[عبس : 17] قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ
17 - (قتل الإنسان) لعن الكافر (ما أكفره) استفهام توبيخ أي ما حمله على الكفر
وقوله : " قتل الإنسان ما أكفره " يقول تعالى ذكره : لعن الإنسان الكافر ما أكفره !
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا عبد الحميد الحماني ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : ما كان في القرآن " قتل الإنسان " أو فعل بالإنسان ، فإنما عني به الكافر .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان " قتل الإنسان ما أكفره " بلغني أنه الكافر .
وفي قوله : " أكفره " وجهان : أحدهما : التعجب من كفره ، مع إحسان الله إليه ، وأياديه عنده ، والآخر : ما الذي أكفره ، أي أي شيء أكفره ؟
قوله تعالى:" قتل الإنسان ما أكفره" ؟ ((قتل)) أي لعن. وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن ((قتل الإنسان)) فإنما عني به الكافر. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن ، فلما نزلت((والنجم)) ارتد، وقال: آمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه (( قتل الإنسان)) أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة))فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هو على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال : ما قال محمد شيئاً قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس((ما أكفره)): أي شيء أكفره؟ وقيل ((ما)) تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى : أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرناه بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضاً، قال ابن جريج: أي ما أشد كفره وقيل: ((ما)) استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر فهو استفهام توبيخ. و((ما)) تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاماً.
يقول تعالى ذاماً لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم "قتل الإنسان ما أكفره" قال الضحاك عن ابن عباس "قتل الإنسان" لعن الإنسان, وكذا قال أبو مالك : وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم, قال ابن جريج "ما أكفره" أي ما أشد كفره, وقال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافراً أي ما حمله على التكذيب بالمعاد. وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي وقال قتادة "ما أكفره" ما ألعنه, ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير وأنه قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: " من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره " أي قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد "ثم السبيل يسره" قال العوفي عن ابن عباس : ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه, وكذا قال عكرمة والضحاك وأبو صالح وقتادة والسدي واختاره ابن جرير وقال مجاهد : هذه كقوله تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه عمله, وكذا قال الحسن وابن زيد , وهذا هو الأرجح والله أعلم. وقوله تعالى: "ثم أماته فأقبره" أي أنه بعد خلقه له أماته فأقبره أي جعله ذا قبر, والعرب تقول: قبرت الرجل إذا ولى ذلك منه, وأقبره الله, وعضبت قرن الثور وأعضبه الله وبترت ذنب البعير وأبتره الله, وطردت عني فلاناً وأطرده الله, أي جعله طريداً, قال الأعشى :
لو أسندت ميتاً إلى صدرها عاش ولم ينقل إلى قابر
وقوله تعالى: "ثم إذا شاء أنشره" أي بعثه بعد موته ومنه يقال البعث والنشور "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون", "وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أصبغ بن الفرج , أخبرنا ابن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح أخبره عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه قيل: وما هو يا رسول الله ؟ قال: مثل حبة خردل منه تنشؤون" وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بدون هذه الزيادة ولفظه "كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب".
