[الأنفال : 61] وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
61 - (وإن جنحوا) مالوا (للسِّلم) بكسر السين وفتحها : الصلح (فاجنح لها) وعاهدهم ، وقال ابن عباس : هذا منسوخ بآية السيف وقال مجاهد مخصوص بأهل الكتاب إذ نزلت في بني قريظة (وتوكل على الله) ثق به (إنه هو السميع) للقول (العليم) بالفعل
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافن من قوم خيانة وغدراً، فانبذ إليهم على سواء، وآذنهم بالحرب، " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح، " فاجنح لها "، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه.
يقال منه: ((جنح الرجل إلى كذا إليه جنوحاً))، وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها، تقول: ((يجنح))، بضم النون، وآخرون يقولون: ((يجنح)) بكسر النون، وذلك إذا مال، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
((جوانح))، موائل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " وإن جنحوا للسلم "، قال: للصلح، ونسخها قوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "، [التوبة: 5].
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وإن جنحوا للسلم "، إلى الصلح، " فاجنح لها "، قال: وكانت هذه قبل ((براءة))، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم، ثم نسخ ذلك بعد في ((براءة)) فقال: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "، وقال: " قاتلوا المشركين كافة "، [التوبة: 36]، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يقولوا ((لا إله إلا الله))، ويسلموا، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك. وكل عهد كان في هذه السورة وفي غيرها، وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به،، فإن ((براءة)) جاءت بنسخ ذلك، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: ((لا إله إلا الله)).
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، نسختها الآية التي في ((براءة)) قوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "، إلى قوله: " وهم صاغرون " [التوبة: 29].
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، أي: إن دعوك إلى السلم - إلى الإسلام - فصالحهم عليه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد.
قال أبو جعفر: فأما ما قاله ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخاً.
وقول الله في براءة: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "، [التوبة: 5]، غير ناف حكمه حكم قوله: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، لأن قوله: " وإن جنحوا للسلم "، إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "، [التوبة: 5] فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " وإن جنحوا للسلم "، قال: قريظة.
وأما قوله: " وتوكل على الله "، يقول: فوض إلى الله، يا محمد، أمرك، واستكفه، واثقاً به أنه يكفيك، كالذي:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " وتوكل على الله "، إن الله كافيك.
وقوله: " إنه هو السميع العليم "، يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه، ((سميع))، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحرب من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه، وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط، " العليم "، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه، ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه.
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" إنما قال لها لأن السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا -يعني الذين نبذ إليهم عهدهم- إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه، ومنه قيل للأضلاع جوانح، لأنها مالت على الحشوة. وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
وقال النابغة:
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض. والسلم والسلام هو الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل للسلم بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدم معنى ذلك في البقرة مستوفى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور فاجنح بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الأشهب العقيلي فاجنح بضم النون، وهي لغة قيس. قال ابن جني: وهذه اللغة هي القياس.
الثانية- وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة: نسخها "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة:5]. "وقاتلوا المشركين كافة" [التوبة:36] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله. ابن عباس: الناسخ لها "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم" [محمد:35]. وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيراً من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من أهل البلاد على مال يؤدونه، من ذلك خيبر، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف. قال ابن إسحاق: قال مجاهد: عنى بهذه الآية قريظة، لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السدي وابن زيد: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل: "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم" [محمد:35]. فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح، كما قال:
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكةً، وبالوجوه التي شرحناها عاملة. قال القشيري: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية، فقال عروة: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة. قال المهلب: إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، "لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت. وقال: حبسها حابس الفيل". على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم، إذا رأى ذلك الإمام وجهاً. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو:
"لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشاً، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقداً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم وذاك. وقال لعيينة والحارث: انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف. وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها".
يقول تعالى: إذا خفت من قوم خيانة, فانبذ إليهم عهدهم على سواء, فإن استمروا على حربك ومنابذتك, فقاتلهم "وإن جنحوا" أي مالوا "للسلم" أي المسالمة والمصالحة والمهادنة, "فاجنح لها" أي فمل إليها واقبل منهم ذلك, ولهذا لما طلب المشركون, عام الحديبية الصلح, ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم, تسع سنين, أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري, حدثنا محمد بن أبي يحيى, عن إياس بن عمرو الأسلمي, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السلم فافعل" وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة, وهذا فيه نظر, لأن السياق كله في وقعة بدر, وذكرها مكتنف لهذا كله, وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة: إن هذه الاية منسوخة بآية السيف في براءة " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الاية, وفيه نظر أيضاً, لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك, فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم, كما دلت عليه هذه الاية الكريمة, وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص, والله أعلم. وقوله "وتوكل على الله" أي صالحهم وتوكل على الله, فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة, ليتقووا ويستعدوا "فإن حسبك الله" أي كافيك وحده, ثم ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار, فقال: " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم " أي جمعها على الإيمان بك, وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك, "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم" أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية, بين الأوس والخزرج, وأمور يلزم منها التسلسل في الشر, حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان, كما قال تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ".
