[الأنفال : 4] أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
4 - (أولئك) الموصوفون بما ذكر (هم المؤمنون حقاً) صدقاً بلا شك (لهم درجات) منازل في الجنة (عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) في الجنة
" أولئك هم المؤمنون حقا "، يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ": إلى قوله " أولئك هم الكافرون حقا " [النساء: 150 - 151]، فجعل الله المؤمن مؤمناً حقاً، وجعل الكافر كافراً حقاً، وهو قوله تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " [التغابن: 2].
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " أولئك هم المؤمنون حقا "، قال: استحقوا الإيمان بحق، فأحقه الله لهم.
القول في تأويل قوله: " لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " لهم درجات "، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم، " درجات "، وهي مراتب رفيعة.
ثم اختلف أهل التأويل في هذه ((الدرجات)) التي ذكر الله أنها لهم عنده، ما هي؟.
فقال بعضهم: هي أعمال رفيعة، وفضائل قدموها في أيام حياتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد : " لهم درجات عند ربهم "، قال: أعمال رفيعة.
وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن هشام، عن جبلة، عن عطية، عن ابن محيريز: " لهم درجات عند ربهم "، قال: الدرجات سبعون درجة، كل درجة حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.
وقوله: " ومغفرة "، يقول: وعفو عن ذنوبهم، وتغطية عليها، " ورزق كريم "، قيل: الجنة. وهو عندي:ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنىء العيش.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق ، عن هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة : " ومغفرة "، قال: لذنوبهم، " ورزق كريم "، قال: الجنة.
"أولئك هم المؤمنون حقا" أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم. ودل هذا على أن لكل حق حقيقة، وقد "قال عليه السلام لحارثة:
إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟" الحديث. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد، أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" -إلى قوله- "أولئك هم المؤمنون حقا" فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. وقال أبو بكر الواسطي: من قال أنا مؤمن بالله حقاً، قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة، فمن فقده بطل دعواه فيها. يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إن المؤمن الحقيقي من كان محكوماً له بالجنة، فمن لم يعلم ذلك من سر حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقاً غير صحيح.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم". قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه. ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم, فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين, ثم وصف الله المؤمنين فقال "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" فأدوا فرائضه "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً" يقول زادتهم تصديقاً "وعلى ربهم يتوكلون" يقول لا يرجون غيره. وقال مجاهد "وجلت قلوبهم" فرقت أي فزعت وخافت, وكذا قال السدي وغير واحد, وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه, ففعل أوامره وترك زواجره, كقوله تعالى: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ", وكقوله تعالى: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى" ولهذا قال سفيان الثوري: سمعت السدي يقول في قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم". قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيجل قلبه, وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في قوله "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" قال: الوجل في القلب كاحتراق السعفة, أما تجد له قشعريرة ؟ قال: بلى. قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك, فإن الدعاء يذهب ذلك, وقوله "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً", كقوله "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون". وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الاية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضلة في القلوب, كما هو مذهب جمهور الأمة, بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد, كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, "وعلى ربهم يتوكلون " أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه, ولا يطلبون الحوائج إلا منه, ولا يرغبون إلا إليه, ويعلمون أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه المتصرف في الملك, وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب, ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. وقوله "الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها, وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى, وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها, وقال مقاتل بن حيان: إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هذا إقامتها, والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب. والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله "ومما رزقناهم ينفقون", فأنفقوا مما رزقكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
وقوله "أولئك هم المؤمنون حقاً", أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم, عن الحارث بن مالك الأنصاري, أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "كيف أصبحت يا حارث ؟" قال: أصبحت مؤمناً حقاً, قال: "انظر ما تقول, فإن لكل شيء حقيقة, فما حقيقة إيمانك ؟" فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري, وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً, وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها, وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: "يا حارث عرفت فالزم" ثلاثاً. وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى: "أولئك هم المؤمنون حقاً" إنما أنزل القرآن بلسان العرب كقولك فلان سيد حقاً, وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقاً, وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقاً, وفي القوم شعراء. وقوله "لهم درجات عند ربهم" أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات كما قال تعالى: "هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون" "ومغفرة" أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات. وقال الضحاك في قوله "لهم درجات عند ربهم" أهل الجنة بعضهم فوق بعض, فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه, ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد, ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء". قالوا: يا رسول الله, تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال: "بلى والذي نفسي بيده, لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". وفي الحديث الاخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي عطية عن ابن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما".
