[الأعراف : 72] فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
72 - (فأنجيناه) أي هوداً (والذين معه) من المؤمنين (برحمة منا وقطعنا دابر) القوم (الذين كذبوا بآياتنا) أي استأصلناهم (وما كانوا مؤمنين) عطف على كذبوا
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فأنجينا نوحاً والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبها دعا إليه ، من توحيد الله ، وهجر الآلهة والأوثان ، " برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " ، يقول : وأهلكنا الذين كذبوا من قوم هود بحججنا جميعاً عن آخرهم ، فلم نبق منهم أحداً ، كما:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " ، قال : استأصلناهم .
وقد بينا فيما مضى معنى قوله : " فقطع دابر القوم الذين ظلموا " ، بشواهده ، بما أغنى عن إعادته .
" وما كانوا مؤمنين " ، يقول : لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود.
"دابر" آخر. وقد تقدم. أي لم يبق لهم بقية.
يخبر تعالى عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود عليه السلام "قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده" الاية كقول الكفار من قريش "إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا يعبدون أصناماً فصنم يقال له صمد وآخر يقال صمود وآخر يقال له الهباء ولهذا قال هود عليه السلام "قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب" أي قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس قيل هو مقلوب من رجز وعن ابن عباس معناه سخط وغضب "أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم" أي أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة وهي لا تضر ولا تنفع ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلاً ولهذا قال "ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إني معكم من المنتظرين" وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ولهذا عقبه بقوله "فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين".
وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الاية الأخرى "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية" لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلغ رأسه حتى تبينه من بين جثته ولهذا قال "كأنهم أعجاز نخل خاوية" وقال محمد بن إسحاق كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله فبعث الله إليهم هوداً عليه السلام وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس وهم يسير يكتمون إيمانهم فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثاً بغير نفع كلمهم هود فقال "أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون" "قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء" أي بجنون "قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم".
قال محمد بن إسحاق: فلما أبوا إلا الكفر به أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين فيما يزعمون حتى جهدهم ذلك قال: وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته وكان معروفاً عند أهل ذلك الزمان وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلاً يقال هل معاوية بن بكر وكانت له أم من قوم عاد واسمها كلهدة ابنة الخيبري قال فبعثت عاد وفداً قريباً من سبعين رجلاً إلى الحرم ليستسقوا لهم عند الحرم فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان: قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعراً يعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنياهم به فقال:
ألا يا قيل ويحك قم فهينـــــــــــم لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عــــــــــاداً قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد وليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخيــــــــــــر فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش تأتيهم جهــــــــاراً ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتـــــــــم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قــــــــوم ولا لقوا التحية والسلاما
قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاؤوا له فنهضوا على الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وسوداء وحمراء ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب فقال: اخترت هذه السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمدداً, لا تبقي من عاد أحداً لا والداً تترك ولا ولداً, إلا جعلته همداً, إلا بني اللوذية المهندا, قال وبنو اللوذية بطن من عاد يقيمون بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الاخرة قال: وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول "بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء" أي تهلك كل شيء مرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها مميد فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مميد ؟ قالت ريحاً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً كما قال الله تعالى. والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك, واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس وإنها لتمر على عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وذكر تمام القصة بطولها وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة وقد قال الله تعالى: "ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ".
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله, وقال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا بعجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة هل أنت مبلغي إليه قال فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد سيفاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما شأن الناس ؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهاً قال فجلست فدخل منزله أو قال رحله فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت وسلمت فقال: هل بينكم وبين تميم شيء قلت: نعم وكانت لنا الدائرة عليهم.
ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب فأذن لها فدخلت فقلت يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: معزى حملت حتفها, حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد قال لي "وما وافد عاد ؟" وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه قلت إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال اللهم إنك تعلم أني لم أجىء إلى مريض فأداويه, ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه, فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رماداً رمدداً, لا تبقي من عاد أحداً قال: فما بلغني أنه بعث الله عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا. قال أبو وائل وصدق قال: وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا لا تكن كوافد عاد هكذا رواه الإمام أحمد في المسند, ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن زيد بن الحباب به نحوه, ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر عن عاصم وهو ابن بهدلة ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضاً عن أبي وائل عن الحارث بن حسان البكري به ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب به ووقع عنده عن الحارث بن يزيد البكري فذكره ورواه أيضاً عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن الحارث بن حسان البكري فذكره ولم أر في النسخة أبا وائل والله أعلم.
ثم أخبر الله سبحانه أنه نجى هوداً ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته، وأنه قطع دابر القوم المكذبين: أي استأصلهم جميعاً. وقد تقدم تحقيق معناه، وجملة 72- "وما كانوا مؤمنين" معطوفة على كذبوا: أي استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وإلى عاد أخاهم هوداً" قال: ليس بأخيهم في الدين ولكنه أخوهم في النسب لأنه منهم فلذلك جعل أخاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن خيثم قال: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج ابن عساكر عن وهب قال: كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة، وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس قال: كان الرجل منهم ثمانون ذراعاً، وكانت البرة فيهم ككلية البقرة، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "وزادكم في الخلق بسطة" قال: شدة. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "آلاء الله" قال: نعم الله، وفي قوله: "رجس" قال: سخط. وأخرج ابن عساكر قال: لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذ به الأنفس، وإنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وقطعنا دابر الذين كذبوا" قال: استأصلناهم. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال: قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة. وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود. وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة.
72- " فأنجيناه " ، يعني هوداً عند نزول العذاب ، " والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " ، أي : استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم ، " وما كانوا مؤمنين " .
وكانت قصة عاد على ما ذكر من ابن إسحاق وغيره : أنهم كانوا قوما ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف ، وهي رمال بين عمان وحضرموت ، وكانوا قد فضوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، صنم يقال له صدى ، وصنم يقال له صمود ، وصنم يقال له الهباء ، فبعث الله إليهم هوداً نبياً ، وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً ، فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك ، فكذبوه فقالوا من أشد منا قوة فبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين ، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك .
وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة أناس كثير شتى ، مختلفة أديانهم وكلهم معظم لمكة ، وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاذا بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وفدا‌ً منكم إلى مكة فليستسقوا لكم ، فبعثوا قيل بن عنز ، ولقيم بن هزال من هزيل ، وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه ، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن عاد الأكبر ، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلاً .
فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان ، قينتان لمعاوية بن بكر ، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه ، وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي ، والله ما أدري كيف أصنع بهم ، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه ، فيظنون إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، لعل ذلك أن يحركهم ، فقال معاوية بن بكر :
ألا يا قيل ويحــك قم فهينـــم لعل الله يسقينا غمامـــا
فيسقى أرض عاد إن عـــــاداً قد أمسوا لا يبينـــون الكلامــــا
من العطش الشديد فليس نرجـــو به الشيخ الكبير ولا الغلامـــــا
وقد كانت نساؤهم بخيــــــر فقد أمسيـت نساؤهم أيامـــــــي
وإن الوحش تأتيهم جهـــــاراً فلا تخشى لعادي سهاما
و‌‌‌‌‌‌‌‌أنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركمو وليلكمو‌‌ ‌‌‌‌‌‌التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم ، فقال مرثد بن سعد بن عفير ، وكان آمن بهود سراً : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم ، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال :
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء
فقالوا : لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشئ مما خرجوا له ، فلما انتهى إليهم قام يدعوا الله ، وبها وفد عاد يدعون ، فقال : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شئ مما يدعوك به وفد عاد ، وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد ، فقال وفد عاد : اللهم أعط قيلاً ما سألك واجعل سؤلنا مر سؤله .
وكان قد تخلف عن وفد عاد - حين دعوا - لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد ، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام ، فقال : الله إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي ، وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر ، وقل قيل بن عنز حين دعا : يا إلهنا أن كان هود صادقاً فأسقنا فإنا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحايب ( يا قيل ) اختر لنفسك وقومك من السحائب ( ما شئت ) ، فقال قيل : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماءً فناداه مناد : اخترت رماداً رمدداً لا تبقي من آل عاد أحداً ، وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له ( المغيث ) ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، يقول الله تعالى : " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها " ( الأحقاف 24-25 ) أي : كل شئ مرت به .
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت ، فما أفاقت قالوا لها : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك ، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة ، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر ، فقالوا له فأين فارقت هوداً وأصحابه ؟ فقال : فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به ، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق ورب الكعبة .
وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد ، وقيل بن عنز ، حين دعوا بمكة ، قيل لهم : قد أعطيتكم مناكم فاختاروا لأنفسكم ، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ، ولا بد من الموت ، فقال مرثد : اللهم أعطني صدقاً وبراً فأعطي ذلك ، وقل لقمان : أعطني يا رب عمراً ، فقيل له : اختر ، فاختار عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضه فيأخذ الذكر منها لقوته ، حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع ، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة ، وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه .
وأما قيل فإنه قال : أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له : إنه الهلاك ، فقال : لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم ، فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك .
قال السدي : بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال ، تطيربهم الريح بين السماء والأرض ، فلما رأوها فبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها ، ثم أخرجتهم من البيوت ، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه .
وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل ، ثم أمر الريح فكشف عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها .
وفي الحديث : ( إنها خرجت عليهم على قدر خرق الخاتم ) ، وروي عن علي رضي الله عنه : أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر . وقال عبدالرحمن بن سابط : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً ، وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة . ويروى أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا .
ا
72. " فأنجيناه والذين معه " في الدين . " برحمة منا" عليهم . " وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " أي استأصلناهم . " وما كانوا مؤمنين " تعرض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين منهلك هو الإيمان . روي انهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه ، وازدادوا عتواً فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرح ، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ،فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له ، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم في مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين :
ألا ياقيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا الغماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد امسوا ما يبينون الكلاما
حتى غنتا به ، فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : للهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم ،فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ،ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك : فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا . " هذا عارض ممطرنا " فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا .
72. And We saved him and those with him by a mercy from Us, and We cut the root of those who denied Our revelations and were not believers.
72 - We saved him and those who adhered to him, by our mercy, and we cut off the roots of those who rejected our signs and did not believe.