106 - (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) أسبابه (حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم) خبر بمعنى الأمر أي ليشهد ، وإضافة شهادة لـ "بين" على الاتساع ، وحين بدل من إذا أو ظرف لحضر (أو آخران من غيركم) أي غير ملتكم (إن أنتم ضربتم) سافرتم (في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) توقفونهما صفة آخران (من بعد الصلاة) أي صلاة العصر (فيقسمان) يحلفان (بالله إن ارتبتم) شككتم فيها ويقولان (لا نشتري به) بالله (ثمنا) عوضا نأخذه بدله من الدنيا بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله (ولو كان) المقسم له والمشهود له (ذا قربى) قرابة منا (ولا نكتم شهادة الله) التي أمرنا بها (إنا إذا) إن كتمناها (لمن الآثمين)
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم الآية روى الترمذي وضعفه وغيره عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت قال بريء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة فمرض فأوصى إليهما وامرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا اليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع الينا غيره فلما أسلمت تأثمت من ذلك فأتيت أهله فخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه فحلف فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إلى قوله أن ترد أيمان بعد أيمانهم فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء
تنبيه جزم الذهبي بأن تميما النازل فيه غير تميم الداري وعزاه لمقاتل ابن حبان قال الحافظ ابن حجر وليس بجيد للتصريح في هذا الحديث بأنه الداري
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: "أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، يقول ليشهد بينكم، "إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية"، يقول: وقت الوصية، " اثنان ذوا عدل منكم"، يقول: ذوا رشد وعقل وحجى من المسلمين، كما:
حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: "وأشهدوا ذوي عدل منكم" [الطلاق:2]، قال: ذوي عقل.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ذوا عدل منكم".
فقال بعضهم: عني به: من ؟هل ملتكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: شاهدان "ذوا عدل منكم"، من المسلمين.
حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله: "اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب في قوله: "اثنان ذوا عدل منكم"، قال: اثنان من أهل دينكم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيريق، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله تعالى ذكره: "اثنان ذوا عدل منكم"، قال: من الملة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله، إلا أنه قال فيه: من أهل الملة.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: "اثنان ذوا عدل منكم"، قال: من أهل الملة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة، فذكر مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد، عن ابن أبي نجيح -وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح -عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ذوا عدل منكم"، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ذوا عدل منكم"، قال: من المسلمي.
حدثنا بشر من معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول: "اثنان ذوا عدل منكم"، أي: من أهل الإسلام. وقال آخرون: عني بذلك: ذوا عدل من حي الموصي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما.
واختلفوا في صفة الاثنين اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي، وما هما؟
فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي.
وقال آخرون: هما وصيان.
وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان قوله: "شهادة بينكم"، ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم.
وتأويل الذين قالوا: هما وصيان لا شاهدان قوله: "شهادة بينكم"، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض، من قولك: شهدت وصية فلان، بمعنى حضرته.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: "اثنان ذوا عدل منكم"، تأويل من تأوله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوله أنهما من حي الموصي.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، فغير جائز أن يصرف ما عمه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائد من ذكره على العموم، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم.
وأولى المعنيين بقوله: "شهادة بينكم"، اليمين، لاالشهادة التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره، ليس هي عنده، على من هي عليه عند الحكام. لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكماً يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزاً صرف الشهادة في هذا الموضع، إلىالشهادة التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.
وفي حكم الآية في هذه، اليمين على ذوي العدل، وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله"، أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن الشهادة فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضى بها للمشهود له على المشهود عليه، وفساد ما خالفه.
فإن قال قائل: فهل وجدت في حكم الله تعالى ذكره يميناً تجب على المدعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟ فإن قلت: لا تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأولت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) [المائدة: 107]، هما المدعيين.
وإن قلت: بلى، قيل لك: وفي أي حكم لله تعالى ذكره وجدت ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدعي قبل رجل مالاً فيقر به المدعى عليه قبله ذلك، ويدعي قضاءه، فيكون القول قول رب الدين. والرجل يعرف في يد الرجل السلعة، فيزعم الصرف في يده أنه اشتراها من المدعي، أو أن المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه.
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قوله: "شهادة بينكم"، وقوله: "اثنان ذوا عدل منكم".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: "شهادة بينكم"، شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت الشهادة، وأقيم الاثنان مقامها، فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام. قال: وذلك، في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف، نظير قوله: (واسأل القرية) [يوسف: 82]، وإنما يريد: وأسال أهل القرية، وانتصبت القرية بانتصاب الأهل ، وقامت مقامه، ثم عطف قوله: أو آخران على الاثنين. وقال بعض نحوي الكوفة: رفع الاثنين ب الشهادة، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم.
وقال آخر منهم: رفعت الشهادة، ب "إذا حضر". وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال: "إذا حضر" فجعلها شهادة، محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لأنه قال تعالى ذكره: "أو آخران من غيركم"، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما يثبت.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: الشهادة مرفوعة بقوله: "إذا حضر"، لأن قوله: "إذا حضر"، بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، و الاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم، وهو: أن يشهد اثنان، فاكتفي من قيل: أن يشهد، بما قد جرى من ذكر الشهادة في قوله : "شهادة بينكم".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الشهادة مصدر في هذا الموضع، والاثنان اسم، والاسم لا يكون مصدراً. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. فالأمر وإن كان كذلك، فصرف كل ذلك إلى أصح وجوهه ما وجدنا إليه سبيلاً، أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "أو آخران من غيركم".
