11 - (الذين يرثون الفردوس) هو جنة أعلى الجنان (هم فيها خالدون) في ذلك إشارة إلى المعاد ويناسبه ذكر المبدأ بعده
يقول تعالى ذكره : " الذين يرثون " البستان ذا الكرم ، وهو الفردوس . عن العرب وكان مجاهد يقول : هو بالرومية .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : " الذين يرثون الفردوس " قال : الفردوس : بستان بالرومية .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : عدن : حديقة في الجنة قصرها فيها عدنها خلقها بيده ، تفتح كل فجر فينظر فيها ، ثم يقول : " قد أفلح المؤمنون " قال : هي الفردوس أيضا تلك الحديقة ، قال مجاهد : غرسها الله بيده ، فلما بلغت قال : " قد أفلح المؤمنون " ثم أمر بها تغلق فلا ينظر فيها خلق ولا ملك مقرب ، ثم تفتح كل سحر فينظر فيها فيقول : " قد أفلح المؤمنون " ثم تغلق إلى مثلها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قتل حارثة بن سراقة يوم بدر ، فقالت أمه : يا رسول الله ، إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه ، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء ، قال : يا أم حارثة ، إنها جنبان في جنة ، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة عن كعب ، قال : خلق الله بيده جنة الفردوس ، غرسها بيده ، ثم قال : تكلمي ، قالت : " قد أفلح المؤمنون " .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن حسام بن مصك ، عن قتادة أيضا ، مثله ، غير أنه قال : تكلمي ، قالت : طوبى للمتقين .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي داود نفيع ، قال : لما خلقها الله ، قال لها تزيني ، فتزينت ، ثم قال لها : تكلمي ، فقالت : طوبى لمن رضيت عنه .
وقوله : " هم فيها خالدون " يعني ماكثون فيها ، يقول : هؤلاء الذين يرثون الفردوس خالدون يعني ماكثون فيها أبدا ، لا يتحولون عنها
ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين:
" والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ". خرجه الترمذي من حديث الربيع بن النضر أم حارثة، وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث مسلم :
" فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة ". قال أبو حاتم محمد بن حبان: قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه أوسط الجنة " يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد في الارتفاع. وهذا كله يصحح قول أبي هريرة: إن الفردوس جبر الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة. واللفظة فيما قال مجاهد : رومية عربت. وقيل: هي فارسية عربت. وقيل حبشية، وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات. وقال الضحاك : وهو عربي وهو الكرم، والعرب تقول للكروم فراديس. " هم فيها خالدون " فأنث على معنى الجنة.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري ؟ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال "اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, وارض عنا وأرضنا ـ ثم قال ـ لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ: "قد أفلح المؤمنون" حتى ختم العشر, ورواه الترمذي في تفسيره, والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به, وقال الترمذي : منكر لا نعرف أحداً رواه غير يونس بن سليم , ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره: أنبأنا قتيبة بن سعيد , حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فقرأت " قد أفلح المؤمنون " حتى انتهت إلى " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم: لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها: تكلمي, فقالت: "قد أفلح المؤمنون" قال كعب الأحبار : لما أعد لهم من الكرامة فيها. وقال أبو العالية : فأنزل الله ذلك في كتابه.
وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً, فقال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى , حدثنا المغيرة بن سلمة , حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة , عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وغرسها وقال لها: تكلمي, فقالت: "قد أفلح المؤمنون" فدخلتها الملائكة, فقالت: طوبى لك منزل الملوك, ثم قال: وحدثنا بشر بن آدم , وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري , حدثنا عدي بن الفضل , حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك ـ قال البزار : ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث ـ حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك. فقال لها: تكلمي, فقالت: "قد أفلح المؤمنون" فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك" ثم قال البزار : لا نعلم أحداً رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ. وهو شيخ متقدم الموت.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي , حدثنا هشام بن خالد , حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم قال لها: تكلمي, فقالت "قد أفلح المؤمنون"" بقية عن الحجازيين ضعيف. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة , حدثنا منجاب بن الحارث , حدثنا حماد بن عيسى العبسي , عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه "لما خلق الله جنة عدن بيده, ودلى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها, ثم نظر إليها فقال: "قد أفلح المؤمنون" قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن المثنى البزار , حدثنا محمد بن زياد الكلبي , حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء ولبنة من يا قوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران, ثم قال لها انطقي, قالت: "قد أفلح المؤمنون" فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
وقوله تعالى: "قد أفلح المؤمنون" أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح, وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف "الذين هم في صلاتهم خاشعون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "خاشعون" خائفون ساكنون, وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب, وكذا قال إبراهيم النخعي . وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم, فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح, وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم, إلى السماء في الصلاة, فلما نزلت هذه الاية: "قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون" خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين : وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه, فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضاً مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الاية, والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها, وحينئذ تكون راحة له وقرة عين, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حبب إلي الطيب والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال "أرحنا بالصلاة" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , حدثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار, فحضرت الصلاة, فقال: يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح, فرآنا أنكرنا عليه ذلك, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة".
وقوله: "والذين هم عن اللغو معرضون" أي عن الباطل, وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم, والمعاصي كما قاله آخرون, وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال, كما قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً" قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله: "والذين هم للزكاة فاعلون" الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال, مع أن هذه الاية مكية, وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة, والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة, وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة, كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: "وآتوا حقه يوم حصاده" وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس, كقوله: "قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها" وكقوله " وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة " على أحد القولين في تفسيرهما, وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال, فإنه من جملة زكاة النفوس, والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا, والله أعلم.
