[التوبة : 122] وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
122 - ولما وُبِّخوا على التخلف وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية نفروا جميعا فنزل : (وما كان المؤمنون لينفروا) إلى الغزو (كافة فلولا) فهلا (نفر من كل فرقة) قبيلة (منهم طائفة) جماعة ، ومكث الباقون (ليتفقهوا) أي الماكثون (في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) من الغزو بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام (لعلهم يحذرون) عقاب الله بامتثال أمره ونهيه ، قال ابن عباس فهذه مخصوصة بالسرايا ، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال لما نزلت إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما وقد كان تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم فقال المنافقون قد بقي ناس في البوادي هلك أصحاب البوادي فنزلت وما كان المؤمنون لينفرو كافة
وأخرج عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال كان المؤمنون لحرصهم على الجهاد إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية خرجوا فيها وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في رقة من الناس فنزلت
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعاً.
وقد بينا معنى ((الكافة)) بشواهده، وأقوال أهل التأويل فيه، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية، وما ((النفر)) الذي كرهه لجميع المؤمنين.
فقال بعضهم: وهو نفر كان من قوم كانوا بالبادية، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فلما نزل قوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله " [التوبة: 120]، انصرفوا عن البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه، وممن عني بالآية. فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "، قال: ناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفاً، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا! فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجاً، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "، يبتغون الخير، " ليتفقهوا "، وليسمعوا ما في الناس، وما أنزل الله بعدهم، " ولينذروا قومهم "، الناس كلهم، " إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ".
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال في حديثه: فقال الله: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "، خرج بعض، وقعد بعض يبتغون الخير.
... قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، نحو حديثه عن أبي حذيفة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة، غير أنه قال في حديثه: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم! وقال: " ليتفقهوا "، ليسمعوا ما في الناس.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعاً إلى عدوهم، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده، كما:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، قال: ليذهبوا كلهم، فلولا نفر من كل حي وقبيلة طائفة، وتخلف طائفة، " ليتفقهوا في الدين "، ليتفقه المتخلفون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدين، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "، يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتسروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: ((إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآناً وقد تعلمناه)). فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: " ليتفقهوا في الدين "، يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، إلى قوله: " لعلهم يحذرون "، قال: هذا إذا بعث نبي الله الجيوش، أمرهم ألا يعروا نبيه، وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
حدثنا الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، الآية، كان نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه، إلا أهل العذر. وكان إذا أقام فأسرت السرايا، لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن، تلاه نبي الله على أصحابه القاعدين معه. فإذا رجعت السرية، قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآناً))، فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، يقول: إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "، يعني بذلك: أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً ونبي الله قاعد، ولكن إذا قعد نبي الله، تسرت السرايا، وقعد معه عظم الناس.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم، ولكنهم منافقون. ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون، لنفر بعض ليتفقه في الدين، ولينذر قومه إذا رجع إليهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قول: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، وأنزل الله يخبر رسول الله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ".
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث، وهو ما:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، إلى قوله: " لعلهم يحذرون "، قال: كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونه عما يريدونه من دينهم، ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله: ما تأمرنا أن نفعله، وأخبرنا ما نقول لشعائرنا إذا انطلقنا إليهم؟ قال: فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: ((إن من أسلم فهو منا))، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليعرف أباه وأمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم. فإذا رجعوا إليهم، يدعونهم إلى الإسلام، وينذرونهم النار، ويبشرونهم بالجنة.
وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وغيرهم، في تخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله "، إلى " إن الله لا يضيع أجر المحسنين " [التوبة: 120]، قال ناس من المنافقين: هلك من تخلف! فنزلت: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، إلى " لعلهم يحذرون "، ونزلت: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة "، الآية [الشورى: 16].
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا سليمان الأحول، عن عكرمة، قال: سمعته يقول: لما نزلت: " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " [التوبة: 39]، " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب " إلى قوله: " ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " [التوبة: 120]، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه! وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو، إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل الله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"، إلى قوله: " لعلهم يحذرون "، ونزلت: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له " [الشورى: 16]، الآية.
واختلف الذين قالوا: ((عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية، وترك النبي عليه السلام وحده))، في المعنيين بقوله: " ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ".
فقال بعضهم: عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كل فرقة طائفة للجهاد، ليتفقه المتخلفون في الدين، ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم؟ وذلك قول قتادة ، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه، من رواية سعيد بن أبي عروبة، وقد:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين " الآية، قال: ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله، " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم "، يقول: لينذوا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن و قتادة : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، قالا: كافة ويدعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة، وتحذر النافرة المتخلفة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن : " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين "، قال: ليتفقه الذين خرجوا، بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا رسول الله وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً. ولكن عليهم إذا سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، أن ينفر معها من كل قبيلة من قبائل العرب - وهي الفرقة - " طائفة "، وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال الله جل ثناؤه: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "، يقول: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة؟ وهذا إلى هاهنا، على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك و قتادة .
وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأعراب، لغير عذر يعذرون به، إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية بقوله: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله " [التوبة: 120]، ثم عقب ذلك جل ثناؤه بقوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، فكان معلوماً بذلك، إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر، والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر، بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم، أن يكون عقيب تعريفهم ذلك، تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته، وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
وأما قوله: " ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم "، فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله، على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك - إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم -، " لعلهم يحذرون "، يقول: لعل قومهم، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذراً أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه، لأن ((النفر)) قد بينا فيما مضى، أنه إذا كان مطلقاً بغير صلة بشيء، أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو. فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين"، علم أن قوله: " ليتفقهوا "، إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذ كان يليه دون غيره من الكلام.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدين؟.
قيل: ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نفر الطائفة النافرة، لو كان سبباً لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سبباً لجهلهم وترك التفقه، وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سبباً لمنعهم من التفقه.
وبعد، فإنه قال جل ثناؤه: " ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم "، عطفاً به على قوله: " ليتفقهوا في الدين "، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به، الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به، ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا، من أنها تنذر من حيها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه: أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك.
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "وما كان المؤمنون" وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: "إلا تنفروا" [التوبة:39] وللآية التي قبلها، على قول مجاهد وابن زيد.
الثانية- هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم، لأن المعنى، وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده. "فلولا نفر" بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم. "من كل فرقة منهم طائفة" وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروه بما سمعوا وعلموه. وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" [النحل:43] [الأنبياء:7]. فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن.
الثالثة- قوله تعالى: "فلولا نفر" قال الأخفش: أي فهلا نفر. "من كل فرقة منهم طائفة" الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة. وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى: "إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة" [التوبة:66] رجل واحد. ولا شك أن المراد هنا جماعة لوجهين، أحدهما عقلاً، والآخر لغة. أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: "ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم" فجاء بضمير الجماعة. قال ابن العربي: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة ها هنا واحد، ويعتضدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر.
قلت: أنص ما يستدل به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" [الحجرات:9] يعني نفسين. دليله قوله تعالى: "فأصلحوا بين أخويكم" [الحجرات:10] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في اقتتلوا وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء.
الرابعة- قوله تعالى: "ليتفقهوا" الضمير في ليتفقهوا، ولينذروا للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال قتادة ومجاهد. وقال الحسن: هما للفرقة النافرة، واختاره الطبري. ومعنى "ليتفقهوا في الدين" أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين. "ولينذروا قومهم" من الكفار. "إذا رجعوا إليهم" من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم لا يدان لهم بقتالهم وقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قلت: قول مجاهد وقتادة أبين، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا. وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام، إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته، قاله أبو بكر بن العربي.
الخامسة- طلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان، كالصلاة والزكاة والصيام.
قلت- وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي "إن طلب العلم فريضة". روى عبد القدوس بن حبيب: أبو سعيد الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"طلب العلم فريضة على كل مسلم". قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث.
وفرض على الكفاية، كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه، إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم، فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.
السادسة- طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل، روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر". وروى الدارمي أبو محمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي عن الحسن قال:
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالماً يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير. والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم". أسنده أبو عمر في كتاب (بيان العلم) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي". وقال ابن عباس: أفضل الجهاد من بنى مسجداً يعلم فيه القرآن والفقه والسنة. رواه شريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي قال: أردت الجهاد فقال لي ابن عباس: ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجداً فتقرأ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه. وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة. وقوله عليه السلام:
"إن الملائكة لتضع أجنحتها" الحديث يحتمل وجهين: أحدهما أنها تعطف عليه وترحمه، كما قال الله تعالى فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" [الإسراء:24] أي تواضع لهما. والوجه الآخر- أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها، لأن في بعض الروايات "وإن الملائكة تفرض أجنحتها" أي أن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها، فمن هناك يسلم فلا يحفى إن كان ماشياً ولا يعيا، وتقرب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق. وقد مضى شيء من هذا المعنى في آل عمران عند قوله تعالى: "شهد الله" [آل عمران:18] الآية، روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟
قلت: وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث، ذكره الثعلبي. سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر بن أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام:
"لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" إنهم العلماء، قال: وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فيضة من الدمع. فمعنى لا يزال أهل الغرب أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين، الحديث. قال الله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" [فاطر:28].
قلت: وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم:
"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره. والله أعلم.