فقال بعضهم:معناه : "أو آخران من غيركم"، نحو الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ؟ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب: "أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب.
حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، مثله.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب: أنهما قالا في قوله: "أو آخران من غيركم"، قالا: من مخير أهل ملتكم.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، -أخبرنا مغيرة قال، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول، مثل ذلك.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إلتيمي، عن أبي مجلز قال: من غير أهل ملتكم.
وحدثنا ابن بشار قال، حدثت محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا هشيم عن المغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله: "أو آخران من غيركم"، قالا: من غير أهل ملتكم.
حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد: "أو آخران من غيركم"، قال: من أهل الكتاب.
حدثنا عمرو قال، حدثت محمد بن سواء قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب،مثله.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله: "اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلماً يشهده على وصيته، فاشهد يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية، ولا يجيز شهادتههما على الوصية إلا إذا كانوا في سفر.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو معاويه ووكيع قالا، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصواني إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش عن إبراهيم، عن شريح، نحوه.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب: لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافراً.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله تعالى ذكره: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير الملة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الصلاة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل دينكم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الملة.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا أبو حرة، عن محمد بن سيرين، عن عبيده: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل ملتكم.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال: سألت سعيد بن جبير عن قول الله: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل ملتكم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: من غير أهل ملتكم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبى، عن أبيه، عن ابن عباس: "أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، قال أبو إسحق: "أو آخران من غيركم"، قال: من اليهود والنصارى، قال قال شريح: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا في سفر.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه. قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهد على وصيته، فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدقوقا.
حدثنا عمرو قال، حدثنا عثمان بن الهيثم قال، حدثنا عوف، عن محمد: أنه كان يقول في قوله: "اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد قال: من غير أهل الإسلام.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش قال: قال زيد بن أسلم في هذه الآية: "شهادة بينكم"، الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حيكم وعشيرتكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: "اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم.
حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: "اثنان ذوا عدل منكم"، أي: من عشيرته "أو آخران من غيركم"، قال: من غير عشيرته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل حيكم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير حيكم.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا ثابت بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل حيه، يعني: من المسلمين.
حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن: "أو آخران من غيركم"، قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك، كلهم من المسلمين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قوله: "أو آخران من غيركم"، قال: مسلمين من غير حيكم.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره : "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت"، إلى قوله: "والله لا يهدي القوم الفاسقين"، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما، أتراهما من غير أهل المرء الموصي، أم هما من غير المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناساً من علمائنا أحياناً، فلا يذكرون فيها سنةً معلومة، ولا قضاء من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأياً إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية. فإن سلموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدلوا قول الميت ، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، ؟هي صلاة المسلمين، فيقسمان بالله: "إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الأثمين". فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما استحقا إثماً في شيء من ذلك، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً في شيء من ذلك، قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأولان المستحلفان أول مرة، فيقسمان بالله لشهادتنا، أحق من شهادتكما، على تكذيبكما. أو إبطال ما شهدتما به، "وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين"، "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، الآية.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوله: أو آخران من غير أهل الإسلام.
وذلك أن الله تعالى عرف عباده المؤمنين عند الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.
فإذا كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه.
وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى: "ذوا عدل منكم"، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه.
وإذ صح ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله: "أو آخران من غيركم"، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن، أو على أي دين كانا. لأن الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة، بعد أن يكونا من غير أهل الإسلام.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر: الضارب في الأرض.
"فأصابتكم مصيبة الموت"، يقول: فنزل بكم الموت.
ووجه أكثر أهل التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم. إنما فعل ذلك من فعله، لأنه وجه معنى الشهادة، في قوله: "شهادة بينكم"، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم، أو يبطلها.
ذكر بعض من تأول ذلك كذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله: "ذوا عدل منكم"، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: "اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: اثنان من أهل دينكم، "أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب، إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية: "شهادة بينكم"، إلى قوله: "أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلماً يشهده على وصيته، فأشهد يهودياً أو نصرانياً، أو مجوسياً، فشهادتهم جائزة.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، قال: هذا في الحضر، "أو آخران من غيركم"، في السفر، "إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال: إذا حضر رجل الوفاة في سفر، فيشهد رجلين من المسلمين . فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، إلى قوله: "ذوا عدل منكم"، فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين. ثم قال: "أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين.
ووجه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يتمن الرجل على ماله من رآه موضعاً للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما، أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت، فأديا إلى ورثتكم ما اتمنتموهما وادعوا عليهما خيانة خاناها مما اتمنا عليه، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما، يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزىء بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو: فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة، "فيقسمان بالله إن ارتبتم"، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اتمنا عليه من تغيير وصية أوصي إليهما بها أو تبديلها، و الارتياب، هو الاتهام، "لا نشتري به ثمنا"، يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمناً، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، أو لحق نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وليهم وميتهم.
و الهاء في قوله: "به"، من ذكر الله، والمعني به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فعرف معنى الكلام، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف.
"ولو كان ذا قرب"، يقال: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضاً فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلا.
وقوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة"، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام : أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى.
واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال: "تحبسونهما من بعد الصلاة".
فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما، ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: "أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم بمثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى "فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا رجل مات بغربة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، قالا: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة قبل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خنا ولا غيرنا.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى القطان قال، حدثنا زكريا قال، حدثنا عامر: أن رجلاً توفي بدقوقا، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فاحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما سما ولا غيرا، وأن هذه الوصية. فأجازها.
وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، إلى قوله: "ذوا عدل منكم"، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وعليه، قال: هذا في الحضر، "أو آخران من غيركم"، في السفر، "إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم": قال عبدالله بن عباس: كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في دأره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخونوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله: لا نشتري به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين، أن صاحبهم لبهذا أوصى، وأن هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أوخنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: "تحبسونهما من بعد الصلاة". لأن الله تعالى عرف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين، فإذ كان كذلك، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعاً على أنه لم يعن بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مراداً بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلوماً أنها المعنية بذلك . فإذ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحاً عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين، لاعن بينهما بعد إلعصر دون غيره من الصلوات، كان معلوماً أن التي عنيت بقوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة"، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس.
وكان ابن زيد يقول في قوله: "لا نشتري به ثمنا"، ما:
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "لا نشتري به ثمنا"، قال: نأخذ به رشوة.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: "ولا نكتم شهادة الله"، بإضافة الشهادة إلى الله وخفض اسم الله تعالى، يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.
ذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر: أنه كان يقرأ: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين - بقطع الألف ، وخفض اسم الله- هكذا حدثنا به ابن وكيع.
وكأن الشعبي وجه معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمناً، ولا نكتم شهادة عندنا. ثم ابتدأ يمينا باستفهام : بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.
وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما: حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي: أنه قرأ: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن ألآثمين ، قال: أحمد: قال أبو عبيد: ينون "شهادة" ويخفض "الله" على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع الألف على الاستفهام.
قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام.
وقرأها بعضهم: ولا نكتم شهادة الله، بتنوين الشهادة، ونصب اسم "الله" بمعنى: ولا نكتم الله شهادة عندنا.
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ: "ولا نكتم شهادة الله"، بإضافة الشهادة إلى اسم "الله"، وخفض اسم "الله" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحتها الأمة .
وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك : ولا نكتم شهادة الله ، وإن كان بعيداً.
حدثني بذلك يونس قال ، أخبرنا ابن زيد، عنه .
فيه سبع وعشرون مسألة :
الأولى_قال مكي_رحمه الله_:هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القران إعرابا ومعنى وحكما ، قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله.
قلت : ما ذكره مكي _ رحمه الله _ ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا ، ولا اعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال :
كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة ، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً من فضة مخوصا بالذهب ، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، قال : فاخذوا الجام ، وفيهم نزلت هذه الآية .لفظ الدارقطني . وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية .
"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " برىء منها الناس غيري وغير عدي بن بداء - وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام بتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له : بديل بن مريم بتجارة ، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم : فلما مات أخذنا الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليه ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به غلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله " بعد إيمانهم " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء قال أبو عيسى : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وذكر الواقدي أن الآيات الثالث نزلت في تميم وأخيه عدي وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة هو يريد الشام تأجراً ، فخرج مع تميم وأخيه عدي وذكر الحديث وذكر النقاش قال : نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي كان خرج مسافراً في البحر إلى أرض النجاشي، ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميماً وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمى به في البحر وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلغا هذا المتاع أهلي فلما مات بديل قبضا المال فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال ، منقوشاً مموها بالذهب وذكر الحديث وذكره سنيد، وقال : فلما قدموا الشام مرض بديل وكان مسلماً الحديث
الثانية - قوله تعالى :" شهادة بينكم" ورد شهد في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة : منها قوله تعالى : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم" [ البقرة: 282] قيل: معناه أحضروا ومنها شهد بمعنى قضى أي أعلم قاله أبو عبيدة ، كقوله تعالى :" شهد الله أنه لا إله إلا هو " [ آل عمران : 18] ومنها شهد بمعنى أقر كقوله تعالى:" والملائكة يشهدون " [ النساء : 166] ومنها شهد بمعنى حكم قال الله تعالى :" وشهد شاهد من أهلها " [يوسف : 26] شهد بمعنى حلف كما في اللعان وشهد بمعنى وصى كقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " وقيل: معناها هنا الحضور للوصية يقال: شهدت وصية فلان أي حضرتها وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين، فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدي للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين واختار هذا القول القفال، وسميت اليمين شهادة لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين .
الثالثة - قوله تعالى :" بينكم " قيل: معناه ما بينكم فحذفت ما وأضيفت الشهادة إلى الظرف واستعمل اسماً على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة كما قال :
ويوماً شهدناه سليما وعامرا
أراد شهدنا فيه قال تعالى :" بل مكر الليل والنهار " [ سبأ : 33] أي مكركم فيهما وأنشد :
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفاحا وعين بين عينيك منزوي
أراد ما بين عينيك فحذف ومنه قوله تعالى :" هذا فراق بيني وبينك " [ الكهف : 78] أي ما بيني وبينك .
الرابعة -قوله تعالى : " إذا حضر " معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت وهذا كقوله تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " [ النحل : 98] وكقوله : " إذا طلقتم النساء فطلقوهن " [ الطلاق : 1] ومثله كثير والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة.