وقوله "والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط, لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج, ولهذا قال: "فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك" أي غير الأزواج والإماء "فأولئك هم العادون" أي المعتدون. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا عبد الأعلى , حدثنا سعيد عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأولت آية من كتاب الله "أو ما ملكت أيمانهم" فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها, قال: فضرب العبد وجز رأسه, وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم, هذا أثر غريب منقطع, ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا أليق, وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها, والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الاية الكريمة "والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين, وقد قال الله تعالى: "فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون" وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد , عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين, ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده, والفاعل والمفعول به, ومدمن الخمر, والضارب والديه حتى يستغيثا, والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه, والناكح حليلة جاره" هذا حديث غريب, وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته, والله أعلم.
وقوله: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها, وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان". وقوله: "والذين هم على صلواتهم يحافظون" أي يواظبون عليها في مواقيتها, كما قال ابن مسعود : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي ؟ قال بر الوالدين. قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد في سبيل الله". أخرجاه في الصحيحين . وفي مستدرك الحاكم قال: "الصلاة في أول وقتها".
وقال ابن مسعود ومسروق في قوله: "والذين هم على صلواتهم يحافظون" يعني في مواقيت الصلاة, وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة . وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها, وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: " أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ". وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس, فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة, وفوقه عرش الرحمن".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة, ومنزل في النار, فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله, فذلك قوله: "أولئك هم الوارثون"" وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد "أولئك هم الوارثون" قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار, فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار, وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له, فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة, وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له, أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضاً, وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال, فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى", وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً, فيقال: هذا فكاكك من النار" فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات, أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: فحلف له, قلت: وهذه الاية كقوله تعالى: "تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً" وكقوله: "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير , الجنة بالرومية هي الفردوس, وقال بعض السلف: لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب, فا لله أعلم.
ثم بين الموروث بقوله: 11- "الذين يرثون الفردوس" وهو أوسط الجنة، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان، وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم. وقيل المعنى: أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم، لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار. ولفظ الفردوس لغة رومية معربة، وقيل فارسية، وقيل حبشية، وقيل هي عربية، وجملة "هم فيها خالدون" في محل نصب على الحال المقدرة، أو مستأنفة لا محل لها، ومعنى الخلود أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة.
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر، والعقيلي والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب قال: " كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوماً فمكثنا ساعة، فسري عنه فاستقبل القبلة فقال:اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ "قد أفلح المؤمنون" حتى ختم العشر" وفي إسناده يونس بن سليم الإيلي. قال النسائي: لا نعرف أحداً رواه عن ابن شهاب إلا يونس بن سليم ويونس لا نعرفه. وأخرج البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن، ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنين؟ فقرأ "قد أفلح المؤمنون" حتى بلغ العشر، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي في سننه عن محمد بن
سيرين قال: نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت "الذين هم في صلاتهم خاشعون". وأخرجه عبد الرزاق عنه، وزاد: فأمره بالخشوع فرمي ببصره نحو مسجده. وأخرجه عنه أيضاً عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن بلفظ: كان إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا، يميناً وشمالاً، فنزلت "الذين هم في صلاتهم خاشعون" فحنى رأسه. وروي عنه من طرق مرسلاً هكذا. وأخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت "الذين هم في صلاتهم خاشعون" فطأطأ رأسه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين بلفظ: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون رؤوسهم وأبصارهم إلى السماء في الصلاة ويلتفتون يميناً وشمالاً، فأنزل الله " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون " فمالوا برؤوسهم فلم يرفعوا أبصارهم بعد ذلك في الصلاة، ولم يلتفتوا يميناً وشمالاً. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن علي أنه سئل عن قوله: "الذين هم في صلاتهم خاشعون" قال: الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "الذين هم في صلاتهم خاشعون" قال: خائفون ساكنون. وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والذين هم عن اللغو معرضون" قال: الباطل. وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد: أنه سئل عن المتعة فقال: إني لأرى تحريمها في القرآن، ثم تلا " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ". وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن "الذين هم على صلاتهم دائمون". "والذين هم على صلواتهم يحافظون" قال: ذلك على مواقيتها، قالوا ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، قال: تركها كفر. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة في قوله: "أولئك هم الوارثون" قال: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله. وأخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: "أولئك هم الوارثون"". وأخرج عبد بن حميد والترمذي وقال حسن صحيح غريب عن أنس، فذكر قصة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها"، ويدل على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى: "تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً"، وقوله: "تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون"، ويشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم وبضعها على اليهود والنصارى". وفي لفظ له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول هذا فكاكك من النار".
11. قوله تعالى:" الذين يرثون الفردوس "، وهو أعلى الجنة قد ذكرناه في سورة الكهف، " هم فيها خالدون "، لا يموتون ولا يخرجون، وجاء في الحديث:" أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر، ولا ديوث".
11ـ " الذين يرثون الفردوس " بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيماً لها وتأكيداً ، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم ، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه . وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعلى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار . " هم فيها خالدون " أنث الضمير لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا .
11. Who will inherit Paradise: There they will abide.
11 - Who will inherit Paradise: they will dwell therein (for ever).