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار, في شأن غنائم حنين, قال لهم: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي, وكنتم متفرقين فألفكم الله بي" كلما قال شيئاً قالوا الله ورسوله أمن, ولهذا قال تعالى: "ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" أي عزيز الجناب, فلا يخيب رجاء من توكل عليه, حكيم في أفعاله وأحكامه, وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا, أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين القنديلي الاستراباذي, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار, حدثنا ميمون بن الحكم, حدثنا بكر بن الشرود, عن محمد بن مسلم الطائفي, عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس, عن ابن عباس, قال: قرابة الرحم تقطع, ومنة النعمة تكفر, ولم ير مثل تقارب القلوب, يقول الله تعالى: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم" وذلك موجود في الشعر:
إذا بت ذو قربى إليك بزلـــــــــة فغشك واستغنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب وأن يرمي العدو الذي ترمي
قال: ومن ذلك قول القائل:
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعــــــاً وإذا المودة أقرب الأسباب
قال البيهقي: لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس أو هو من قول من دونه من الرواة, وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, سمعه يقول: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم" الاية, قال هم المتحابون في الله. وفي رواية نزلت في المتحابين في الله. رواه النسائي والحاكم في مستدركه وقال: صحيح, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه, عن ابن عباس, قال: إن الرحم لتقطع, وإن النعمة لتكفر, وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء, ثم قرأ "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم" رواه الحاكم أيضاً, وقال أبو عمرو الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد, ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه, تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير, فقال: لا تقل ذلك فإن الله يقول "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم" قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن يمان, عن إبراهيم الجزري عن الوليد بن أبي مغيث, عن مجاهد, قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما, قال قلت لمجاهد بمصافحة يغفر لهما ؟ قال مجاهد: أما سمعته يقول: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم" فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني, وكذا روى طلحة بن مصرف عن مجاهد, وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق, قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الإلفة, وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني رحمه الله: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثنا سالم بن غيلان, سمعت جعداً أبا عثمان, حدثني أبو عثمان النهدي, عن سلمان الفارسي, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده, تحاتت عنهما ذنوبهما, كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف, وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار".
الجنوح: الميل، يقال: جنح الرجل إلى الرجل: مال إليه، ومنه قيل للأضالع جوانح لأنها مالت إلى الحنوة، وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير، ومنه قول ذي الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
ومثله قول عنترة:
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
يعني الطير، والسلم: الصلح. قرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ العقيلي "فاجنح" بضم النون، وقرأ الباقون بفتحها. والأولى لغة قيس، والثانية لغة تميم. قال ابن جني: ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤولة بالخصلة، أو الفعلة.
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل: هي منسوخة بقوله: "فاقتلوا المشركين" وقيل: ليست بمنسوخة، لأن المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصة بأهل الكتاب، وقيل: إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى: " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ". وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزة وقوة لا إذا لم يكونوا كذلك، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرر في مواطنه "وتوكل على الله" في جنوحك للسلم ولا تخف من مكرمهم، فـ "إنه" سبحانه "هو السميع" لما يقولون "العليم" بما يفعلون.
61 - قوله تعالى : " وإن جنحوا للسلم " ، أي : مالوا إلى الصلح ، " فاجنح لها " ، أي : مل إليها وصالحهم . روي عن قتادة و الحسن : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( براء - 5 ) " وتوكل على الله " ! ثق بالله ،" إنه هو السميع العليم " .
61."وإن جنحوا " مالوا ومنه الجناح . وقد يعدى باللام وإلى " للسلم " للصلح أو للاستسلام . وقرأ أبو بكر بالكسر . " فاجنح لها " وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحل السلم على نقيضها فيه. قال:
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وقرئ( فاجنح ) بالضم . " وتوكل على الله " ولا تخف من إبطانهم خداعاً فيه، فإن الله يعصمك من مكرهم ويحيقه بهم . " إنه هو السميع " لأقولهم . "العليم " بيناتهم .والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف.
61. And if they incline to peace, incline thou also to it, and trust in Allah. Lo! He is the Hearer, the Knower.
61 - But if the enemy incline towards peace, do thou (also) incline towards peace, and trust in God: for he is the one that heareth and knoweth (all things).