الخامسة - قوله تعالى:" حين الوصية اثنان " حين ظرف زمان والعامل فيه حضر وقوله اثنان يقتضي بمطلقة شخصين، ويحتمل رجلين إلا أنه لما قال بعد ذلك : " ذوا عدل " بين أنه أراد رجلين لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن " ذواتا " [ الرحمن : 46] لا يصلح إلا للمؤنث وارتفع اثنان على أنه خبر المبتدأ الذي هو شهادة قال أبو علي : شهادة رفع بالابتداء والخبر في قوله : اثنان التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال تعالى : " وأزواجه أمهاتهم " [ الأحزاب: 6] أي مثل أمهاتهم وبجوز أن يرتفع اثنان ب شهادة التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان ، أو لقيم الشهادة اثنان
السادسة - قوله تعالى : " ذوا عدل منكم " ذو عدل صفة لقوله اثنان و منكم صفة بعد صفة وقوله : " أو آخران من غيركم " أي أو شهادة آخرين من غيركم فمن غيركم صفة لآخرين هذا الفصل هو المشكل في هذه الآية والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال.
الأولى - أن الكاف والميم ف قوله : منكم ضمير للمسلمين " أو آخران من غيركم " للكافرين، فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى أخرها على هذا القول، أن الله تعالى أخبر أن حكمة في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين، فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه أحد من المؤمنين فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلا من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني، وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهما وقال به من الفقهاء سفيان الثوري ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائز على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين كلهم يقولون منكم من المؤمنين ومعنى " من غيركم " يعني الكفار قال بعضهم : وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما .
القول الثاني - أن قوله سبحانه " أو آخران من غيركم " منسوخ ، هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى :" ممن ترضون من الشهداء " [البقرة:282] وقوله : " وأشهدوا ذوي عدل منكم " [ الطلاق : 2] فهؤلاء زعموا أن الآية الدين من آخر ما نزل وأن فيها " ممن ترضون من الشهداء " فهو ناسخ لذلك ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبة وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم وأما مع وجود مسلم فلا ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العمل ويقوي هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها وما ادعوه من النسخ لا يصح، فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخاً فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ولا يمنع اختلاف الحكم عند الضرورات ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة فليس فيما قالوه ناسخ.
القول الثالث- أن الآية لا نسخ فيها، قاله الزهري والحسن وعكرمة ويكون معنى قوله : منكم أي من عشيرتكم وقرابتكم لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان ومعنى قوله :" أو آخران من غيركم " أي من غير القرابة والعشيرة قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول: مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله:" أو آخران من غيركم " أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً فيصح على قول من قال من غيركم من غير عشيرتكم من المسلمين هذا معنى حسن من جهة اللسان، وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله ، لأن المعنى عندهم " من غيركم " من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في ألو الآية " يا أيها الذين آمنوا " فخوطب الجماعة من المؤمنين .
السابعة -استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم قال : ومعنى " أو آخران من غيركم " أي من غير أهل دينكم فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض فيقال له : أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها، فلا يصح احتجاجك بها فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه، وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهل الذمة أولى ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه وهذا ليس بشيء، لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وفي فرعها أحرى وأولى، والله أعلم .
الثامنة- قوله تعالى :" إن أنتم ضربتم في الأرض" أي سافرتم وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض " فأصابتكم مصيبة الموت " فأوصيتم إلى انثين عدلين ظنكم ودفعتم إليهما ما معكم من المال ثم متم وذهبا إلى ورثتم بالتركة فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة أي تستوثقوا منها وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى ورزية كبرى فأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وترك التفكر فيه وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكره لمن تفكر و"روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سميناً " ويرى أن أعرابياً كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتاً فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول ما لك لا تقوم مالك لا تنبعث هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة ما شأنك ما الذي كان يحملك ما الذي كان يبعثك ما الذي صرعك ما الذي عن الحركة منعكم ثم تركه وانصرف متفكراً في شأنه متعجباً من أمره.
التاسعة - قوله تعالى :" تحبسونهما " قال أبو علي " تحبسونهما " صفة ل آخران واعترض بين الصفة والموصوف بقوله : إن أنتم وهذا الآية أصل في حبس من وجب عليه والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلاً ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهناً، وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل وهو دون الأول، لأنه يجوز أن يغيب كمغيبة ويتعذر وجوده كتعذره ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعاً لم يبق إلا التوثق بحسبه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق أو تبني عسرته .
العاشرة - فإن كان الحق بدنياً لا يقبل البدل كالحدود والقصاص، ولم يتف استيفاؤه معجلاً لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده :
أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه "عن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال:
لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس له قال الخطابي: الحبس على ضربين حبس عقوبة وحبس استظهار له فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراء وقد روي أنه حبس رجلاً من تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن .
الحادية عشرة -قوله تعالى:" من بعد الصلاة " يريد صلاة العصر قاله الأكثر من العلماء لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة وقال الحسن: صلاة الظهر ، وقيل: أي صلاة كانت وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران قاله السدي: وقيل إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيماً للوقت، وإرهاباً به لشهود الملائكة ذلك الوقت وفي الصحيح :
"من حلف على اليمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه الضمان"
الثامنة عشرة - هذه الآية أصل في التغليظ في الإيمان والغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها - الزمان كما ذكرنا الثاني المكان كالمسجد والمنبر، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها وإلى هذا القول ذهب البخاري -رحمه الله - حيث ترجم باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره وقال مالك والشافعي: ويجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها فيحلف بين الركن والمقام ويجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر الثالث - الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائماً مستقبل القبة لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر وقال ابن كنانة: يحلف جالساً قال ابن العربي: والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائماً فقائماً وإن جالساً فجالساً إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس .
قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن ابيه فانطلق ليحلف القيام - والله أعلم - أخرجه مسلم الرابع - التغليظ باللفظ، فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه لقوله تعالى :" فيقسمان بالله " وقوله " قل إي وربي " [يونس: 53]وقال : " وتالله لأكيدن أصنامكم" [ الأنبياء: 57] و"قوله عليه السلام :
من كان حالفاً فلحيف باله أو ليصمت " وقول الرجل: والله لا أزيد عليهن وقال مالك: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل ، والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يعين لرجل حلفه: احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء " يعني للمدعي قال أبو داود : أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت وقال الكوفيون : يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين فيحلفه بالله الذي لا إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف قال ابن العربي: وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة وزعم الشافعي إنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك يرويه عن ابن عباس ولم يصح .
قلت: وفي كتاب المهذب وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف ابن الزبير كان يحلف على المصحف قال: ورأيت مطرفاً بصنعاء يحلف على المصحف قال الشافعي: وهو حسن قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف .
قلت: قد تقدم في الإيمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك حكاه عنهما ابن المنذر.
الثالثة عشرة- اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق فقال مالك : لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياساً على القطع كل ما تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين ديناراً قياساً على الزكاة وكذلك عند منبر كل مسجد .
الرابعة عشرة- قوله تعالى :" فيقسمان بالله" الفاء في " فيقسمان" عاطفة جملة على جملة أو جواب جزاء لأن "تحبسونهما " معناه احبسوهما أي لليمين فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال : إذا حبستموهما أقسما قال، قال ذو الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء مرة فيبدو وتارات يجم فيغرق
الخامسة عشرة - واختلف من المراد بقوله: " فيقسمان " فقيل : الوصيان إذا ارتيب في قولهما : وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما قال ابن العربي مبطلاً لهذا القول: والذي سمعت - وهو بدعة - وعن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق ، وحينئذ يقضى له بالحق، وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه هذا في المدعى فكيف يحبس الشاهد أن يحلف هذا ما لا يلتفت إليه .
قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم الله حكم يجب فيه على الشاهد يمين، وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال.
السادسة عشرة - قوله تعالى :" إن ارتبتم " شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين، قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفيذ الوصية لأهلها، وروى أبو داود عن الشعبي.
أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه ولم يجد أحداً من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين، من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر:" بالله ما خانا ولا كذاب ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته " فأمضى شهادتهما قال ابن عطية: وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض وتقع مع ذلك اليمن عنده وأما من ترى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي، فيكون التحليف عند بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة قال ابن العربي: يمين الريبة والتهمة على قسمين: أحدهما ما تقع الربة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين الثاني- التهمة المطلقة في الحقوق والحدود وله تفصيل بيانه في كتب الفروع وقد تحققت ههنا الدعوى وقوتي حسبما ذكرى في الروايات .
السابعة عشرة الشرط في قوله : " إن ارتبتم " يتعلق بوقه : " تحبسونهما " لا بقوله "فيقسمان" لأن هذا الحبس سبب القسم .
الثامنة عشرة- قوله تعالى : " لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى " أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضاً نأخذه بدلاً مما أوصى به لا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا وإضمار القول كثير كقوله :" والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم " [ الرعد : 23-24] أي يقولون سلام عليكم والاشتراء ههنا لي بمعنى البيع بل هو التحصيل .
التاسعة عشرة- اللام في قوله : " لا نشتري " جواب لقوله " فيقسمان " لأن أقسم يلتقي بما القسم وهو لا و ما في النفي وإن واللام في الإيجاب والهاء في به عائد على اسم الله تعالى ، وهو أقرب مذكور المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول كما "قال صلى الله عليه وسلم :
واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب" فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة النساء .
الموفية عشرين- قوله تعالى:" ثمنا "قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى فكل واحد من المبيعين ثمناً ومثموناً كان البيع دائراً على عرض ونقد أو على عرضين أو على نقدين ، وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به ؟ قال أبو حنيفة: لا يكون لأولى به وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء، وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت، وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو -لا إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها، وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره .
الحادية والعشرون - قوله تعالى :" ولا نكتم شهادة الله " أي ما أعلمنا الله من الشهادة وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في التحصيل وغيره
اشتملت هذه الاية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ, رواه العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان, عن إبراهيم: أنها منسوخة. وقال آخرون: وهم الأكثرون فيما قاله ابن جرير, بل هو محكم, ومن ادعى نسخه فعليه البيان, فقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان" هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم, فقيل: تقديره شهادة اثنين حذف المضاف, وأقيم المضاف إليه مقامه, وقيل: دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان. وقوله تعالى: "ذوا عدل" وصف الاثنين بأن يكونا عدلين. وقوله "منكم" أي من المسلمين. قاله الجمهور. قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله "ذوا عدل منكم" قال: من المسلمين, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك. قال ابن جرير: وقال آخرون: غير ذلك "ذوا عدل منكم" أي من أهل الموصي, وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما .
وقوله "أو آخران من غيركم" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن عون, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله "أو آخران من غيركم" قال: من غير المسلمين, يعني أهل الكتاب, ثم قال وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, نحو ذلك. وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله منكم, أن المراد من قبيلة الموصي يكون المراد ههنا "أو آخران من غيركم" أي من غير قبيلة الموصي. وروى ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما الله.
وقوله تعالى: "إن أنتم ضربتم في الأرض" أي سافرتم "فأصابتكم مصيبة الموت" وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر, وأن يكون في وصية, كما صرح بذلك شريح القاضي. قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا أبو معاوية ووكيع, قالا: حدثنا الأعمش عن إبراهيم, عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر, ولا تجوز في سفر إلا في الوصية, ثم رواه عن أبي كريب, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شريح فذكر مثله. وقد روي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى, وهذه المسألة من أفراده, وخالفه الثلاثة فقالوا: لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين, وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً.
وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا أبو داود, حدثنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري قال: مضت السنة أنه لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر, إنما هي في المسلمين. وقال ابن زيد: نزلت هذه الاية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام, وذلك في أول الإسلام, والأرض حرب, والناس كفار, وكان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية, وفرضت الفرائض وعمل الناس بها, رواه ابن جرير, وفي هذا نظر, والله أعلم. وقال ابن جرير: اختلف في قوله "شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما ؟ على قولين (أحدهما) أن يوصي إليهما, كما قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الاية. قال: هذا رجل سافر ومعه مال, فأدركه قدره, فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته, وأشهد عليهما عدلين من المسلمين, رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع. (والقول الثاني) أنهما يكونان شاهدين, وهو ظاهر سياق الاية الكريمة فإن لم يكن وصي ثالث معهما, اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة, كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء, كما سيأتي ذكرهما آنفاً إن شاء الله وبه التوفيق.
وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين قال: لأنا لا نعلم حكماً يحلف فيه الشاهد, وهذا لايمنع الحكم الذي تضمنته هذه الاية الكريمة, وهو حكم مستقل بنفسه لا يلزم أن يكون جارياً على قياس جميع الأحكام, على أن هذا حكم خاص, بشهادة خاصة, في محل خاص, وقد اغتفر فيه من الأمور مالم يغتفر في غيره, فإذا قامت قرينة الريبة, حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الاية الكريمة. وقوله تعالى "تحبسونهما من بعد الصلاة" قال العوفي, قال ابن عباس, يعني صلاة العصر, وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن سيرين. وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين. وقال السدي, عن ابن عباس: يعني صلاة أهل دينهما. وروي عن عبد الرزاق, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن عبيدة. وكذا قال إبراهيم وقتادة وغير واحد. والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم "فيقسمان بالله" أي فيحلفان بالله "إن ارتبتم" أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا, فيحلفان حينئذ بالله "لا نشتري به" أي بأيماننا, قاله مقاتل بن حيان "ثمناً" أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة "ولو كان ذا قربى" أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه "ولا نكتم شهادة الله" أضافها إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها, وقرأ بعضهم "ولا نكتم شهادة الله" مجروراً على القسم رواها ابن جرير, عن عامر الشعبي, وحكي عن بعضهم أنه قرأها "ولا نكتم شهادة الله" والقراءة الأولى هي المشهورة " إنا إذا لمن الأثمين " أي إن فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى: "فإن عثر على أنهما استحقا إثماً" أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئاً من المال الموصى به إليهما, وظهر عليهما بذلك "فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" هذه قراءة الجمهور "استحق عليهم الأوليان" وروي عن علي وأبي الحسن البصري أنهم قرؤوها "استحق عليهم الأوليان" وروى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن عبيد الله بن أبي رافع, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "من الذين استحق عليهم الأوليان", ثم قال: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه. وقرأ بعضهم ومنهم ابن عباس " من الذين استحق عليهم الأوليان ". وقرأ الحسن " من الذين استحق عليهم الأوليان " حكاه ابن جرير, فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما, فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة, وليكونا من أولى من يرث ذلك المال "فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما" أي لقولنا أنهما خانا, أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة "وما اعتدينا" أي فيما قلنا فيهما من الخيانة, "إنا إذاً لمن الظالمين" أي إن كنا قد كذبنا عليهما, وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه, كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل, فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام, وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الاية الكريمة, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسين بن زياد, حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق, عن أبي النضر, عن باذان يعني أبا صالح مولى أم هانىء بنت أبي طالب, عن ابن عباس, عن تميم الداري في هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" قال: برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء, وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام, فأتيا الشام لتجارتهما, وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة, معه جام من فضة يريد به الملك, وهو أعظم تجارته, فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم, واقتسمناه أنا وعدي, فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا, وفقدوا الجام, فسألونا عنه, قلنا: ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, تأثمت من ذلك, فأتيت أهله, فأخبرتهم الخبر, ودفعت إليهم خمسمائة درهم, وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها, فوثبوا عليه, فأمرهم النبي أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه, فحلف, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله "فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما" فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم, فحلفا, فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء, وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير, كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني, عن محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق به, فذكره, وعنده: فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة, فلم يجدوا, فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه, فحلف, فأنزل الله هذه الاية إلى قوله "أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا, فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء, ثم قال: هذا حديث غريب, وليس إسناده بصحيح, وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث, هو عندي محمد بن السائب الكلبي, يكنى أبا النضر, وقد تركه أهل العلم بالحديث, وهو صاحب التفسير, سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر, ثم قال: ولا نعرف لأبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانىء.
وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه, حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا يحيى بن آدم عن ابن أبي زائدة, عن محمد بن أبي القاسم, عن عبد الملك بن سعيد بن جبير, عن أبيه, عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء, فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم, فلما قدما بتركته, فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب, فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووجد الجام بمكة, فقيل: اشتريناه من تميم وعدي, فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما, وأن الجام لصاحبهم, وفيهم نزلت "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الاية, وكذا رواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يحيى بن آدم به, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, وهو حديث ابن أبي زائدة, وأحمد بن أبي القاسم الكوفي, قيل: إنه صالح الحديث.
