107 - (و) منهم (الذين اتخذوا مسجداً) وهم اثنا عشر من المنافقين (ضراراً) مضارة لأهل مسجد قباء (وكفراً) لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الراهب ليكون معقلاً له يقدم فيه من يأتي من عنده وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر لقتال النبي صلى الله عليه وسلم (وتفريقاً بين المؤمنين) الذين يصلون بقباء بصلاة بعضهم في مسجدهم (وإرصاداً) ترقباً (لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي قبل بنائه وهو أبو عامر المذكور (وليحلفن إن) ما (أردنا) ببنائه (إلا) الفعلة (الحسنى) من الرفق بالمسكين في المطر والحر والتوسعة على المسلمين (والله يشهد إنهم لكاذبون) في ذلك ، وكانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أي يصلي فيه فنزل
قوله تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا الآية أخرج ابن مردويه عن طريق ابن إسحق قال ذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخي أبي رهم الغفاري أنه سمع أبا رهم وكان ممن بايع تحت الشجرة يقول أتى من بنى مسجد الضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة وانا نحب ان تأتينا فتصلي لنا فيه قال إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع نزل بذي أوان على ساعة من المدينة فأنزل الله في المسجد والذين اتخذزا مسجدا ضررا وكفرا إلى آخر القصة فدعا مالك بن الدخشن ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه ففعلا
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس قال لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم يخدج فبنوا مسجد النفاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخدج ويلك ما أردت إلى ما أرى فقال يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى فأنزل الله الآية
وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن طلحة عن ابن العباس قال أن أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم ابو عامر ابتنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فانى ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتى بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له لقد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه فأنزل الله لا تقم الصلاة فيه أبدا
وأخرج الواحدي عن سعد بن ابي وقاص قال ان المنافقين عرضوا بمسجد يبنونه يضاهون به مسجد قباء لأبي عامر الراهب إذا قدم ليكون إمامهم فيه فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا قد بنينا مسجدا فصل فيه فنزلت لا تقم فيه أبدا
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم
ك وأخرج عمر بن شبة في أخبار المدينة من طريق الوليد بن أبي سندر الأسلمي عن يحيى بن سهل الأنصاري عن أبيه أن هذه الآية نزلت في أهل قباء كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فيه رجال يحبون أن يتطهروا الآية
ك وأخرج ابن جرير عن عطاء قال أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء فنزلت فيهم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجداً ضراراً، وهم، فيما ذكر، اثنا عشر نفساً من الأنصار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني: من تبوك - حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه! فقال: إني على جناح سفر وحال شغل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان، أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي - أو أخاه: عاصم بن عدي - أخا بني العجلان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه! فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي! فدخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا " إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، وهم من بني ضبيعة، وبحزج، وهو إلى بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان، وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية، رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.
قال أبو جعفر:فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجداً ضراراً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفراً بالله لمحادتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا، " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل "، يقول: وإعداداً له لأبي عامر الكافر، الذي خالف الله ورسوله، وكفر بهما، وقاتل رسول الله، " من قبل "، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزب الأحزاب - يعني: حزب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبي الله، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه، فيما ذكر عنه، ليصلي فيه، فيما يزعم، إذا رجع إليهم. ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ".
" وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى "، يقول جل ثناؤه: ولحلفن بانوه: " إن أردنا إلا الحسنى "، ببنائناه، إلا الرفق بالمسلمين، والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، وتلك هي الفعلة الحسنة، " والله يشهد إنهم لكاذبون "، في حلفهم ذلك، وقيلهم: ((ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى))! ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السواى، ضراراً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفراً بالله، وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لأبي عامر الفاسق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن ابن عباس قوله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا "، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه! فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنزل الله فيه: " لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " إلى قوله: " والله لا يهدي القوم الظالمين "، [التوبة: 108 - 109].
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين "، قال: " لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، خرج رجال من الأنصار، منهم: بحزج، جد عبد الله بن حنيف، ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج: ويلك! ما أردت إلى ما أرى؟فقال: يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى! وهوكاذب، فصدقه رسول الله، وأراد أن يعذره، فأنزل الله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله "، يعني رجلاً منهم يقال له ((أبو عامر)) كان محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محارباً لله ولرسوله، " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " ".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل " قال: أبو عامر الراهب، انطلق إلى قيصر، فقالوا: ((إذا جاء يصلي فيه))، كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا "، قال: المنافقون، " لمن حارب الله ورسوله "، لأبي عامر الراهب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
... قال، حدثنا أبو إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين "، قال: نزلت في المنافقين، وقوله: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل "، قال: هو أبو عامر الراهب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا " قال: هم بنو غنم بن عوف.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا "، قال: هم حي يقال لهم: ((بنو غنم)).
