10 - (وما لكم) بعد إيمانكم (ألا) فيه إدغام نون أن في لام لا (تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض) بما فيهما فتصل إليه أموالكم من غير أجر الإنفاق بخلاف ما لو أنفقتم فتؤجرون (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح) لمكة (وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا) من الفريقين وفي قراءة بالرفع مبتدأ (وعد الله الحسنى) الجنة (والله بما تعملون خبير) فيجازيكم به
يقول تعالى ذكره : وما لكم أيها الناس لا تنفقوا مما رزقكم الله في سبيل الله وإلى الله صائر أموالكم إن لم تنفقوها في حياتكم في سبيل الله لأن له ميراث السموات والأرض وإنما حثهم جل ثناؤه بذلك على حظهم فقال لهم : أنفقوا أموالكم في سبيل الله ليكون ذلكم لكم ذخرا عند الله من قبل أن تموتوا فلا تقدروا على ذلك وتصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض .
وقوله " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم معناه : لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكة وهاجر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " قال : آمن فأنفق يقول : من هاجر ليس كمن لم يهاجر .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن ليث عن مجاهد " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " يقول من آمن .
قال : ثنا مهران عن سفيان قال : يقول غير ذلك .
وقال آخرون عني بالفتح فتح مكة وبالنفقة في جهاد المشركين .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " قال : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الآخرى كانت النفقة والقتال من قبل الفتح ( فتح مكة ) أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة في قوله " من قبل الفتح " قال : فتح مكة .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " قال : فتح مكة .
وقال آخرون : عني بالفتح في هذا الموضع : صلح الحديبية .
ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن شاهين قال : ثنا خالد بن عبدالله عن داود عن عامر قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية يقول تعالى ذكره " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل "
الآية .
حدثني حميد بن مسعدة قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا داود عن عامر في هذه الآية قوله " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " قال : فتح الحديبية قال : فصل ما بين العمرتين فتح الحديبية .
حدثني ابن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب قال : ثنا داود عن عامر قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية وأنزلت " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " الى " والله بما تعملون خبير " فقالوا : يا رسول الله فتح هو ؟ قال : نعم عظيم .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الأعلى قال : ثنا داود عن عامر قال : فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية ثم تلا هنا الآية " لا يستوي منكم " الآية .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال :أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا : من هم يا رسول الله أقريش هم ؟ قال : لا ولكن أهل اليمن أرق أفئدةً وألين قلوباً فقلنا : هم خير منا يا رسول الله ؟ فقال : لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " الآية الى قوله " والله بما تعملون خبير " ."
حدثني ابن البرقي قال : ثنا ابن أبي مريم قال : ثنا محمد بن جعفر قال : أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم فقلنا : من هم يا رسول الله أقريش قال : لا هم أرق أفئدة وألين قلوباً وأشار بيده الى اليمن فقال : هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية فقلنا : يا رسول الله هم خير منا قال : والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل ذهب ينفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه . ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال : ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " ."
واولى الاقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل فتح الحديبية للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رويناه عن أبي سعيد الخدري عنه وقاتل المشركين بين أنفق بعد ذلك وقاتل وترك ذكر من أنفق بعد ذلك وقاتل استغناء بدلالة الكلام الذي ذكر عليه من ذكره " أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية وقاتلوا المشركين أعظم درجةً في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من يعد ذلك وقاتلوا .
وقوله : " وكلا وعد الله الحسنى " يقول تعالى ذكره : وكل هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والذين انفقوا من بعد وقاتلوا وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله وقتالهم أعداءه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " قال : الجنة .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : قال : ثنا سعيد عن قتادة " وكلا وعد الله الحسنى " قال : الجنة .
وقوله : " والله بما تعملون خبير " يقول تعالى ذكره : والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله وقتال أعدائه وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون خبير لا يخفى عليه منها شيء وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة .
فيه خمس مسائل :
الأولى :قوله تعالى : " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " أي أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أمولكم وههي صائرة إلى الله تعالى :فمعنى كلام التوبيخ على عدم الإنفاق . " ولله ميراث السماوات والأرض " أي إنهما راجعتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له .
الثانية :قوله تعالى : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " أكثر المفسرين على أن الراد بالفتح فتح مكة . وقال الشعبيو الزهري : فتح الحديبية . قال قتادة : كان قتالانأحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخر ، كان القتال و النفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك .وفي كلام حذف، أي " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر علىقدر النصب .والله أعلم .
الثالثة : روى أشهب عن مالك قال : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم ، وقد قال الله تعالى : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " وقال الكلبي نزل في أبي بكر رضي الله عنه ، ففيها دليل واضح على تفصيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديم ، لأنه أول من أسلم . وعن ابن مسعود : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه سلم . وعن ابن عمر قال :
"كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال يا نبي الله ! مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ؟ فقال قد أنفق علي ماله قبل الفتح قال :فإن الله يقول لك أقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي ؟ إني عن ربي لراض ! إن عن ربي لراض ! إني عن ربي لراض ! قال : فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام : والذي بعثك يا محمد بالحق ، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة "، ولهذا قدمته الصحابة على أنفسهم ، واقروا له بالتقدم والسبق . وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه :سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر ، فلا أوتي برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة . فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم ، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ .
الرابعة : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقد" قالت عائشة رضي الله عنها :
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم " أعظم المنازل مرتبة الصلاة . وقد "قال صلى الله عليه وسلم في مرضه :
مروا أبا بكر فليصل بالناس " الحديث . "وقال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " "وقال :
وليؤمكما أكبركما " من حديث مالك بن الحويرث وقد تقدم . وفهم منه البخاري ويره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة ،وكما " قال صلى الله عليه وسلم الولاء للكبر " ولم يعن كبر السن . وقد قال مالك وغيره :إن للسن حقا . وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة ، لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيرين قدم العلم ، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين ،فمن قدم في الدين قدم في الدنيا وفي لآثار :
" ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويحرم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه " . ومن الحديث الثابت في الأفراد :
" ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه "
وأنشدوا
يا عائبا للشيوخ من أشر داخله في الصبا ومن بذخ
اذكر إذا شئت أن تعيرهم جدك واذكر أباك يا بن أخ
واعلم بأن الشباب منسلخ عنك وما وزره بمنسلخ
من لا يعز الشيوخ لا بغت يوما به سنه إلى الشيخ
الخامسة : قو له تعالى : " وكلا وعد الله الحسنى " أي المتقدمون المتناهون السابقون ، والمتأخرون اللاحقون ،وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات . وقرأ ابن عامر وكل بالرفع ، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام . الباقون وكلا بالنصب على ما في مصاحفهم ، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى . ومن رفع فلأن المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل ،والهاء محذوفة من وعد .
أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل, والدوام والثبات على ذلك والاستمرار, وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية, فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم, فأرشد الله تعالى إلى استعمال ما استخلفتم فيه من المال في طاعته, فإن تفعلوا وإلا حاسبكم عليه وعاقبكم لترككم الواجبات فيه, وقوله تعالى: "مما جعلكم مستخلفين فيه" فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك, فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك, أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت قتادة يحدث عن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: "ألهاكم التكاثر, يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟" ورواه مسلم من حديث شعبة به وزاد: "وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وقوله تعالى: "فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير" ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ثم قال تعالى: " وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم " أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به, وقد روينا في الحديث من طرق في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: "أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً ؟ قالوا: الملائكة. قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا: فالأنبياء. قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا: فنحن. قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها" وقد ذكرنا طرفاً من هذه الرواية في أول سورة البقرة عند قوله تعالى: "الذين يؤمنون بالغيب".
وقوله تعالى: "وقد أخذ ميثاقكم" كما قال تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم, وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم وهو مذهب مجاهد فالله أعلم. وقوله تعالى: "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات" أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات "ليخرجكم من الظلمات إلى النور" أي من ظلمات الجهل والكفر والاراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان "وإن الله بكم لرؤوف رحيم" أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة العلل وإزالة الشبه, ولما أمرهم أولاً بالإيمان والإنفاق ثم حثهم على الإيمان وبين أنه قد أزال عنهم موانعه حثهم أيضاً على الإنفاق فقال: " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض " أي أنفقوا ولا تخشوا فقراً وإقلالاً فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض وبيده مقاليدهما وعنده خزائنهما, وهو مالك العرش بما حوى, وهو القائل "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين".
وقال: "ما عندكم ينفد وما عند الله باق" فمن توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالاً, وعلم أن الله سيخلفه عليه, وقوله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل" أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله, وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديداً فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون, وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً ودخل الناس في دين الله أفواجاً. ولهذا قال تعالى: "أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى" والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة, وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح ههنا صلح الحديبية, وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا زهير, حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام, فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها, فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "دعوا لي أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم" ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة, وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح, فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا, فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا, فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم, فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما, فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك, والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب, أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية, حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" فقلنا من هم يارسول الله أقريش ؟ قال: "لا ولكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً" فقلنا: أهم خير منا يارسول الله ؟ قال: "لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير" " وهذا الحديث غريب بهذا السياق والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ذكر الخوارج: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". الحديث, ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال: حدثني ابن البرقي حدثني ابن أبي مريم, أخبرنا محمد بن جعفر, أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم يا رسول الله ؟ قريش ؟ قال: "لا ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً" وأشار بيده إلى اليمن فقال: "هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية" فقلنا: يارسول الله هم خير منا ؟ قال: "والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولانصيفه" ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: "ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير"". فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية, فإن كان ذلك محفوظاً كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخباراً عما بعده كما في قوله تعالى في سورة المزمل وهي مكية من أوائل ما نزل "وآخرون يقاتلون في سبيل الله" الاية. فهي بشارة بما يستقبل وهكذا هذه والله أعلم.