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة, وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر, رواه ابن جرير, وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك, وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها, ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضاً ما رواه أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا هشيم قال: أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه, قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب, قال: فقدما الكوفة, فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه, فأخبراه, وقدما الكوفة بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا, ولا كذبا, ولا بدلا, ولا كتما, ولا غيرا, وأنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتها, ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس, عن أبي داود الطيالسي, عن شعبة, عن مغيرة الأزرق, عن الشعبي أن أبا موسى قضى بدقوقا, وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي, عن أبي موسى الأشعري, فقوله: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهر ـ والله أعلم ـ أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء, وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه, كان سنة تسع من الهجرة, فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام, والله أعلم.
وقال أسباط عن السدي في الاية "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" قال: هذا في الوصية عند الموت, يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه, قال: هذا في الحضر "أو آخران من غيركم" في السفر "إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" هذا الرجل يدركه الموت في سفره, وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه, فيقبلان به, فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم, تركوهما, وإن ارتابوا, رفعوهما إلى السلطان, فذلك قوله تعالى: "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم" قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره, ففتح الصحيفة, فأنكر أهل الميت وخوفوهما, فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر, فقلت: إنهما لا يباليان صلاة العصر, ولكن أستحلفهما بعد صلاتهما في دينهما, فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين, أن صاحبهم بهذا أوصى, وأن هذه لتركته, فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما, ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما, فإذا قال لهما ذلك " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها " رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا هشيم, أخبرنا مغيرة عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الاية, قالا: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين, فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب, فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة قبل قولهما, وإن اتهموهما حلفا بعد صلاة العصر, بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاية: فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر: بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً, فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا: بالله أن شهادة الكافرين باطلة وأنا لم نعتد, فذلك قوله تعالى: "فإن عثر على أنهما استحقا إثماً" يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا "فآخران يقومان مقامهما" يقول: من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة, وأنا لم نعتد, فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء, وهكذا روى العوفي عن ابن عباس, رواهما ابن جرير, وهكذاقرر هذا الحكم على مقتضى هذه الاية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم, وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وقوله "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها" أي شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين, واستريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي. وقوله " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله, والخوف من الفضيحة بين الناس إن ردت اليمين على الورثة, فيحلفون ويستحقون ما يدعون, ولهذا قال " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ", ثم قال "واتقوا الله" أي في جميع أموركم, "واسمعوا" أي وأطيعوا, "والله لا يهدي القوم الفاسقين" أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.
قال مكي: هذه الآيات الثالث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً. قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله: يعني من كتاب مكي. قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً. قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. قوله: 106- "شهادة بينكم" أضاف الشهادة إلى البين توسعاً لأنها جارية بينهم، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت ما وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى: "بل مكر الليل والنهار" ومنه قول الشاعر:
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفايا وعني بين عينيك منزوي
أراد ما بين عينيك، ومثله الآخر:
ويوماً شهدناه سليماً وعامرا
أي شهدنا فيه، ومنه قوله تعالى: "هذا فراق بيني وبينك" قيل والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل بمعنى الحضور للوصية. وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى: يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد يمين. واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود. قوله: "إذا حضر أحدكم الموت" ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس. وقوله: "حين الوصية" ظرف لحضر أو للموت، أو بدل من الظرف الأول. وقوله: "اثنان" خبر شهادة على تقدير محذوف: أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف: أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان، ذكر الوجهين أبو علي الفارسي. قوله: "ذوا عدل منكم" صفة للاثنان وكذا منكم: أي كائنان منكم: أي من أقاربكم "أو آخران" معطوف على "اثنان"، و "من غيركم" صفة له: أي كائنان من الأجانب، وقيل إن الضمير في "منكم" للمسلمين، وفي "غيركم" للكفار وهو الأنسب لسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم حينئذ بشهادتهم. "فإن عثر" بعد ذلك "على أنهما" كذا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل. وذهب إلى الأول: أعني تفسير ضمير "منكم" بالقرابة أو العشيرة، وتفسير "من غيركم" بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة. وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله: "ممن ترضون من الشهداء". وقوله: "وأشهدوا ذوي عدل منكم" فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين عام وخاص. قوله: "إن أنتم" هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم، أو مبتدأ وما بعده خبره، والأول مذهب الجمهور من النحاة، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين. والضرب في الأرض هو السفر. وقوله: "فأصابتكم مصيبة الموت" معطوف على ما قبله وجوابه محذوف، أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت وأردتم الوصية ولم تجدوا شهوداً عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما، ويجوز أن يكون استئنافاً لجواب سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة: أي صلاة العصر، قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح، وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة، وقيل صلاة الظهر، وقيل أي صلاة كانت. قال أبو علي الفارسي: "تحبسونهما" صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: "إن أنتم ضربتم في الأرض"، والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما. قوله: "فيقسمان بالله" معطوف على "تحبسونهما" أي يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان.
وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما. وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها. قوله: "إن ارتبتم" جواب هذا الشرط محذوف دل عليه ما تقدم كما سبق. قوله: "لا نشتري به ثمناً" جواب القسم، والضمير في "به" راجع إلى الله تعالى. والمعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر، فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادعيتموه علينا، وقيل يعود إلى القسم: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا، وقيل يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول: أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً. قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمناً، وعند الأكثر أنها تسمى ثمناً كا تسمى مبيعاً. قوله: "ولو كان ذا قربى" أي ولو كان المقسم له أو المشهود له قريباً فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمناً. قوله: "ولا نكتم شهادة الله" معطوف على "لا نشتري" داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها.