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا " قال: هم حي يقال لهم: ((بنو غنم)). قال أخبرنا معمر، عن الزهري ، عن عروة، عن عائشة قالت: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله "، أبو عامر الراهب، انطلق إلى الشأم، فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا "، الآية، عمد ناس من أهل النفاق فابتنوا مسجداً بقباء، ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم، حتى أطلعه على ذلك، وأما قوله: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله "، فإنه كان رجلاً يقال له: ((أبو عامر))، فر من المسلمين فلحق بالمشركين، فقتلوه بإسلامه. قال: إذا جاء صلى فيه، فأنزل الله: " لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى "، الآية.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول:أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا "، هم ناس من المنافقين، بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين، " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله "، كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه! وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبي الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل "، قال: مسجد قباء، كانوا يصلون فيه كلهم، وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له: ((أبو عامر))، أبو ((حنظلة غسيل الملائكة))، و((صيفي))، واحق. وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين، فخرج أبو عامر هارباً هو وابن عبد ياليل، من ثقيف، وعلقمة بن علاثة، من قيس، من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن عبدياليل، فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما. وأما أبو عامر، فتنصر وأقام. قال: وبنى ناس من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر، قالوا: ((حتى يأتيهم أبو عامر يصلي فيه))، وتفريقاً بين المؤمنين، يفرقون به جماعتهم، لأنهم كانوا يصلون جميعاً في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربما جاء السيل، فقطع بيننا وبين الوادي، ويحول بيننا وبين القوم، ونصلي في مسجدنا، فإذا ذهب السيل صلينا معهم! قال: وبنوه على النفاق. قال: وانهار مسجدهم على عهد رسو ل الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وألقى الناس عليه التبن والقمامة، فأنزل الله: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين "، لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله "، من قبل أبي عامر، " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هرون، عن أبي جعفر، عن ليث ، أن شقيقاً لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد! فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني ضراراً أو رياءً أو سمعة، فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار.
فيه عشر مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "والذين اتخذوا مسجدا" معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجداً، عطف جملة على جملة. ويجوز أن يكون رفعاً بالابتداء والخبر محذوف كإنهم يعذبون أو نحوه. ومن قرأ الذين بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر لا تقم التقدير: الذين اتخذوا مسجداً لا تقم فيه أبداً، أي لا تقم في مسجدهم، قاله الكسائي. وقال النحاس: يكون خبر الابتداء "لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم". وقيل: الخبر يعذبون كما تقدم. ونزلت الآية فيما روي في أبي عامر الراهب، لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير:
"إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثو للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجداً ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجداً لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا في الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشياً قاتل حمزة، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه"، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف. وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم. قال أبو عمر بن عبد البر: وفيه نظر، لأنه شهد بدراً. وقال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلاً منهم بماذا أعنت في هذا المسجد؟ فقال: أعنت فيه بسارية. فقال: أبشر بها! سارية في عنقك من نار جهنم.
الثانية- قوله تعالى: "ضرارا" مصدر مفعول من أجله. "وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا" عطف كله. وقال أهل التأويل: ضرار بالمسجد، وليس للمسجد ضراراً، إنما هو لأهله. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه". قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل: هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعاً على جهة التأكيد.
الثالثة- قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا. لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه. وقد أحرج النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني عامر فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، لأنه بني على ضرار. قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها، لأنها بنيت على شر.
قلت: هذا لا يلزم، لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا. وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة. وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل. وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
الرابعة- قال العلماء: إن من كان إماماً لظالم لا يصلى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار! فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي، فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت بهم فيه، كنت غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئاً، فصليت ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولا أعلم بما في أنفسهم، فعذره عمر -رضي الله عنهما- وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
الخامسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال:
"من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة" يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه! بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم. وذلك كمن بنى فرناً أو رحىً أو حفر بئراً أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير. وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضرراً منع. فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول. مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهم والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما لا فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافاً لالشافعي ومن قال بقوله. قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئراً وحفر آخر في ملكه بئراً يسرق منها ماء البئر الأولة جاز، لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسده عليه لم يكن له منعه، لأنه تصرف في ملكه. والقرآن والسنة يردان هذا القول. وبالله التوفيق.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه. وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنىً بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء، فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعةً خفيفة. وللجار على جاره في أدل السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر، كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
السادسة- ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مساً من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أو دنا منها يشتد ذلك بها. فقال مالك: لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها.
السابعة- قوله تعالى: "وكفرا" لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد، قاله ابن العربي. وقيل: وكفراً أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قاله القشيري وغيره.
