[المدثر : 56] وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
56 - (وما يذكرون) بالياء والتاء (إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى) بأن يتقى (وأهل المغفرة) بأن يغفر لمن اتقاه
قوله تعالى : " وما يذكرون إلا أن يشاء الله " يقول تعالى ذكره : وما يذكرون هذا القرآن فيتعظون به ، ويستعملون ما فيه ، إلا أن يشاء الله أن يذكروه ، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بأن يشاء الله ، يقدر عليه ، ويعطيه القدرة عليه .
وقوله : " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " يقول تعالى ذكره : الله أهل أن يتقي عباده عقابه على معصيتهم إياه ، فيجتنبوا معاصيه ، ويسارعوا إلى طاعته " وأهل المغفرة " يقول : هو أهل أن يغفر ذنوبهم إذا هم فعلوا ذلك ، ولا يعاقبهم عليها مع توبتهم منها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " ربنا محقوق أن تتقى محارمه ، وهو أهل المغفرة يغفر الذنوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " قال : أهل أن تتقى محارمه ، وأهل المغفرة : أهل أن يغفر الذنوب .
قوله تعالى:" وما يذكرون" أي وما يتعظون " إلا أن يشاء الله" أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر الا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة ((يذكرون)) بالياء واختاره ابو عبيد، لقوله تعالى: " كلا بل لا يخافون الآخرة" قرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره ابو حاتم ، لأنه اعم واتفقوا على تخفيفها. " هو أهل التقوى وأهل المغفرة" في الترمذي وسنن ابن ماجه عن انس بن مالك:" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال في هذه الآية : " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " قال : (( قال الله تبارك وتعالى انا اهل ان اتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي الهاً فأنا اهل ان اغفر له))" لفظ الترمذي وقال فيه: حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو اهل المغفرة لمن تاب اليه من الذنوب الكبار، واهل المغفرة ايضا للذنوب الصغار ، باجتناب الذنوب الكبار. وقال محمد بن نصر: انا اهل ان يتقينى عبدي، فإن لم يفعل كنت اهلاً ان اغفر له وارحمه ، وانا الغفور الرحيم.
يقول تعالى مخبراً أن "كل نفس بما كسبت رهينة" أي معتقلة بعملها يوم القيامة قاله ابن عباس وغيره "إلا أصحاب اليمين" فإنهم " في جنات يتساءلون * عن المجرمين " أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم: " ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين " أي ما عبدنا الله ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا "وكنا نخوض مع الخائضين" أي نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه " وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين " يعني الموت كقوله تعالى: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هو ـ يعني عثمان بن مظعون ـ فقد جاءه اليقين من ربه" قال الله تعالى: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين" أي من كان متصفاً بمثل هذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلاً, فأما من وافى الله كافراً يوم القيامة فإنه له النار لا محالة خالداً فيها, ثم قال تعالى: "فما لهم عن التذكرة معرضين" أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين " كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة " أي كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد, قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية عنه وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن , أو رام, وهو رواية عن ابن عباس وهو قول الجمهور. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس : الأسد بالعربية, ويقال له بالحبشية قسورة, وبالفارسية شير, وبالنبطية أوبا.
وقوله تعالى: " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم, قاله مجاهد وغيره, كقوله تعالى: " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " وفي رواية عن قتادة : يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل, فقوله تعالى: " كلا بل لا يخافون الآخرة " أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها.
ثم قال تعالى: "كلا إنه تذكرة" أي حقاً إن القرآن تذكرة " فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله " كقوله: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ". وقوله تعالى: "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" أي هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة . وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب , أخبرني سهيل أخو حزم , حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" وقال :قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب , و النسائي من حديث المعافى بن عمران , كلاهما عن سهيل بن عبد الله القطعي به, وقال الترمذي : حسن غريب وسهيل ليس بالقوي, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن هدبة بن خالد عن سهيل به, وهكذا رواه أبو يعلى والبزار والبغوي وغيرهم من حديث سهيل القطعي به. آخر تفسير سورة المدثر, ولله الحمد والمنة.
ثم رد سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال: 56- "وما يذكرون إلا أن يشاء الله" قرأ الجمهور "يذكرون" بالياء التحتية. وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية، واتفقوا على التخفيف، وقوله: "إلا أن يشاء الله" استثناء مفرغ من أعم الأحوال. قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى "هو أهل التقوى" أي هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته "وأهل المغفرة" أي هو الحقيق بأن بغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "كل نفس بما كسبت رهينة" قال: مأخوذة بعملها. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "إلا أصحاب اليمين" قال: هم المسلمون. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب "إلا أصحاب اليمين" قال: هم أطفال المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "حتى أتانا اليقين" قال: الموت. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وضححه عن أبي موسى الأشعري في قوله: "فرت من قسورة" قال: هم الرماة رجال القسي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: القسورة الرجال الرماة القنص. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: القسورة الأسد، فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال. وأخرج سفيان بن عيننة وعبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس "من قسورة" قال: هو ركز الناس: يعني أصواتهم. وأخرج أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وصححه وابن مردويه عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" فقال: قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعاً نحوه.
56- "وما يذكرون"، قرأ نافع ويعقوب تذكرون بالتاء والآخرن بالياء، "إلا أن يشاء الله"، قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى. "هو أهل التقوى وأهل المغفرة"، أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "هو أهل التقوى وأهل المغفرة"، قال: قال ربكم عز وجل: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له"، وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي، أخو حزم القطعي.
56-" وما يذكرون إلا أن يشاء الله " ذكرهم أو مشيئتهم كقوله : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى ، وقرأ نافع تذكرون بالتاء وقرئ بهما مشدداً . " هو أهل التقوى " حقيق بأن يتقى عقابه . " وأهل المغفرة " حقيق بأن يغفر لعباده المتقين منهم .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق محمد عليه الصلاة والسلام وكذب به بمكة شرفها الله تعالى " .
56. And they will not heed unless Allah willeth (it). He is the fount of fear. He is the fount of Mercy.
56 - But none will keep it in remembrance except as God wills: He is the Lord of Righteousness, and the Lord of Forgiveness.