[المدثر : 37] لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
37 - (لمن شاء منكم) بدل من البشر (أن يتقدم) إلى الخير أو الجنة بالإيمان (أو يتأخر) إلى الشر أو النار بالكفر
وقوله : " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " يقول تعالى ذكره : نذيراً للبشر لمن شاء منكم أيها الناس أن يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر في معصية الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " قال : من شاء اتبع طاعة الله ، ومن شاء تأخر عنها .
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " : يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر في معصيته .
قوله تعالى:" لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" اللام متعلقة بـ((نذير)) أي نذيراً لمن شاء منكم ان يتقدم الى الخير والطاعة، او يتأخر الى الشر والمعصية، نظيره: " ولقد علمنا المستقدمين منكم " [ الحجر:24] أي في الخير" ولقد علمنا المستأخرين" [ الحجر:24] عنه. قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وان خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى:" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" [ الكهف:29] وقال بعض اهل التأويل: معناه لمن شاء الله ان يتقدم او يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم الإيمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد واعلام ان من تقدم الى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمداً صلى الله عليه وسلم عوقب عقاباً لا ينقطع. وقال السدي: " لمن شاء منكم أن يتقدم" الى النار المتقدم ذكرها، " أو يتأخر" عنها الى الجنة.
يقول تعالى: "وما جعلنا أصحاب النار" أي خزانها "إلا ملائكة" زبانية غلاظاً شداداً, وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم, فقال الله تعالى: "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة" أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون, وقد قيل إن أبا الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجاباً منه بنفسه, وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه, قال السهيلي وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته, وقال إن صرعتني آمنت بك, فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فلم يؤمن, قال وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب . (قلت): ولا منافاة بين ما ذكراه والله أعلم.
وقوله تعالى: "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا" أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منا للناس "ليستيقن الذين أوتوا الكتاب" أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله "ويزداد الذين آمنوا إيماناً" أي إلى إيمانهم أي بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم "ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض" أي من المنافقين "والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً" أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا ههنا ؟ قال الله تعالى: "كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء" أي من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
وقوله تعالى: "وما يعلم جنود ربك إلا هو" أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط, كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين ومن شايعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الاية فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها, فأفهموا صدر هذه الاية وقد كفروا بآخرها وهو قوله: "وما يعلم جنود ربك إلا هو" وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة: "فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم". وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود , حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد, لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" فقال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد, ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إسرائيل , وقال الترمذي حديث حسن غريب, ويروى عن أبي ذر موقوفاً, وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا خير بن عرفة المصري , حدثنا عروة بن مروان الرقي , حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم بن مالك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع, فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئاً". وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا عمرو بن زرارة , أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: "هل تسمعون ما أسمع ؟ قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط. ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد".
وقال أيضاً: حدثنا محمد بن عبد الله بن قهذاذ , حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي , حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي سمعت الضحاك بن مزاحم يحدث عن مسروق بن الأجدع عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة: "وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون"" وهذا مرفوع غريب جداً ثم رواه عن محمود بن آدم عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: إن من السموات سماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم ثم قرأ "وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون".
ثم قال: حدثنا أحمد بن سيار , حدثنا أبو جعفر بن محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه , حدثنا المغيرة بن عمر بن عطية من بني عمرو بن عوف , حدثني سليمان بن أيوب عن سالم بن عوف , حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلى, حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع من بني سالم, حدثني عبد الرحمن بن العلاء من بني ساعدة عن أبيه العلاء بن سعد وقد شهد الفتح وما بعده, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوماً لجلسائه: "هل تسمعون ما أسمع ؟ قالوا: وما تسمع يا رسول الله ؟ قال أطت السماء وحق لها أن تئط إنه ليس فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد وقالت الملائكة "وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون" " وهذا إسناد غريب جداً.
