم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا, فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم, ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة, وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذاباً أليماً. وقال: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثني حجاج عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة, نزلت على عيسى بن مريم, عليها سبعة أرغفة, وسبعة أحوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً, فرفعت.
وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك, يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف, عن عكرمة ومقسم, عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة, وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً. وقال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل, فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة, فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى, فكان يقعد عليها أربعة آلاف, وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم, فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات, وحشا الله بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار, عن إبراهيم بن عمر, عن وهب بن منبه, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الخير, أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة, كره ذلك جداً, فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض, ولا تسألوا المائدة من السماء, فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم, وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها, فأبوا إلا أن يأتيهم بها, فلذلك "قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا" الاية, فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها, قام فألقى عنه الصوف, ولبس الشعر الأسود, وجبة من شعر, وعباءة من شعر, ثم توضأ واغتسل, ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله, فلما قضى صلاته, قام قائماً مستقبل القبلة, وصف قدميه حتى استويا, فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع, ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره, وغض بصره, وطأطأ رأسه خشوعاً, ثم أرسل عينيه بالبكاء, فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه, فلما رأى ذلك دعا الله فقال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها, وغمامة تحتها, وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم, وعيسى يبكي خوفاً من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها, أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم, ولا تجعلها عذاباً, إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني, إلهي اجعلنا لك شاكرين, اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً, إلهي اجعلها سلامة وعافية, ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط, وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا, وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة, وأقبلت اليهود ينظرون, فرأوا أمراً عجيباً أورثهم كمداً وغماً, ثم انصرفوا بغيظ شديد, وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة, فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة, وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الاية حتى نراها, ونحمد ربنا, ونذكر باسمه, ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته, أنت أولانا بذلك, وأحقنا بالكشف عنها, فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءاً جديداً, ثم دخل مصلاه, فصلى كذلك ركعات, ثم بكى بكاء طويلاً, ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها, ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً, ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل, وقال: بسم الله خير الرازقين, وكشف عن السفرة, فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية, ليس عليها بواسير, ليس في جوفها شوك, يسيل السمن منها سيلاً, قد نضد بها بقول من كل صنف غير الكراث, وعند رأسها خل, وعند ذنبها ملح, وحول البقول خمسة أرغفة, على واحد منها زيتون, وعلى الاخر تمرات, وعلى الاخر خمس رمانات, فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته, أمن طعام الدنيا هذا, أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الايات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الاية ؟ فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالاً يا ابن الصديقة, فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة, إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة, فقال له: كن فكان أسرع من طرفة عين, فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم, يمدكم منه ويزدكم, فإنه بديع قادر شاكر, فقالوا: يا روح الله وكلمته, إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الاية, فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الاية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة, فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت, فأحياها الله بقدرته, فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية, تلمظ كما يتلمظ الأسد, تدور عيناها, لها بصيص, وعادت عليها بواسيرها, ففزع القوم منها وانحازوا, فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الاية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون, يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت, فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول, فقالوا: يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد, فقال عيسى: معاذ الله من ذلك, يبدأ بالأكل من طلبها, فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها, خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة, فتحاموها, فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم, واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم, وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله, ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة, يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ, ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء, ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون, فاستغنى كل فقير أكل منها, وبرىء كل زمن أكل منها, فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا, وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم, وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات, قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضاً, الأغنياء والفقراء, والصغار والكبار, والأصحاء والمرضى, يركب بعضهم بعضاً, فلما رأى ذلك جعلها نوباً بينهم تنزل يوماً ولا تنزل يوماً, فلبثوا على ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى, فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا, ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله, وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام: أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى, والزمنى دون الأغنياء من الناس, وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم, وشككوا فيها الناس, وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر, وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى, أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق, فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح, طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم, فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقاً, وأراكم فيها الايات والعبر, كذبتم بها, وشككتم فيها, فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله, فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين, فلما كان في آخر الليل, مسخهم الله خنازير, فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات, هذا أثر غريب جداً, قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة, وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل, والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الاثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم, إجابة من الله لدعوته, كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم "قال الله إني منزلها عليكم" الاية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل, فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء, قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم هو ابن سلام, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تنزل عليهم, وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل, وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم "فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل, وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن, وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى, وليس هو في كتابهم, ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله, وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً, ولا أقل من الاحاد, والله أعلم, ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت, وهو الذي اختاره ابن جرير, قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى "إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق, وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والاثار عن السلف وغيرهم.
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب, وجد المائدة هنالك مرصعة باللالىء وأنواع الجواهر, فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق, فمات وهي في الطريق, فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده, فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة, ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام, فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم, عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال "وتفعلون ؟" قالوا نعم. قال فدعا, فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال "بل باب التوبة والرحمة" ثم رواه أحمد وابن مردويه, والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به .
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" أي كائنة أو نازلة من السماء، وأصل اللهم عند سيبويه وأتباعه: يا الله، فجعلت الميم بدلاً من حرف النداء، وربنا نداء ثان، وليس بوصف، و "تكون لنا عيداً" وصف لمائدة. وقرأ الأعمش يكون لنا عيداً أي يكون يوم نزولها لنا عيداً، وقد كان نزولها يوم الأحد، وهو يوم عيد لهم، والعيد واحد الأعياد، وإنما جميع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود، ذكر معناه الجوهري، وقيل أصله من عاد يعود: أي رجع فهو عود بالواو، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان، لأنهما يعودان في كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. وقوله: "لأولنا وآخرنا" بدل من الضمير في لنا بتكرير العامل: أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله: "وآية منك" عطف على "عيداً": أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته "وارزقنا" أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك "وأنت خير الرازقين" بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك.
114- " قال عيسى ابن مريم "، عند ذلك، " اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء "، وقيل: إنه اغتسل وليس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصرة وبكى، ثم قال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء،" تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " ، أي: عائدة من الله علينا حجة وبرهاناً، والعيد: يوم السرور، سمي به للعود من الترح إلى الفرح، وهو اسم لما أعتدته ويعود إليك، وسمي يوم الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة، قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً لأولنا وآخرنا، أي: نعظمة نحن ومن بعدنا، وقال سفيان: نصلي فيه، قوله " لأولنا " أي : لأهل زماننا " وآخرنا " ، أي: يجيء بعدنا،وقال أبن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم، " وآية منك "، دلالة وحجة، " وارزقنا وأنت خير الرازقين " .
114"قال عيسى ابن مريم" لما رأى منهم غرضاً صحيحاً في ذلك، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا " أي يكون يوم نزولها عيداً نعظمه. وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً. وقرئ "تكن" على جواب الأمر. " لأولنا وآخرنا " بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا. روي: أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً. وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا. وقرئ " لأولنا وآخرنا " بمعنى الأمة أو الطائفة. "وآيةً" عطف على "عيداً". "منك" صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي. "وارزقنا" المائدة والشكر عليها. " وأنت خير الرازقين " أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.
114. Jesus, son of Mary, said: O Allah, Lord of us! Send down for us a table spread with food from heaven, that it may be a feast for Us, for the first of us and for the last of us, and a sign from Thee. Give us sustenance, for Thou art the Best of Sustainers.
114 - Said Jesus the son of Mary: O God our lord send us from heaven a table set (with viands), that there may be for us for the first and the last of us a solemn festival and a sign from thee; and provide for our sustenance, for thou art the best sustainer (of our needs).