وقوله تعالى: "وكلاً وعد الله الحسنى" يعني المنفقين قبل الفتح وبعده, كلهم لهم ثواب على ما عملوا, وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً" وهكذا الحديث الذي في الصحيح "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير" وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الاخر بمدح الأول دون الاخر, فيتوهم متوهم ذمه, فلهذا عطف بمدح الاخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه, ولهذا قال تعالى: "والله بما تعملون خبير" أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن فعل ذلك بعد ذلك وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق, وفي الحديث "سبق درهم مائة ألف" ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الاية, فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء, فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عز وجل, ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الاية: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي, أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد, أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب, أخبرنا محمد بن يونس, حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني, حدثنا أبو إسحاق الفزاري, حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمرو قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال, فنزل جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال: "أنفق ماله علي قبل الفتح" قال: فإن الله يقول: اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟" فقال أبو بكر رضي الله عنه: أسخط على ربي عز وجل ؟ إني عن ربي راض. هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه والله أعلم. وقوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" قال عمر بن الخطاب: هو الإنفاق في سبيل الله, وقيل: هو النفقة على العيال, والصحيح أنه أعم من ذلك, فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة, وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الاية, ولهذا قال تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" كما قال في الاية الأخرى: " أضعافا كثيرة " " وله أجر كريم " أي جزاء جميل ورزق باهر, وهو الجنة يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الاية "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له" قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله, وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي, وله حائط فيه ستمائة نخلة, وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح. قالت: لبيك, قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل, وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" وفي لفظ "رب نخلة مدلاة عروقها در وياقوت لأبي الدحداح في الجنة".
والاستفهام في قوله:10- " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " للتقريع والتوبيخ، والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله: "وما لكم لا تؤمنون بالله" وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك، والمعنى: أي عذر لكم وأي شيء يمنعكم من ذلك، والأصل في أن لا تنفقوا، وقيل إن أن زائدة، وجملة "ولله ميراث السموات والأرض" في محل نصب على الحال من فاعل ألا تنفقوا أو من مفعوله، والمعنى: أي شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم خلفاؤه في التصرف فيها.ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح" قيل المراد بالفتح فتح مكة. وبه قال أكثر المفسرين. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وفي الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح "وقاتل" ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال. والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره "أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا" أي أرفع منزلة وأعلى رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم. وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ.
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ
مد أحدهم ولا نصيفه" وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب
الذي ورد فيه هذا الحديث "وكلا وعد الله الحسنى" أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى،
وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها. قرأ الجمهور "وكلاً" بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر. وقرأ ابن
عامر بالرفع على الابتداء، والجملة بعده خبره والعائد محذوف، أو على أنه خبر محذوف، ومثل هذا قول
الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع
"والله بما تعملون خبير" لا يخفى عليه من ذلك شيء.
10- " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض "، يقول: أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرب من الله وأنتم ميتون تاركون أموالكم، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح"، يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين، وقال الشعبي: هو صلح الحديبية، "وقاتل"، يقول: لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة مع من أنفق وقاتل بعده، "أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا"، وروى محمد بن فضيل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فإنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله. وقال عبد الله بن مسعود: أول من أظهر إسلامه بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني، حدثنا أبو إسحاق الفزارى، حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل فقال: مالي أرى أبابكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال؟ فقال: أنفق ماله علي قبل الفتح، قال: فإن الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك: أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربي؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض".
"وكلاً وعد الله الحسنى"، أي كلا الفريقين وعدهم الله الجنة. قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها. وقرأ ابن عامر: وكل بالرفع، "والله بما تعملون خبير".
10-" وما لكم أن لا تنفقوا " وأي شيء لكم في " أن لا تنفقوا " . " في سبيل الله " فيما يكون قربة إليه ." ولله ميراث السموات والأرض " يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال ، وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضاً يبقى وهو الثواب كان أولى . " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً " بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين ، وتحري الحاجات حثاً على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق ، و ذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه ، و " الفتح " فتح مكة إذ عز الإسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإنفاق . " من الذين أنفقوا من بعد " أي من بعد الفتح " وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى " أي وعد الله كلاً من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة .وقرأ ابن عامر وكل بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه . " والله بما تعملون خبير " عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه ، والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً أشرف به على الهلاك .
10. And what aileth you that ye spend not in the way of Allah, when unto Allah belongeth the inheritance of the heavens and the earth? Those who spent and fought before the victory are not upon a level (with the rest of you). Such are greater in rank than those who spent and fought afterwards. Unto each hath Allah promised good. And Allah is Informed of what ye do.
10 - And what cause have ye why ye should not spend in the cause of God? For to God belongs the heritage of the heavens and the earth. Not equal among you are those who spent (freely) and fought, before the Victory, (with those who did so later). Those are higher in rank than those who spent (freely) and fought afterwards, but to all has God promised a goodly (reward). And God is well acquainted with all that ye do.