وقوله تعالى: "كلا لما يقض ما أمره" قال ابن جرير : يقول جل ثناؤه كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله "لما يقض ما أمره" يقول: لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عز وجل ثم روى هو و ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله تعالى: "كلا لما يقض ما أمره" قال: لا يقضي أحداً أبداً كل ما افترض عليه, وحكاه البغوي عن الحسن البصري بنحو من هذا, ولم أجد للمتقدمين فيه كلاماً سوى هذا, والذي يقع لي في معنى ذلك, والله أعلم, أن المعنى "ثم إذا شاء أنشره" أي بعثه "كلا لما يقض ما أمره" أي لا يفعله الان حتى تنقضي المدة ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب الله أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا, وقد أمر به تعالى كوناً وقدراً فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم وقد روى ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: قال عزير عليه السلام قال الملك الذي جاءني فإن القبور هي بطن الأرض, وإن الأرض هي أم الخلق فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبور التي مد الله لها انقطعت الدنيا ومات من عليها ولفظت الأرض ما في جوفها وأخرجت القبور ما فيها, وهذا شبيه بما قلناه من معنى الاية, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقوله تعالى: "فلينظر الإنسان إلى طعامه " فيه امتنان وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاماً بالية وتراباً متمزقاً "أنا صببنا الماء صباً" أي أنزلناه من السماء على الأرض "ثم شققنا الأرض شقاً" أي أسكناه فيها فدخل في تخومها وتخلل في أجزاء الحب المودع فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض " فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا " فالحب كل ما يذكر من الحبوب والعنب معروف والقضب هو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة, ويقال لها القت أيضاً, وقال ذلك ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي , وقال الحسن البصري : القضب العلف "وزيتوناً" وهو معروف وهو أدم وعصيره أدم ويستصبح به ويدهن به "ونخلاً" يؤكل بلحاً وبسراً ورطباً وتمراً ونيئاً ومطبوخاً ويعتصر منه رب وخل "وحدائق غلباً" أي بساتين, قال الحسن وقتادة : غلباً نخل غلاظ كرام, وقال ابن عباس ومجاهد : كل ما التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضاً: غلبا الشجر الذي يستظل به, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وحدائق غلباً" أي طوال, وقال عكرمة : غلباً أي غلاظ الأوساط. وفي رواية غلاظ الرقاب, ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل: والله إنه لأغلب, رواه ابن أبي حاتم وأنشد ابن جرير للفرذدق :
عوى فأثأر أغلب ضيغمياً فويل ابن المراغة ما استثار
وقوله تعالى: "وفاكهة وأباً" أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار, قال ابن عباس : الفاكهة كل ما أكل رطباً, والأب, ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس, وفي رواية عنه: هو الحشيش للبهائم.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك : الأب الكلأ , وعن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد : الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم, وعن عطاء : كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب. وقال الضحاك : كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب.
وقال ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس : الأب نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق عن ابن إدريس ثم قال: حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس , حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير قال: عد ابن عباس وقال: الأب ما أنبتت الأرض للأنعام وهذا لفظ حديث أبي كريب . وقال أبو السائب في حديثه. ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام, وقال العوفي عن ابن عباس : الأب الكلأ والمرعى, وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد وغير واحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمد بن يزيد , حدثنا العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: "وفاكهة وأباً" فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم, وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق رضي الله عنه. فأما ما رواه ابن جرير حيث قال: حدثنا ابن بشار , حدثنا ابن أبي عدي , حدثنا حميد عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه "عبس وتولى" فلما أتى على هذه الاية "وفاكهة وأبا" قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأب ؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف فهو إسناد صحيح, وقد رواه غير واحد عن أنس به, وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الاية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله: " فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا " وقوله تعالى: "متاعاً لكم ولأنعامكم" أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.
17- "قتل الإنسان ما أكفره" أي لعن الإنسان الكافر ما أشد كفره، وقيل عذب، قيل والمراد به عتبة بن أبي لهب، ومعنى ما أكفره التعجب من إفراط كفره. قال الزجاج: معناه اعجبوا أنتم من كفره، وقيل المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله: "أما من استغنى" وقيل المراد به الجنس، وهذا هو الأولى، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر، ويدخل تحته من كان سبباً لنزول الآية دخولاً أولياً.
قوله عز وجل: 17- "قتل الإنسان"، أي لعن الكافر. قال مقاتل: نزلت في عتبة بن أبي لهب "ما أكفره"، ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده، على طريق التعجب، قال الزجاج: معناه: اعجبوا أنتم من كفره. وقال الكلبي ومقاتل: هو "ما" الاستفهام، يعني: أي شيء حمله على الكفر؟.
17-" قتل الإنسان ما أكفره " دعاء عليه بأشنع الدعوات وتعجب من إفراطه في الكفران ، وهو مع قصره يدل على سخط عظيم وذم بليغ .
17. Man is (self) destroyed: how ungrateful!
17 - Woe to man! What hath made him reject God?