والإشارة بقوله: 4- "أولئك" إلى المتصفين بالأوصاف المتقدمة وهو مبتدأ وخبره "هم المؤمنون" أي أن هؤلاء هم الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته و "حقاً" مصدر مؤكد لمضمون جملة هم المؤمنون: أي حق ذلك حقاً أو صفة مصدر محذوف: أي هم المؤمنون إيماناً حقاً، ثم ذكر ما أعد لمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال: "لهم درجات" أي منازل خير وكرامة وشرف في الجنة كائنة عند ربهم وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم، وجملة "لهم درجات عند ربهم" خبر ثان لـ "أولئك" أو مستأنفة جواباً لسؤال مقدر، "ومغفرة" معطوف على درجات أي مغفرة لذنوبهم "ورزق كريم" يكرمهم الله به من واسع فضله وفائض جوده.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وجلت قلوبهم" قال: فرقت قلوبهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" فأدوا فرائضه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير وأبو الشيخ من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر بن حوشب، أما تجد قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك. وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي؟ قالوا: ومن أين لك؟ قال: إذا اقشعر جلدي ووجل قلبي وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. وأخرج أيضاً عن عائشة قالت: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيجل قلبه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "زادتهم إيماناً" قال: تصديقاً. وأخرج هؤلاء عن الربيع بن أنس في قوله: "زادتهم إيماناً" قال: خشية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" يقول: لا يرجون غيره. وأخرجا عنه في قوله: "أولئك هم المؤمنون حقاً" قال: برئوا من الكفر. وأخرج أبو الشيخ عنه "حقاً" قال: خالصاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "لهم درجات" يعني فضائل ورحمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "لهم درجات" قال: أعمال رفيعة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "لهم درجات" قال: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه. ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "ومغفرة" قال: بترك الذنوب "ورزق كريم" قال: الأعمال الصالحة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا سمعتم الله يقول: "ورزق كريم" فهي الجنة.
4 - " أولئك هم المؤمنون حقاً " ، يعني يقيناً . قال ابن عباس : برئوا من الكفر . قال مقاتل : حقاً لا شك في إيمانهم . وفيه دليل على أنه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقاً لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه .
وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا بها مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله :ً "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا ؟.
وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا: من القوم ؟ قالوا : نحن المؤمنون حقاً ، فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا،قال : فما رددتم عليهم ؟ قلنا : لم نرد عليهم شيئاً ، قال أفلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم ؟ إن المؤمنون أهل الجنة .
وقال سفيان الثوري : من زعم أنه مؤمن حقاً أو عند الله ، ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف .
" لهم درجات عند ربهم " ، قال عطاء : يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . وقال الربيع بين أنس : سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنةً . " ومغفرة " ، لذنوبهم " ورزق كريم " ، حسن يعني ما أعد لهم في الجنة .
4. " أولئك هم المؤمنون حقاً " لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص
والتوكل ، ومحاسن أفعل الجوارح التي هي العيار عليها من الصلاة والصدقة .، " حقاً" صفة مصدر محذوف أو
مصدر مؤكد كقوله : " وعد الله حقاً" . " لهم درجات عند ربهم " كرامة وعلو منزلة . وقيل درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . " ومغفرة " لما فرط منهم . " ورزق كريم " اعد لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده .
4. Those are they who are in truth believers. For them are grades (of honor) with their Lord, and pardon, and a bountiful provision.
4 - Such in truth are the believers: they have grades of dignity with their Lord, and forgiveness, and generous sustenance: