[الأنفال : 24] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
24 - (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) بالطاعة (إذا دعاكم لما يحييكم) من أمر الدين لأنه سبب الحياة الأبدية (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإرادته (وأنه إليه تحشرون) فيجازيكم بأعمالكم
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " إذا دعاكم لما يحييكم ".
فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "، قال: أما ((ما يحييكم))، فهو الإسلام، أحساهم بعد موتهم، بعد كفرهم.
وقال آخرون: للحق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " لما يحييكم "، قال: الحق.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: " إذا دعاكم لما يحييكم "، قال:الحق.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "، قال:للحق.
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "، قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال آخرون:معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "، أي: للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
قال أبو جعفر:وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاهم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا، فبقاء الذكر الجميل، وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها.
وأما قول من قال: معناه: الإسلام، فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "، فلا وجه لأن يقال للمؤمن: استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان.
وبعد، ففيما:
حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي فدعاه: أي أبي! فالتفت إليه أبي ولم يجبه. ثم إن أبياً خفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال:يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إلي: " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "؟ قال:بلى، يا رسول الله! لا أعود ".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: " مر رسو الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو قائم يصلي، فصرخ به فلم يجبه، ثم جاء، فقال: يا أبي، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "؟ قال أبي: لا جرم يا رسول الله، لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت أصلي! "
ما يبين عن أن المعني بالآية، هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم، لأن أبياً لا شك أنه كان مسلماً في الوقت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين.
القول في تأويل قوله: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير: " يحول بين المرء وقلبه "، قال:بين الكافر أن يؤمن، وبين المؤمن أن يكفر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد، قالا، حدثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري ، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثني أبوالسائب وابن وكيع قالا، حدثنا أبو معاوية، عن المنهال، عن سعيد بن جبير: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " يحول بين المرء وقلبه "، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله.
... قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيي بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك في قوله: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك بن مزاحم، بنحوه.
... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: يحول بين المرء وبين أن يكفر، وبين الكافر وبين أن يؤمن.
حدثنا الحسن بن حيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك بن مزاحم: " يحول بين المرء وقلبه "، قال:يحول بين الكافر وبين طاعة الله، وبين المؤمن ومعصية الله.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا ابن أبي رواد، عن الضحاك ، نحوه.
وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاجم يقول، فذكر نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين المؤمن ومعصيته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه "، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر، ويحول بين الكافر وبين الإيمان.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه "، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث ، عن مجاهد : " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان.
... قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي رواد، عن الضحاك : " يحول بين المرء وقلبه "، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته.
... قال، حدثنا إسحق بن إسمعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، " يحول بين المرء وقلبه "، يحول بين المؤمن والمعاصي، وبين الكافر والإيمان.
... قال، حدثنا عبيدة، عن إسمعيل، عن أبي صالح: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بينه وبين المعاصي.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يعمل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين المرء وعقله.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " يحول بين المرء وقلبه "، حتى يتركه لا يعقل.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: هو كقوله: ((حال))، حتى تركه لا يعقل.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن حميد، عن مجاهد : " يحول بين المرء وقلبه "، قال: إذا حال بينك وبين قلبك، كيف تعمل؟
... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد : " يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين قلب الكافر وأن يعمل خيراً.
وقال آخرون: معناه: يحول بين المرء وقلبه، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه "، قال: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: " يحول بين المرء وقلبه "، قال: هي كقوله:" أقرب إليه من حبل الوريد "، [ق: 16].
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك خبر من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئاً من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئاً، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن ((الحول بين الشيء والشيء))، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل.
وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك قول من قال: ((يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان))، وقول من قال: ((يحول بينه وبين عقله))، وقول من قال: ((يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه))، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما منع إدراكه به، على ما بينت.
غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه "، الخبر عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئاً دون شيء، والكلام محتمل كل هذه المعاني، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له.
وأما قوله: " وأنه إليه تحشرون "، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون، أيضاً، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه: أن الله الذي يقدر على قلوبكم، وهو أملك بها منكم، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة، فيوفيكم جزاء أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم، فيوجب ذلك سخطه، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول" هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف. والاستجابة: الإجابة: و"يحييكم" أصله يحييكم، حذفت الضمة من الياء لثقلها. ولا يجوز الإدغام. قال أبو عبيدة: معنى استجيبوا أجيبوا، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام، ويتعدى أجاب دون لام. قال الله تعالى: "يا قومنا أجيبوا داعي الله" [الأحقاف: 31]. وقد يتعدى استجاب بغير لام، والشاهد له قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
تقول: أجابه وأجاب عن سؤاله. والمصدر الإجابة. والاسم الجابة، بمنزلة الطاقة والطاعة. تقول: أساء سمعاً فأساء جابة. هكذا يتكلم بهذا الحرف. والمجاوبة والتجاوب: التحاور. وتقول: إنه لحسن الجيبة (بالكسر) أي الجواب. "لما يحييكم" متعلق بقوله: "استجيبوا". المعنى: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم. وقي: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدوه، وهذا إحياء مستعار، لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي، ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله لما يحييكم الجهاد، فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم يغز غزا، وفي غزوه الموت، والموت في الجهاد الحياة الأبدية، قال الله عز وجل: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء" [آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور.
الثانية: روى البخاري "عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. فقال:
ألم يقل الله عز وجل "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"" وذكر الحديث. وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشافعي رحمه الله: هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتى به في الصلاة لا تبطل، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة.
قلت: وفيه حجة لقول الأوزاعي: لو أن رجلاً يصلي فأبصر غلاماً يريد أن يسقط في بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قيل: إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكفار وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذا لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر. وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر. فبان بهذا النص أنه تعالى خالق لجميع اكتساب العباد خيرها وشرها. وهذا معنى قوله عليه السلام:
"لا، ومقلب القلوب". وكان فعل الله تعالى ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعهم حقاً وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعكم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. قال السدي: يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه، ولا يكفر أيضاً إلا بإذنه، أي بمشيئته. والقلب موضع الفكر. وقد تقدم في البقرة بيانه. وهو بيد الله، متى شاء حال بين العبد وبينه بمرض أو آفة كيلا يعقل. أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. وقال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" [ق: 37] أي عقل. وقيل: يحول بينه وبينه بالموت، فلا يمكنه استدراك ما فات. وقيل: خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ويبدل عدوهم من الأمن خوفاً. وقيل: المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال، وهذا جامع، واختيار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز وجل. "وأنه إليه تحشرون" عطف. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت، وأنه كان صواباً.
قال البخاري "استجيبوا" أجيبوا "لما يحييكم" لما يصلحكم. حدثني إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال "ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" ـ ثم قال ـ لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج" فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له. وقال معاذ: حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقال "الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني. هذا لفظه بحروفه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة. وقال مجاهد في قوله "لما يحييكم" قال للحق, وقال قتادة "لما يحييكم" قال هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال السدي "لما يحييكم" ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل, وقواكم بها بعد الضعف, ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم. وقوله تعالى: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه", قال ابن عباس يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان, رواه الحاكم في مستدركه موقوفاً, وقال صحيح ولم يخرجاه, ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً, ولا يصح لضعف إسناده والموقوف أصح, وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي, وفي رواية عن مجاهد في قوله "يحول بين المرء وقلبه" أي حتى يتركه لا يعقل, وقال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. وقال قتادة هو كقوله "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الاية, وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". قال: فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به, فهل تخاف علينا ؟ قال: "نعم, إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها". وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش, واسمه سليمان بن مهران عن أبي سفيان واسمه طلحة بن نافع عن أنس, ثم قال: حسن. وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش, ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال, رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعاً. وهو مع ذلك على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت ابن جابر يقول: حدثني بسر بن عبد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه" وكان يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قال "والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه" وهكذا رواه النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن عائشة قالت: دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: فقلت يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فقال "إن قلب الادمي بين أصبعين من أصابع الله فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أم سلمة تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت فقلت يا رسول الله أوإن القلوب لتقلب ؟ قال "نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا, ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب" قالت فقلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال "بلى قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة أخبرني أبو هانىء أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف شاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك" انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري فرواه مع النسائي من حديث حيوة بن شريح المصري به.
الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة، ووحد الضمير هنا حيث قال: "إذا دعاكم" كما وحده في قوله: " ولا تتولوا " وقد قدمنا الكلام في وجه ذلك، والاستجابة: الطاعة. قال أبو عبيدة: معنى استجيبوا: أجيبوا، وإن كان استجاب يتعدى باللام، وأجاب بنفسه كما في قوله: "يا قومنا أجيبوا داعي الله"، وقد يتعدى استجاب بنفسه كما قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
"إذا دعاكم لما يحييكم" اللام متعلقة بقوله: "استجيبوا" أي استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون متعلقة بدعا: أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، فإن العلم حياة كما أن الجهل موت، فالحياة هنا مستعارة للعلم. قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: "لما يحييكم" الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم يغز غزا، ويستدل بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان. قوله: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قيل معناه: بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم، وقيل معناه: إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ويبدل عدوهم من الأمن خوفاً، وقيل: هو من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" ومعناه: أنه مطلع على ضمائر القلوب لا تخفى عليه منها خافية. واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عز وجل، ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني "وأنه إليه تحشرون" معطوف على " أن الله يحول بين المرء وقلبه " وأنكم محشورون إليه وهو مجازيكم بالخير خيراً، وبالشر شراً. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة "إنه" لكان صواباً، ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.
24 - قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول " ، يقول أجيبوها بالطاعة ، ‌" إذا دعاكم " ، الرسول صلى الله عليه وسلم ، " لما يحييكم " ، أي : إلى ما يحييكم . قال السدي : هو الإيمان ، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان .
وقال قتادة : هو القرآن فيه الحياة وبه النجاة والعصمة في الدارين .
وقال مجاهد : هو الحق .
وقال ابن إسحاق : هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل .
وقال القتيبي : بل الشهادة قال الله تعالى في الشهداء " بل أحياء عند ربهم يرزقون " ( آل عمران - 169 )
وروينا "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فدعاه فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء فقال رسول الله : ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ قال : كنت في الصلاة ، قال : أليس يقول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " ؟ { فقال :لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصلياً } ."
قوله تعالى : " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " ، قال سعيد بن جبير و عطاء : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان .
وقال الضحاك : يحول بين الكافر والطاعة ، ويحول بين المؤمن والمعصية .
وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل .
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه .
وقيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل لهم : قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمناً والجبن جرأةً . " وأنه إليه تحشرون " ، فيجزيكم بأعمالكم .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله يكثر أن يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : القلوب بي أصبعين من أصابع الله يقلبها " .
24." يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول " بالطاعة. " إذا دعاكم " وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول . وروي "أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال: كنت أصلي ، قال: ( ألم تخبر فيما أوحي إلي ) " استجيبوا لله وللرسول"" . واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضاً لمله وظاهر الحدي يناسب الأول . " لما يحييكم " من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته. قال :
لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ،أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوا لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : "بل أحياء عند ربهم يرزقون " ." واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره نأو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أرد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته . وقرئ ( بين المر) بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه ." وأنه إليه تحشرون " فيجازيكم بأعمالكم .
24. O ye who believe; Obey Allah, and the messenger when He calleth you to that which quickeneth you, and know that Allah cometh in between the man and his own heart, and that He it is unto Whom ye will be gathered.
24 - O ye who believe give your response to God and his apostle, when he calleth you to that which will give you life; and know that God cometh in between a man and his heart, and that it is he to whom ye shall (all) be gathered.