[الأنفال : 49] إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
49 - (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ضعف اعتقاد (غرَّ هؤلاء) أي المسلمين (دينهم) إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهماً أنهم ينصرون بسببه قال تعالى في جوابهم (ومن يتوكل على الله) يثق به يغلب (فإن الله عزيز) غالب على أمره (حكيم) في صنعه
قوله تعالى إذ يقول المنافقون الآية روى الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابي هريرة قال لما أنزل الله على نبيه بمكة سيهزم الجمع ويولون الدبر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول أي جمع وذلك قبل بدر فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر فكانت ليوم بدر فأنزل الله فيهم حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب الآية وانزل ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوسعتهم الرمية وملأت أعينهم وأفواههم حتى إن الرجل ليقتل وهو يقذي عينيه وفاه فأنزل الله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وأنزل في ابليس فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه الآية وقال عتبة ابن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر غر هؤلاء دينهم فأنزل الله إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " وإن الله لسميع عليم "، في هذه الأحوال، " وإذ يقول المنافقون "، وكر بقوله: " إذ يقول المنافقون "، على قوله: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا "، " والذين في قلوبهم مرض "، يعني: شك في الإسلام، لم يصح يقينهم، ولم تشرح بالإيمان صدروهم، " غر هؤلاء دينهم "، يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، دينهم، وذلك الإسلام.
وذكر أن الذين قالوا هذا القول، كانوا نفراً ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم "، قال: كان ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: " غر هؤلاء دينهم ".
حدثني إسحق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر، مثله.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم "، قال: فئة من قريش: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: " غر هؤلاء دينهم "، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فشرد بهم من خلفهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن : " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم "، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا ((منافقين)). قال معمر: وقال بعضهم: قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: " غر هؤلاء دينهم ".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض "، إلى قوله: " فإن الله عزيز حكيم "، قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشردت لأمر الله. وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: ((والله لا يعبد الله بعد اليوم!))، قسوة وعتواً.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض " قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر، وهم يومئذ ثلثمئة وبضعة عشر رجلاً.
... قال حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض "، قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض، فقلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: " غر هؤلاء دينهم "، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: " ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ".
وأما قوله: " ومن يتوكل على الله " ، فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله، ويثق به، ويرضى بقضائه، فإن الله حافظه وناصره، لأنه " عزيز "، لا يغلبه شيء، ولا يقهره أحد، فجاره منيع، ومن يتوكل عليه مكفي.
وهذا أمر من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم، أن يفوضوا أمرهم إليه، ويسلموا لقضائه، كيما يكفيهم أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم، لأنه " عزيز " غير مغلوب، فجاره غير مقهور، " حكيم "، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا يدخل تدبيره خلل.
قيل: المنافقون: الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر. والذين في قلوبهم مرض: الشاكون، وهم دون المنافقين، لأنهم حديثو العهد بالإسلام، وفيهم بعض ضعف نية.قالوا عند الخروج إلى القتال وعند التقاء الصفين: غر هؤلاء دينهم. وقيل: هما واحد، وهو أولى. ألا ترى إلى قوله عز وجل: "الذين يؤمنون بالغيب" [البقرة: 3] ثم قال: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" [البقرة: 4] وهما لواحد.
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله, وكثرة ذكره, ناهياً لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم, بطراً أي دفعاً للحق, "ورئاء الناس" وهو المفاخرة والتكبر عليهم, كما قال أبو جهل: لما قيل له: إن العير قد نجا فارجعوا, فقال: لا والله لا نرجع, حتى نرد ماء بدر, وننحر الجزر, ونشرب الخمر, وتعزف علينا القيان, وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبداً, فانعكس ذلك عليه أجمع, لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام, وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء, صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي, ولهذا قال: "والله بما يعملون محيط" أي عالم بما جاءوا به وله, ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس" قالوا: هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وقال محمد بن كعب: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر, خرجوا بالقيان والدفوف, فأنزل الله " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " وقوله تعالى: "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" الاية, حسن لهم ـ لعنه الله ـ ما جاءوا له وما هموا به, وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس, ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر, فقال: إني جار لكم, وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, سيد بني مدلج كبير تلك الناحية, وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه: "يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الاية: لما كان يوم بدر, سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين, وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم, وإني جار لكم, فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة, "نكص على عقبيه" قال: رجع مدبراً, وقال: "إني أرى ما لا ترون" الاية, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته, في صورة رجل من بني مدلج, في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين, وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس, فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين, انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته, فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله, والله شديد العقاب, وذلك حين رأى الملائكة, وقال محمد بن إسحاق: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس, أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, فلما حضر القتال ورأى الملائكة, نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم, فتشبث به الحارث بن هشام, فنخر في وجهه فخر صعقاً, فقيل له: ويلك يا سراقة على هذه الحال, تخذلنا وتبرأ منا, فقال: إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, إني أخاف الله, والله شديد العقاب .
