[الأعلي : 17] وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
17 - (والآخرة) المشتملة على الجنة (خير وأبقى)
قوله تعالى : ( والآخرة خير لكم وأبقى ) يقول : زينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء ، لأن الحياة الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، لا تنفد ولا تفنى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " بل تؤثرون الحياة الدنيا " فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله ، وقوله " والآخرة خير " في الخير " وأبقى " في البقاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن عطاء عن عرفجة الثقفي ، قال : استقرأت ابن مسعود " سبح اسم ربك الأعلى " ، فلما بلغ " بل تؤثرون الحياة الدنيا " ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزويت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الآجل .
واختلفت القراء في قراءة قوله " بل تؤثرون الحياة الدنيا " فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار " بل تؤثرون " بالتاء ، إلا أبا عمرو ، فإنه قرأه بالياء ، وقال : يعني الأشقياء .
والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء ، لإجماع الحجة من القراء عليه ، وذكر أن ذلك في قراءة ابي : ( بل أنتم تؤثرون ) فذلك أيضاً شاهد لصحة القراءة بالتاء .
قوله تعالى:" والآخرة خير وأبقى" أي والدار الآخرة، أي الجنة. " خير" أي أفضل. " وأبقى" أي أدوم من الدنيا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"(ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى، على ذهب يفنى. قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى ".
يقول تعالى: "قد أفلح من تزكى" أي طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة وتابع ما أنزل الله على الرسول صلوات الله وسلامه عليه "وذكر اسم ربه فصلى" أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله وامتثالاً لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن أحمد العزرمي , حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب , عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من تزكى" قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله" "وذكر اسم ربه فصلى" قال: "هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها" ثم قال: لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه, وكذا قال ابن عباس : إن المراد بذلك الصلوات الخمس, واختاره ابن جرير .
وقال ابن جرير : حدثني عمرو بن عبد الحميد الاملي , حدثنا مروان بن معاوية عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غداً إلى العيد فمر بي, قال: فمررت به فقال: هل طعمت شيئاً ؟ قلت: نعم. قال: أفضت على نفسك من الماء ؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك! قلت: قد وجهتها قال: إنما أردتك لهذا ثم قرأ "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء (قلت): وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو هذه الاية "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" وقال أبو الأحوص : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة فليقدم بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" وقال قتادة في هذه الاية "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" زكى ماله وأرضى خالقه.
ثم قال تعالى: "بل تؤثرون الحياة الدنيا" أي تقدمونها على أمر الاخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم " والآخرة خير وأبقى " أي ثواب الله في الدار الاخرة خير من الدنيا وأبقى, فإن الدنيا دنية فانية والاخرة شريفة باقية, فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ويهتم بما يزول عنه قريباً ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد. قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد , حدثنا ذويد عن أبي إسحاق عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له" وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا يحيى بن واضح , حدثنا أبو حمزة عن عطاء عن عرفجة الثقفي قال استقرأت ابن مسعود " سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى " إلى قوله " بل تؤثرون الحياة الدنيا " ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال: آثرنا الدنيا على الاخرة, فسكت القوم فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها, وزويت عنا الاخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الاجل, وهذا منه على وجه التواضع والهضم أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي , حدثنا إسماعيل بن جعفر , أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب دنياه أضر بآخرته, ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى" تفرد به أحمد , وقد رواه أيضاً عن أبي سلمة الخزاعي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به مثله سواء, وقوله تعالى: "إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى" قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا نصر بن علي , حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان كل هذا ـ أو كان هذا ـ في صحف إبراهيم وموسى" ثم قال: لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس غير هذا, وحديثاً آخر رواه مثل هذا.
وقال النسائي أخبرنا زكريا بن يحيى , أخبرنا نصر بن علي , حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه , عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "سبح اسم ربك الأعلى" قال: كلها في صحف إبراهيم وموسى, ولما نزلت "وإبراهيم الذي وفى" قال: وفى إبراهيم " ألا تزر وازرة وزر أخرى " يعني أن هذه الاية كقوله تعالى في سورة النجم " أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى " الايات إلى آخرهن, وهكذا قال عكرمة فيما رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى: "إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى" يقول: الايات التي في سبح اسم ربك الأعلى, وقال أبو العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى, واختار ابن جرير أن المراد بقوله: إن هذا إشارة إلى قوله: " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى " ثم قال تعالى: "إن هذا" أي مضمون هذا الكلام "لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى" وهذا الذي اختاره حسن قوي, وقد روي عن قتادة وابن زيد نحوه, والله أعلم, آخر تفسير سورة سبح, ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
17- "والآخرة خير وأبقى" في محل نصب على الحال من فاعل تؤثرون: أي والحال أن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل وأدوم من الدنيا، قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى؟.
17-"والآخرة خير وأبقى"، قال عرفجة الأشجعي: كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية، فقال لنا: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا، قال لأن الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأن الآخرة نعتت لنا، وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
17-" والآخرة خير وأبقى " فإن نعيمها ملذ بالذات خالص عن الغوائل لا انقطاع له .
17. Although the Hereafter is better and more lasting.
17 - But the Hereafter is better and more enduring.