[التوبة : 102] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
102 - (و) قوم (آخرون) مبتدأ (اعترفوا بذنوبهم) من التخلف نعته والخبر (خلطوا عملاً صالحاً) وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك (وآخر سيئاً) وهو تخلفهم (عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) نزلت في أبي لبابة وجماعة أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين وحلفوا لا يحلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم فحلهم لما نزلت
قوله تعالى وآخرون اعترفوا الآية أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف أبو لبابة وخمسة معه ثم ان أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها ففعلوا وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته فقال من هؤلاء الموثقون بالسواري فقال رجل هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال لا أطلقهم حتى أومر باطلاقهم فأنزل الله وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية فلما نزلت أطلقهم وعذرهم وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم لم يذكروا بشيء وهم الذين قال الله فيهم وآخرون مرجون لأمر الله الآية فجعل أناس يقولون هلكوا إذ لم ينزل عذرهم وآخرون يقولون عسى الله أن يتوب عليهم حتى نزلت وعلى الثلاثة الذين خلفوا
وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه
وزاد فجاء أبو لبابة بأموإلهم حين أطلقوا فقالوا يا رسول الله أموالنا فتصدق بها عنا واستغقر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله خذ من أموإلهم صدقة الآية وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد ابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم
وأخرج عبد عن قتادة انها نزلت في سبعة أربعة منهم ربطوا أنفسهم في السواري وهم أبو أبو لبابة ومرداس واوس بن خذام وثعلبة بن وديعة وأخرج ابو الشيخ وابن مندة في الصحابة من طريق الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة أبو لبابة واوس بن خذام وثعلبة بن وديعة وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فجاء أبو لبابة وأوس وثعلبة فربطوا أنفسهم بالسواري وجاءوا بأموالهم فقالوا يا رسول الله خذ هذا الذي حبسنا عنك فقال لا أحلهم حتى يكون قتال فنزل القرآن وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية إسناده قوي
وأخرج ابن مردويه بسند فيه الواقدي عن أم سلمة قالت إن توبة أبي لبابة نزلت في بيتي فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك في السحر فقلت ما يضحكك يا رسول الله قال تيب علي أبي لبابة فقلت أوذنه بذلك فقال ما شئت فقمت على باب الحجرة وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس ليطلقوه فقال حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون هو الذي يطلقني فلما خرج إلى الصبح أطلقه فنزلت وآخرون اعترفوا بذنوبهم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق، ومنهم " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، يقول: أقروا بذنوبهم، " خلطوا عملا صالحا "، يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيء: اعترافهم بذنوبهم، وتوبتهم منها، والآخر السيء: هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج غازياً، وتركهم الجهاد مع المسلمين.
فإن قال قائل: وكيف قيل: " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا "، وإنما الكلام: خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيء؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل ذلك كذلك، وجائز في العربية أن يكون ((بآخر))، كما تقول ((استوى الماء والخشبة))، أي: بالخشبة، ((وخلطت الماء واللبن)).
وأنكر آخر أن يكون نظير قولهم: ((استوى الماء والخشبة))، واعتل في ذلك بأن الفعل في ((الخلط)) عامل في الأول والثاني، وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه، وأن تقديم ((الخشبة)) على ((الماء)) غير جائز في قولهم: ((استوى الماء والخشبة))، وكان ذلك عنده دليلاً على مخالفة ذلك ((الخلط)).
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أنه بمعنى قولهم: ((خلطت الماء واللبن))، بمعنى: خلطته باللبن.
" عسى الله أن يتوب عليهم "، يقول: لعل الله أن يتوب عليهم، و" عسى " من الله واجب، وإنما معناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت، " إن الله غفور رحيم "، يقول: إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه، وساتر له عليها، " رحيم "، به أن يعذبه بها.
وقد اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية، والسبب الذي من أجله أنزلت فيه.
فقال بعضهم: نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، منهم أبو لبابة، فربط سبعة منهم أنفسهم إلى السواري عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، توبةً منهم من ذنبهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا "، قال: " كانوا عشرة رهط، تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم. فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك، يا رسول الله، وحلفوا لا يطلقهم أحد، حتى تطلقهم، وتعذرهم. فقال النبي عليه السلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا! فأنزل الله تبارك وتعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم "، و" عسى " من الله واجب. فلما نزلت، أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم ".