وقال محمد بن عمر الواقدي: أخبرني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس, عن ابن عباس, قال: لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة, ثم كشف عنه فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس, وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس, وإسرافيل في جند آخر ألف, وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس, فلما أبصر عدو الله الملائكة, نكص على عقبيه, وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون, فتشبث به الحارث بن هشام, وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه, فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث, وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه, وقال يا رب موعدك الذي وعدتني. وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع, قريب من هذا السياق وأبسط منه, ذكرناه في السيرة, وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير, قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب, فكاد ذلك أن يثنيهم, فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي, وكان من أشراف بني كنانة, فقال أنا جارلكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه, فخرجوا سراعاً, قال محمد بن إسحاق: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه, حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان, كان الذي رآه حين نكص, الحارث بن هشام أو عمير بن وهب, فقال أين سراقة ؟ أين وميل عدو الله فذهب, قال فأوردهم ثم أسلمهم, قال ونظر عدوا الله إلى جنود الله قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين, فنكص على عقبيه, وقال إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, وصدق عدو الله, وقال إني أخاف الله والله شديد العقاب, وهكذا روي عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم الله, وقال قتادة: وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة, فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة, فقال إني أرى ما لا ترون, إني أخاف الله وكذب عدو الله. والله ما به مخافة الله, ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة, وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له, حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم, وتبرأ منهم عند ذلك, قلت: يعني بعادته لمن أطاعه, قوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" وقوله تعالى: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم, عن بعض بني ساعدة, قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما كف بصره, يقول: لو كنت معكم الان ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة, لا أشك ولا أتمارى, فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس, وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا, وتثبيتهم, أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل, يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشيء والله معكم فكروا عليهم, فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه, وقال إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, وهو في صورة سراقة, وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه, ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم, فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى, لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال, فلا تقتلوهم وخذوهم أخذاً, وهذا من أبي جهل لعنه الله, كقول فرعون للسحرة لما أسلموا: "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها" وكقوله: "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وهو من باب البهت والافتراء, ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة.
وقال مالك بن أنس: عن إبراهيم بن أبي علية, عن طلحة بن عبيد الله بن كريز, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رأى إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة, وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر" قالوا: يا رسول الله وما رأى يوم بدر ؟ قال: "أما إنه رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة" وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقوله: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في هذه الاية: لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين, وقلل المشركين في أعين المسلمين, فقال المشركون: غر هؤلاء دينهم, وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم, فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك, فقال الله: "ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم" وقال قتادة: رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله, وذكر لنا, أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتواً. وقال ابن جريج في قوله "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" هم قوم كانوا من المنافقين بمكة, قالوه يوم بدر, وقال عامر الشعبي: كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين, قالوا: غر هؤلاء دينهم. وقال مجاهد في قوله عز وجل: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " قال فئة من قريش, قيس بن الوليد بن المغيرة, وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة, والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب, وعلي بن أمية بن خلف, والعاص بن منبه بن الحجاج, خرجوا مع قريش من مكة, وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم, فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم, وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور, عن معمر عن الحسن في هذه الاية قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر, فسموا منافقين, قال معمر: وقال بعضهم: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين, قالوا غر هؤلاء دينهم, وقوله "ومن يتوكل على الله" أي يعتمد على جنابه "فإن الله عزيز" أي لا يضام من التجأ إليه, فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان "حكيم" في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها, فينصر من يستحق النصر, ويخذل من هو أهل لذلك .
قوله: 49- "إذ يقول المنافقون" الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر، ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب، قيل: المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر "والذين في قلوبهم مرض" هم الشاكون من غير نفاق بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة، أعني "غر هؤلاء" أي المسلمين "دينهم" حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش، وقيل: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد، فأجاب الله عليهم بقوله: "من يتوكل على الله فإن الله عزيز" لا يغلبه غالب، ولا يذل من توكل عليه "حكيم" له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "واذكروا الله" قال: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون: عند الضراب بالسيوف. وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا يردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً". وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" يقول: لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وتذهب ريحكم" قال: نصركم وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم" الآية، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في
الآية قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: "كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر، وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم فقالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ:اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك" وذكر لنا أنه قال يومئذ: "جاءت من مكة أفلاذها". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم" وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً وشيعته فقال الرجل: يا سراقة إنك جار لنا فقال: " إني أرى ما لا ترون " وذلك حين رأى الملائكة "إني أخاف الله والله شديد العقاب"، قال ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون: وما هؤلاء غر هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: "ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم".وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال: لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إن أسألك نظرتك إياي. وأخرج الواقدي وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "إني أرى ما لا ترون" قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة وقال: "إني أخاف الله" كذب عدو الله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له به ولا منعة له. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن معمر قال: ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إذ يقول المنافقون" قال: وهم يومئذ في المسلمين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "والذين في قلوبهم مرض" قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي في قوله: "والذين في قلوبهم مرض" قال: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا المسلمين قالوا: " غر هؤلاء دينهم ". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي نحوه.
49 - قوله تعالى : " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض " ، شك ونفاق ، " غر هؤلاء دينهم " ، يعن : غر المؤمنين دينهم ، هؤلاء قوم كانوا مستضعفين بمكة قد أسلموا، وحبسهم أقرباؤهم من الهجرة ، فلما خرجت قريش إلى بدر ، أخرجوهم كرهاً ، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا : غر هؤلاء دينهم ، فقتلوا جميعاً ، منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان ، والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف الجمحي ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، قال الله تعالى : " ومن يتوكل على الله " ، أي : ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به ، " فإن الله عزيز "، قوي يفعل بأعدائه ما يشاء ، " حكيم " .
49. " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض" والذين لم يطمئنوا إلى الإيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة . وقيل هم المشركون . وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين . " غر هؤلاء " يعنون المؤمنين . " دينهم " حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشرة إلى زهاء ألف ." ومن يتوكل على الله " جواب لهم . " فإن الله عزيز " غالب لا يذل من استجار به وإن قل " حكيم" يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه .
49. When the hypocrites and those in whose hearts is a disease said: Their religion hath deluded these. Whoso putteth his trust in Allah (will find that) lo! Allah is Mighty, Wise.
49 - Lo the hypocrites say, and those in whose hearts is a disease: these people, their religion has misled them. but if any trust in God, behold God is exalted in might, wise.