الثامنة- قوله تعالى: "وتفريقا بين المؤمنين" أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضع الأحقاد.
التاسعة- تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع، حيث كان تشتيتاً للكلمة وإبطالاً لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم. قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدماً منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة.
العاشرة- قوله تعالى: "وإرصادا لمن حارب الله ورسوله" يعني أبا عامر الراهب، وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافراً بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمداً من المدينة، فبنوا مسجد الضرار. وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة. والإرصاد: الانتظار، تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقباً له به. قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت. وقوله تعالى: "من قبل" أي من قبل بناء مسجد الضرار. "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى" أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة. وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات، ولذلك قال: "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون" أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
سبب نزول هذه الايات الكريمات, أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب, وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب, وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر, شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها, وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش, يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد, فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عز وجل, وكانت العاقبة للمتقين, وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين, فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه, وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته, فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله, ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن, فأبى أن يسلم وتمرد, فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة, وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد, ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور, ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده, وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك, فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك, وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته, وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية, فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: "إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله" فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم, نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية, هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمداً وأصحابه, فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة, فأنزل الله عز وجل "لا تقم فيه أبداً" إلى قوله: "الظالمين" وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء, وقال محمد بن إسحاق بن يسار, عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم, قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار, وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية, وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه, فقال: "إني على جناح سفر وحال شغل" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه" فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف, ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه" فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف, وهم رهط مالك بن الدخشم. فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي, فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله, فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه, ونزل فيهم من القرآن ما نزل "والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً" إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف, ومن داره أخرج مسجد الشقاق, وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بني أمية بن زيد, ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد, وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد, وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف, وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج, وهم من بني ضبيعة, وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة, ووديعة بن ثابت, وموالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. وقوله "وليحلفن" أي الذين بنوه "إن أردنا إلا الحسنى" أي ما أردنا ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس, قال الله تعالى: "والله يشهد إنهم لكاذبون" أي فيما قصدوا وفيما نووا, وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء وكفراً بالله وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل, وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله, وقوله "لا تقم فيه أبداً" نهي له صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي فيه أبداً. ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنيانه على التقوى, وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً وموئلاً للإسلام وأهله, ولهذا قال تعالى: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه" والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء, ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة", وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً, وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة, فالله أعلم.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت هذه الاية في أهل قباء "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" ـ قال ـ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الاية". ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث يونس بن الحارث وهو ضعيف, وقال الترمذي غريب من هذا الوجه, وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن علي المعمري, حدثنا محمد بن حميد الرازي, حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟" فقال: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا وغسل فرجه أو قال مقعدته, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو هذا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا أبو أويس, حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة الأنصاري, أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: "إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم, فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟" فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً, إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا, ورواه ابن خزيمة في صحيحه, وقال هشيم عن عبد الحميد المدني عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة: "ما هذا الذي أثنى الله عليكم " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " الاية, قالوا: يا رسول الله إنا نغسل الأدبار بالماء ", وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي, حدثنا محمد بن سعد عن إبراهيم بن محمد عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بن ثابت يقول: نزلت هذه الاية "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" قال كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا مالك يعني ابن مغول, سمعت سياراً أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قباء, فقال "إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني ؟" يعني قوله "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" فقالوا يا رسول الله إنا نجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء.
وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف, رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, ورواه عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عروة بن الزبير, وقال عطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري ونقله البغوي عن سعيد بن جبير وقتادة, وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى, وهذا صحيح. ولا منافاة بين الاية وبين هذا, لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم, فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى, ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس, عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا" تفرد به أحمد.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد الساعدي قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال الاخر هو مسجد قباء, فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: "هو مسجدي هذا" تفرد به أحمد أيضاً.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ليث عن عمران بن أبي أنس عن سعيد بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم, فقال أحدهما هو مسجد قباء, وقال الاخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو مسجدي هذا" تفرد به أحمد.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا ليث حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد عن أبيه أنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم, فقال رجل هو مسجد قباء, وقال الاخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو مسجدي" وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث وصححه الترمذي ورواه مسلم كما سيأتي.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن أنيس بن أبي يحيى, حدثني أبي قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف, في المسجد الذي أسس على التقوى, فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال العمري هو مسجد قباء, فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: "هو هذا المسجد" لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال في ذلك يعني مسجد قباء.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا حميد الخراط المدني سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه فقلت: يا رسول الله أين المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: "هو مسجدكم هذا" ثم قال سمعت أباك يذكره, رواه مسلم منفرداً به عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد به, ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط به, وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف, وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب, واختاره ابن جرير, وقوله: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له, وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير, سمعت شبيباً أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فأوهم فلما انصرف قال: "إنه يلبس علينا القرآن إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء, فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء" ثم رواه من طريقين آخرين عن عبد الملك بن عمير عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع, أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكره, فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها. وقال أبو العالية في قوله تعالى: "والله يحب المطهرين" إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب. وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك, وقد ورد في الحديث المروي من طرق في السنن وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: "قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون ؟" فقالوا نستنجي بالماء, وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب, حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: وجدته في كتاب أبي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية في أهل قباء "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا إنا نتبع الحجارة بالماء رواه البزار, ثم قال: تفرد به محمد بن عبد العزيز عن الزهري ولم يرو عنه سوى ابنه, "قلت" وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين أو كلهم, والله أعلم.