وقال آخرون: بل كانوا ستة، أحدهم أبو لبابة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله " إلى قوله: " إن الله غفور رحيم "، وذلك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا، وايقنوا بالهلكة، وقالوا: ((نكون في السكن والطمأنينة مع النساء، ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرنا))، فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد، وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان طريقه في المسجد، فمر عليهم فقال: من هؤلاء الموثقو أنفسهم بالسواري؟ فقالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم، وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم، وقد تخلفوا عني، ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم! فأنزل الله برحمته: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم "، و" عسى " من الله واجب، فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذرهم، وتجاوز عنهم " .
وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم "، قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، منهم كردم، ومرداس، وأبو لبابة.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال:الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال، وأبو لبابة، وكردم، ومرداس، وأبو قيس.
وقال آخرون: كانوا سبعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم "، ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك، فأما أربعة فخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً: جد بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، وكلهم من الأنصار، وهم الذين قيل فيهم: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم "، الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا "، قال:هم نفر ممن تخلف عن تبوك، منهم أبو لبابة، ومنهم جد بن قيس، تيب عليهم، قال قتادة : وليسوا بثلاثة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، قال: هم سبعة، منهم أبو لبابة، كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك، وليسوا بالثلاثة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا "، " نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان قريباً من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا: ((نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا!))، وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة، لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فمر في المسجد، وكان طريقه، فأبصرهم، فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين! فأنزل الله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، إلى " عسى الله أن يتوب عليهم "، و((عسى)) من الله واجب، فأطلقهم نبي الله وعذرهم ".
وقال آخرون: بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة، وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه فيه، ما كان من أمره في بني قريظة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد . " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، قال: نزلت في أبي لبابة، قال لبني قريظة ما قال.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، قال: أبو لبابة، إذ قال لقريظة ما قال، أشار إلى حلقه: أن محمداً ذابحكم إن نزلتم على حكم الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، فذكر نحوه، إلا أنه قال، إن نزلتم على حكمه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث ، عن مجاهد : ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية، فقال: لا أحل نفسي حتى يحلني الله ورسوله! قال: فحله النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنزلت هذه الآية: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا "، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث ، عن مجاهد : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، قال: نزلت في أبي لبابة.
وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة، بسبب تخلفه عن تبوك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري : " كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، فقال: والله لا أحل نفسي منها، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً، حتى أموت أو يتوب علي! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه، قال: ثم تاب الله عليه، ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة! فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يحلني! قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله ورسوله! قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث ".
وقال بعضهم: عني بهذه الآية الأعراب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا "، قال فقال: إنهم من الأعراب.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هرون، عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " إلى: " والله غفور رحيم ".
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جل ثناؤه قال: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه، الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم "، بالاعتراف بذنوبهم جماعةً، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذ لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعة فعلت ذلك، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صح ما قلنا في ذلك. وقلنا: ((كان منهم أبو لبابة))، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد. فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين، وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل: "خذ من أموالهم صدقة"، ذكره المهدوي. وقال زيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقيل: كانوا ستة. وقيل: خمسة. وقال مجاهد: نزلت الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة، وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه. يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله، ذكره الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا. وقال أشهب عن مالك: نزلت "وآخرون" في شأن أبي لبابة وأصحابه. "وقال حين أصاب الذنب: يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي؟ فقال:
يجزيك من ذلك الثلث" وقد قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" ورواه ابن القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلمابن وهب عن مالك. والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، "وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم. فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً" فأنزل الله تعالى "خذ من أموالهم صدقة" الآية. قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة، فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها. فكان عملهم السيء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة. واختلفوا في الصالح، فقال الطبري وغيره: الاعتراف والتوبة والندم. وقيل: عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا: لا نقرب أهلاً ولا ولداً حتى ينزل الله عذرنا. وقالت فرقة: بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة، فهي ترجى. ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: "وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". وفي البخاري عن سمرة بن جند قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا:
"أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلفهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا: أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم". وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه، قال:
"ثم صعد بي إلى السماء..." ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا: "حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بين الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهراً فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم -قال- وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا فتاب الله عليهم. فأماالنهر الأول فرحمة الله وأما الثاني فنعمة الله. وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شراباً طهوراً" وذكر الحديث. والواو في قوله: "وآخر سيئا" قيل: هي بمعنى الباء، وقيل: بمعنى مع، كقولك استوى الماء والخشبة. وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا: لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، وآخر في الآية يجوز تقديمه على الأول، فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن.
لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيباً وشكاً, شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم بالحق, فقال "وآخرون اعترفوا بذنوبهم" أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم, ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه, وهذه الاية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين, وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه, وقال ابن عباس "وآخرون" نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه, وقيل وسبعة معه, وقيل وتسعة معه, فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أنزل الله هذه الاية "وآخرون اعترفوا بذنوبهم" أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم, وقال البخاري: حدثنا مؤمل بن هشام, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا عوف, حدثنا أبو رجاء, حدثنا سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا "أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء, وشطر كأقبح ما أنت راء, قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة, قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك, قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح, فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم" هكذا رواه البخاري مختصراً في تفسير هذه الاية.
ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال: 102- "وآخرون اعترفوا بذنوبهم" وهو معطوف على قوله: منافقون: أي وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة قوم آخرون، ويجوز أن يكون آخرون مبتدأ، واعترفوا بذنوبهم صفته، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً خبره، والمعنى: أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوغ للتخلف ثم ندموا على ذلك، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون، بل تابوا واعترفوا بالذنب ورجوا أن يتوب الله عليهم. والمراد بالعمل الصالح: ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن. والمراد بالعمل السيء: هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيء عملاً صالحاً، وهو الاعتراف به والتوبة عنه. وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء، ومجرد الإقرار لا يكون في توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ومعنى الخلط: أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولك: بعت الشاة شاة ودرهماً: أي بدرهم، وفي قوله: "عسى الله أن يتوب عليهم" دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة، أو أن مقدمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة، وحرف الترجي وهو عسى هو في كلام الله سبحانه يفيد تحقيق الوقوع، لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين "إن الله غفور رحيم" أي يغفر الذنوب ويتفضل على عباده.
102-قوله تعالى: "وآخرون"، أي: ومن أهل المدينة، أو: من الأعراب آخرون، ولا يرجع هذا إلى المنافقين، "اعترفوا"، أقروا، "بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً"، وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم "وآخر سيئا"، أي: بعمل آخر سيء، وضع الواو موضع الباء، كما يقال: خلطت الماء واللبن، أي: باللبن.
والعمل السيء: هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و العمل الصالح : هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل : غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم .
" عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم"،" نزلت هذه الآية في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك، وقالوا: نكون في الظلال مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء! فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ فقالوا هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله عز وجل أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عنى وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة"" الآية.
واختلفوا في أعداد هؤلاء التائبين، فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانوا عشرة منهم أبو لبابة. وروى عطية عنه: أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال الضحاك و قتادة: كانوا سبعة. وقالوا جميعا: أحدهم أبو لبابة.
وقال قوم: نزلت في أبي لبابة خاصة. واختلفوا في ذنبه، قال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه.
وقال الزهري: نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية، وقال والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاماً ولا شراباً، حتى أموت أو يتوب الله علي! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقيل له: قد تيب عليك!، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التى أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
قالوا جميعا: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم، وترك الثلثين، لأن الله تعالى قال: "خذ من أموالهم"، ولم يقل: خذ أموالهم، قال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا.
102."وآخرون اعترفوا بذنوبهم"ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة ، وهم "طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين ،فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذك له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال:وأنا أقسم أن لا احلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم"."خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً"خلطوا الفعل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيئ هو التخلف وموافقة أهل النفاق،والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم بعت الشاء شاة ودرهماً.أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر ."عسى الله أن يتوب عليهم" أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله "اعترفوا بذنوبهم"." إن الله غفور رحيم "يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه .
102. And (there are) others who have acknowledged their faults. They mixed a righteous action with another that was bad. It may be that Allah will relent toward them. Lo! Allah is Relenting, Merciful.
102 - Others (there are who) have acknowledged their wrong doings: they have mixed an act that was good with another that was evil. perhaps God will turn unto them (in mercy): for God is oft forgiving most merciful.