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: " انفروا خفافا وثقالا " وقال "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب" الاية, قال فنسخ ذلك بهذه الاية. وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم, ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو, فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين, وبعده صلى الله عليه وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد, فإنه فرض كفاية على الأحياء, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة" يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه, فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآناً وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى, فذلك قوله: "ليتفقهوا في الدين" يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم, "لعلهم يحذرون" وقال مجاهد: نزلت هذه الاية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفاً, ومن الخصب ما ينتفعون به, ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى, فقال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا ؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجاً وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الله عز وجل: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة" يبغون الخير "ليتفقهوا في الدين" وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم "ولينذروا قومهم" الناس كلهم إذا رجعوا إليهم "لعلهم يحذرون" وقال قتادة في الاية: هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى الله عليه وسلم, وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين, وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار, وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه, وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه, فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآناً فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين, وهو قوله: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" يقول إذا أقام رسول الله "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة" يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد, ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس. وقال علي بن أبي طلحة أيضاً عن ابن عباس في الاية, قوله "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" إنها ليست في الجهاد, ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين, أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها, حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون, فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم, فأنزل الله تعالى يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين, فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم, فذلك قوله: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم" الاية.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية: كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتقفهون في دينهم, ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تأمرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم, قال فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله ورسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة, وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا: إن من أسلم فهو منا وينذرونهم, حتى إن الرجل ليفارق أباه, وأمه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم, فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة, وقال عكرمة لما نزلت هذه الاية "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً" و"ما كان لأهل المدينة" الاية, قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه, وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عز وجل "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" الاية, ونزلت"والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد" وقال الحسن البصري في الاية: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة, وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
اختلف المفسرون في معنى 122- "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد، لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الكفار ينفرون جميعاً ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك: أي ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعاً، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة. قالوا: ويكون الضمير في قوله: "ليتفقهوا" عائداً إلى الفرقة الباقية. والمعنى: أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم، ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم، وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلاً بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين: الأول: سفر الجهاد، والثاني: السفر لطلب العلم، ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر. والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول. ومعنى "فلولا نفر" فهلا نفر، والطائفة في اللغة الجماعة. وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين، فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني، فهو كما قلت:
وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس
ومعنى "لعلهم يحذرون" الترجي لوقوع الحذر منهم عن التفريط فيما يجب فعله فيترك، أو فيما يجب تركه فيفعل.
122-قوله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " الآية: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وهذا نفي بمعنى النهي.
قوله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"، أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة "ليتفقهوا في الدين"، يعنى الفرقة القاعدين، يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أنزل بعدهم، فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم، وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله: "ولينذروا قومهم"، وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، "إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" لا يعلمون بخلافه.
وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة، ومعناه: هلا نفر فرقة ليتفقهوا، أي: ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلهم يخذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
وقال الكلبي: لها وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد من خزيمة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا المدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فنزل قوله: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"، أي: لم يكن لهم أن ينفروا كافة ولكن من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين.
وقال مجاهد: نزلت في ناس خرجوا في البوادي ابتغاء الخبر من أهلها فأصابوا منهم معروفا، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا، وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، أي: هلا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ويستمعوا ما أنزل بعدهم ولينذروا قومهم، يعني: الناس كلهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الله، لعلهم يحذرون بأس الله ونقمته، وقعدت طائفة يبتغون الخير.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني، حدثنا عبد اله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي ، أنبأنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
والفقه: هو معرفة أحكام الدين، وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة، والصلاة، والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"طلب العلم فريضة على كل ملسم". وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واجب بجب عليه معرفة علمها، مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية فهو: أن يتعلم حتى يبلغ درجة/ الاجتهاد ورتبة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا، وإذا قام من كل بلد واحد فتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".
قال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
122." وما كان المؤمنون لينفروا كافة "وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإنه يخل بأمر المعاش"فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة . "ليتفقهوا في الدين"ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها."ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم"وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غذ المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد."لعلهم يحذرون" إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكر ويحذروا، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك ، وقد أشبعت القول فيه تقريراً واعتراضاً في كتابيالمرصاد .وقد قيل لآية معنى آخر وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجة هو الأصل ولمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو ،وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا لبواقي قومهم النافرين إذا ردعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم .
122. And the believers should not all go out to fight. Of every troop of them, a party only should go forth, that they (who are left behind) may gain sound knowledge in religion, and that they may warn their folk when they return to them, so that they may beware.
122 - Nor should the believers all go forth together: if a contingent from every expedition remained behind, they could devote themselves to studies in religion, and admonish the people when they return to them, that thus they (may learn) to guard themselves (against evil)