لما ذكر الله أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، فيكون التقدير: ومنهم الذين اتخذوا على أن الذين متبدأ، وخبره منهم المحذوف، والجملة معطوفة على ما تقدمها، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذم. وقرأ المدنيون وابن عامر "الذين اتخذوا" بغير واو، فتكون قصة مستقلة، الموصول مبتدأ، وخبره "لا تقم" قاله الكسائي. وقال النحاس: إن الخبر هو "لا يزال بنيانهم الذي بنوا" وقيل الخبر محذوف، والتقدير يعذبون، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار، و "ضراراً" منصوب على المصدرية، أو على العلية " وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا " معطوفة على "ضراراً". فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول: الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث: التفريق بين المؤمنين، لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله: أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب، يقال: أرصدت لكذا: إذا أعددته مرتقباً له به. وقال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله: المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب: أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله: "من قبل" متعلق باتخذوا: أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق بحارب: أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار. قوله: "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى" أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين، فرد الله عليهم بقوله: "والله يشهد إنهم لكاذبون" فيما حلفوا عليه.
107-قوله تعالى: "والذين اتخذوا"، قرأ: أهل المدينة والشام "الذين" بلا واو، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الآخرون: "والذين" بالواو. "مسجدا ضرارا"، نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق: وديعة بن ثابت، وجذام بن خالد، ومن داره أخرج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وأبو حبيبة بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد ابن عثمان، ورجل يقال له: بحزج، بنوا هذا المسجد ضرارا، يعني: مضارة للمؤمنين، "وكفراً"، بالله ورسوله، "وتفريقاً بين المؤمنين"، لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار، ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية.
فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه".
"وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل"، أي: انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله.
يقال: أرصدت له: إذا أعددت له. وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح، "فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال أبو عامر: فإنا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنك لست عليها، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية، فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين. وسماه أبا عامر الفاسق".
فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى: "وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله"،وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشام.
قوله: "من قبل" يرجع إلى أبي عامر يعنى حارب الله ورسوله من قبل أي: من قبل بناء مسجد الضرار.
"وليحلفن إن أردنا"، ما أردنا ببنائه، "إلا الحسنى"، إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
"والله يشهد إنهم لكاذبون"، في قيلهم وحلفهم. روي أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا/ بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشياً قاتل حمزة، وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه، فخرجوا سريعا حتى أتو بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك : انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه نارا، ثم خرجوا يشتدون، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والنتن والقمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا.
وروي أن بني عمرو بن عوف، الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين: لا تعجل علي، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
قال عطاء: لما فتح على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه.
107."والذين اتخذوا مسجداً"عطف على"وآخرون مرجون"،أو مبتدأ خبره محذوف أي و فيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص. وقرأ نافع وابن عامر بغير الواو"ضراراً"مضارة للمؤمنين، وروي : "(إن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة " "وكفراً"وتقوية للكفر الذي يضمرونه ."وتفريقاً بين المؤمنين"يردي الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء ."وإرصاداً" ترقباً . "لمن حارب الله ورسوله من قبل " يعني الراهب فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ن ومات بقنسرين وحيداً، وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام.و"من قبل "متعلق بـ"حارب" أوبـ"اتخذوا"أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف ، لما روي أنه بنى قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فقال:أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل كرر عليه.فنزلت "وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى"ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرداة وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين "والله يشهد إنهم لكاذبون"في حلفهم.
107. And as for those who chose a place of worship out of opposition and disbelief, and in order to cause dissent among the believers, and as an outpost for those who warred against Allah and His messenger aforetime, they will surely swear : We purposed naught save good. Allah beareth witness that they verily are liars.
107 - And there are those who put up a mosque by way of mischief and infidelity to disunite the believers and in preparation for one who warred against God and his Apostle aforetime. they will indeed swear that their intention is nothing but good; but God doth declare that they are certainly liars.