106- قولة عز وجل " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم "، سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن [بداء] قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام، وهما نصرانيان، ومعهما بديل مولى عمر بن العاص ، وكان مسلما فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي، وأمرهما أي يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه وأخذ منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه، ثم قضيا حاجتهما، فانصرفا إلى المدينة، فدفعا المتاع إلى أهل البيت، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤوا تميما وعديا فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه، قالا: لا، قالوا فهل اتجر تجارة ؟ قالا: لا، قالوا: هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا: لا، فقالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة، قالا: ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فامرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصر على الإنكار ، وحلفا فأنزل الله عز وجل هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان " أي: ليشهد اثنان، لفظه خبر ومعناه أمر
قيل: معناه: أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان، واختلفوا في هذين الاثنين، فقال قوم هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي.
وقال آخرون: هما الوصيان، لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال: " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان "، ولا يلزم الشاهد يمين، وجعل الوصي اثنين تأكيدا فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك: شهدت وصية فلان، بمعنى حضرت، قال الله تعالى:" وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (النور-2)، يريد الحضور، " ذوا عدل " أي: أمانة وعقل،" منكم "،أي: من أثل دينكم يا معشر المؤمنين، " أو آخران من غيركم "، أي: من غير دينكم وملتكم في قول أكثر المفسرين، قاله أبن عباس و أبو موسى الأشعري وهو قول سعيد بن المسيب و أبراهيم النخعي و سعيد بن جبير و مجاهد و وعبيد .
ثم أختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة: هي منسوخة وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت .
وذهب قوم إلى أنها ثابتة، وقالوا: إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين .
وقال شريح : من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا من دين أثل الكتاب أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة، ولا تجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر.
وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما، وأمضى شهادتهما .
وقال آخرون: قوله " ذوا عدل منكم " أي: من حي الموصي أو آخران من غير حيكم وعشيرتكم، وهو قول الحسن و الزهري و عكرمة ، وقالوا: لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام، " إن أنتم ضربتم "، أي سرتم وسافرتم، "في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت "، فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما مالكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فاحكم فيه أن " تحبسونهما "، أي: تستوقفونهما، " من بعد الصلاة "، أي: بعد الصلاة، و " من " صلة يريد بعد الصلاة، هذا قول الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و قتادة وعامة المفسرين، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب، وقال الحسن : أراد من صلاة الظهر، وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان بصلاة العصر، " فيقسمان "، يحلفان، " بالله إن ارتبتم " ، أي : شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما، أي: في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما، " لا نشتري به ثمنا "، أي: لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده ، " ولو كان ذا قربى "، ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، " ولا نكتم شهادة الله " أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها، وقرأ يعقوب " شهادة" بتنوين " الله " ممدود ، وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ، ويروى عن أبي جعفر " شهادة "، بتنوين " الله " بقطع الألف وكسر الهاء من غير استفهام على ابتداء اليمين، أي: والله، " إنا إذا لمن الأثمين "، أي إن كتمناها كنا من الآثمين .
فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك ، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما .
ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره، فروى سعيد بن جبير عن أبن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة ، فقالوا: إنا اشتريناه من تميم وعدي، وقال آخرون: لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك، فقالا: إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا، لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ؟ قالا: لم يكن عندنا بينه وكرهنا/أن نقر لكم به فكتمناه لذلك، فرفعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
106" يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " أي فيما أمرتم شهادة بينكم، والمراد بالشهادة الإشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ "شهادة" بالنصب والتنوين على ليقم. "إذا حضر أحدكم الموت" إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة. " حين الوصية " بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حاضر. "اثنان" فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف. "ذوا عدل منكم" أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان. "أو آخران من غيركم" عطف على اثنان، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخاً فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً. "إن أنتم ضربتم في الأرض" أي سافرتم فيها. "فأصابتكم مصيبة الموت" أي قاربتم الأجل. "تحبسونهما" تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما. " من بعد الصلاة " صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل أي صلاة كانت. "فيقسمان بالله إن ارتبتم" إن ارتاب الوارث منكم. "لا نشتري به ثمناً" مقسم عليه، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذباً لطمع. "ولو كان ذا قربى" ولو كان المقسم له قريباً منا، وجوابه أيضاً محذوف أي لا نشتري. "ولا نكتم شهادة الله" أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ بالله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن. " إنا إذا لمن الأثمين " أي إن كتمنا. وقرئ " لمن الأثمين " بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها.
106. O ye who believe! Let there be witnesses between you when death draweth nigh unto one of you, at the time of bequest two witnesses, just men from among you, or two others from another tribe, in case ye are campaigning in the land and the calamity of death befall you. Ye shall empanel them both after the prayer, and, if ye doubt, they shall be made to swear by Allah (saying): We will not take a bribe, even though it were (on behalf of) a near kinsman nor will we hide the testimony of Allah, for then indeed we should be of the sinful.
106 - O ye who believe when death approaches any of you, (take) witnesses among yourselves when making bequests, two just men of your own (brotherhood) or others from outside if ye are journeying through the earth, and the chance of death befalls you (thus). if ye doubt (their truth), detain them doth after prayer, and let them both swear by God: we wish not in this for any worldly gain, even though the (beneficiary) be our near relation: we shall hide not the evidence before God: if we do, then behold the sin be upon us