ثم قال: حدثنا إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفروي , حدثنا عبد الملك بن قدامة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن عبد الله بن عمر " أن عمر جاء والصلاة قائمة ونفر ثلاثة جلوس أحدهم أبو جحش الليثي, فقال: قوموا فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم وقال لا أقوم حتى يأتي رجل أقوى مني ذراعين وأشد مني بطشاً, فيصرعني ثم يدس وجهي في التراب, قال عمر فصرعته ودسست وجهه في التراب, فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه فخرج عمر مغضباً حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيك يا أبا حفص ؟ فذكر له ما كان منه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رضي عمر رحمه, والله على ذلك لوددت أنك جئتني برأس الخبيث فقام عمر فوجه نحوه فلما أبعد ناداه فقال: اجلس حتى أخبرك بغناء الرب تبارك وتعالى عن صلاة أبي جحش وإن لله تعالى في السماء الدنيا ملائكة خشوعاً لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة, فإذا قامت رفعوا رؤوسهم ثم قالوا ربنا ما عبدناك حق عبادتك وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجوداً لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رؤوسهم وقالوا سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك".
فقال له عمر : " وما يقولون يا رسول الله ؟ فقال: أما أهل السماء الدنيا فيقولون سبحان ذي الملك والملكوت, وأما أهل السماء الثانية فيقولون سبحان ذي العزة والجبروت, وأما أهل السماء الثالثة فيقولون سبحان الحي الذي لا يموت, فقلها يا عمر في صلاتك, فقال عمر : يا رسول الله فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي ؟ فقال: قل هذا مرة وهذا مرة" وكان الذي أمره به أن يقوله: "أعوذ بعفوك من عقابك, وأعوذ برضاك من سخطك, وأعوذ بك منك جل وجهك" هذا حديث غريب جداً بل منكر نكارة شديدة, و إسحاق الفروي روى عنه البخاري , وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدار قطني , وقال أبو حاتم الرازي : كان صدوقاً إلا أنه ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة, وقال مرة هو مضطرب و شيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي تكلم فيه أيضاً, والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه, ولا عرف بحاله, ولا تعرض لضعف بعض رجاله, غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلاً بنحوه ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلاً قريباً منه, ثم قال محمد بن نصر : حدثنا محمد بن عبد الله بن قهذاذ , أخبرنا النضر , أخبرنا عباد بن منصور قال: سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال سمعت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي, وإن منهم ملائكة سجوداً منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة, وإن منهم ملائكة ركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السموات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة, فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" وهذا إسناد لا بأس به.
وقوله تعالى: "وما هي إلا ذكرى للبشر" قال مجاهد وغير واحد: "وما هي" أي النار التي وصفت "إلا ذكرى للبشر" ثم قال تعالى: "كلا والقمر * والليل إذ أدبر" أي ولى "والصبح إذا أسفر" أي أشرق "إنها لإحدى الكبر" أي العظائم يعني النار, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد من السلف "نذيراً للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" أي لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق أو يتأخر عنها ويولي ويردها.
37- "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" هو بدل من قول للبشر: أي نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى: أن الإنذار قد [حصل] لكل من آمن وكفر، وقيل فاعل المشيئة هو الله سبحانه: أي لمن شاء الله أن يتقدم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر والأول أولى. وقال السدي: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر إلى الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما سمع أبو جهل "عليها تسعة عشر". قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا" قال: قال أبو الأشد: خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال: و" حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف خزان جهنم فقال: كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لهم مثل قوة الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم، على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم". أخرج الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية "وما يعلم جنود ربك إلا هو"". وأخرج أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطت السماء وحق ما أن تئط. ما فيها موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد". وأخرجه
الترمذي وابن ماجه. قال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن أبي ذر موقوفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "إذ أدبر" قال: دبور ظلامه. وأخرج مسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهدقال: سألت ابن عباس عن قوله: " والليل إذ أدبر " فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" قال: من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها.
37- "لمن شاء"، بدل من قوله "للبشر" "منكم أن يتقدم"، في الخير والطاعة، "أو يتأخر"، عنها في الشر والمعصية، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر.
37-" لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " بدل من " للبشر " أي نذيراً للمتمكنين من السبق إلى الخير والتخلف عنه ، أو " لمن شاء " خبر لـ" أن يتقدم " فيكون في معنى قوله : " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " .
37. Unto him of you who will advance or hang back.
37 - To any of you that chooses to press forward, or to follow behind;