[الأعراف : 185] أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
185 - (أولم ينظروا في ملكوت السماوات) ملك (والأرض و) في (ما خلق الله من شيء) بيان لما ، فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته (و) في (أن) أي أنه (عسى أن يكون قد اقترب) قرب (أجلهم) فيموتوا كفارا فيصيروا إلى النار فيبادروا إلى الإيمان (فبأي حديث بعده) أي القرآن (يؤمنون)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله، في ملك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض، وفيما خلق جل ثناؤه من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك، ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له، فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.
وقوله: " فبأي حديث بعده يؤمنون "، يقول: فبأي تخويف وتحذير ترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه، يصدقون، إن لم يصدقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؟
قوله تعالى: "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض" فيه أربع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "أولم ينظروا" عجب من إعراضهم عن النظر في آياته، ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة البقرة. والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم. وقد تقدم.
الثانية- استدل بهذه الآية -وما كان مثلها من قوله تعالى: "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" وقوله تعالى: "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها" [ق: 6] وقوله: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" [الغاشية: 17] الآية. وقوله: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" [الذاريات: 21]- من قال بوجوب النظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته. قالوا: في ذم الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم فقال: "لهم قلوب لا يفقهون بها" الآية.
وقد اختلف العلماء في أول الواجبات، هل هو النظر والاستدلال، أو الإيمان الذي هو التصديق الحاصل في القلب الذي ليس من شرط صحته المعرفة. فذهب القاضي وغيره إلى أن أول الواجبات النظر والاستدلال، لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري رحمه الله حيث بوب في كتابه (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل: "فاعلم أنه لا إله إلا الله" [محمد: 19]. قال القاضي: من لم يكن عالماً بالله فهو جاهل، والجاهل به كافر. قال ابن رشد في مقدماته: وليس هذا بالبين، لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد، وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله إلى الاعتبار به في غير ما آية. قال: وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلد مؤمنين. قال: فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحاً لما صح أن يسمى مؤمناً إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال: وأيضاً فلو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم: لا يحل لكم قتلنا، لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل. قال: وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم، وألا يقتلوا حتى ينظروا ويستدلوا.
قلت: هذا هو الصحيح في الباب، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (ذكر صفة كمال الإيمان) أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام -وهو بالغ صحيح العقل- أنه مسلم. وإن رجع بعد ذلك وأظهر الكفر كان مرتداً يجب عليه ما يجب على المرتد. وقال أبو حفص الزنجاني وكان شيخنا القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني يقول: أول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدم وجوب الإيمان بالله تعالى عنده على المعرفة بالله. قال: وهذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق، لأن أكثرهم لا يعرفون حقيقة المعرفة والنظر والاستدلال. فلو قلنا: إن أول الواجبات المعرفة بالله لأدى إلى تكفير الجم الكثير والعدد الكثير، وألا يدخل الجنة إلا آحاد الناس، وذلك بعيد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع بأن أكثر أهل الجنة أمته، وأن أمم الأنبياء كلهم صف واحد وأمته ثمانون صفا. وهذا بين لا إشكال فيه. والحمد لله.
الثالثة- ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر، فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار. أو كما قال-
قلت: وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بكتاب الله وسنة نبيه، لأنه ضيق رحمة الله الواسعة على شرذمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامة المسلمين. أين هذا من "قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وانتهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً". خرجه البخاري والترمذي وغيرهما من الأئمة. أترى هذا الأعرابي عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان؟ وأن رحمته وسعت كل شيء، وكم من مثله محكوم له بالإيمان. بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك. ألا تراه لما قال للسوداء:
أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة. ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أول وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة. والله أعلم.
الرابعة- ولا يكون النظر أيضاً والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنسوان. قال أبو الفرج الجوزي: قال أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري: بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلى والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع. وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم. قال أبو الفرج: وقال الإمام أب الوفاء بن عقيل: لم يحل الله النظر إلا على صورة لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها، بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنا لذة. ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضياً ولا إماماً ولا مؤذناً، كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة. فمن قال: أنا أجد من الصور المستحسنة عبراً كذبناه. وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين. وقال بعض الحكماء: كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" [التين: أربعة] وقال: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" [الذاريات: 21]. وقد بينا وجه التمثيل في أول الأنعام. فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ويتفكر في خلقه من حيث كونه ماء دافقاً إلى كونه خلقاً سوياً، يعان بالإغذية ويربى بالرفق، ويحفظ باللبن حتى يكتسب القوى ويبلغ الأشد. وإذا هو قد قال: أنا، وأنا، ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وسيعود مقبوراً، فيا ويحه إن كان محسوراً. قال الله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين" -إلى قوله- "تبعثون" [المؤمنون: 12-16] فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوف بالعذاب إن قصر، مرتجياً بالثواب إن ائتمر، فيقل على عبادة مولاه فإنه وإن كان لا يراه يراه ولا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه، ولا يتكبر حتى أحد من عباد الله، فإنه مؤلف من أقدار، مشحون من أوضار، صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار. وقال ابن العربي: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية:
كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه
فهو منه وإليه وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحشس بصغر فيطيعه
قوله تعالى: "وما خلق الله من شيء" معطوف على ما قبله، أي وفيما خلق الله من الأشياء. "وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم" أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، فهو على موضع خفض معطوف على ما قبله. وقال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر ويوم أحد. "فبأي حديث بعده يؤمنون" أي بأي قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون. وقيل: الهاء للأجل، على معنى بأي حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان، لأن الآخرة ليست بدار تكليف.
يقول تعالى: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السموات والأرض, وفيما خلق من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك ويعتبروا به, ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه, ومن فعل من لاينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله, وينيبوا إلى طاعته, ويخلعوا الأنداد والأوثان, ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. وقوله "فبأي حديث بعده يؤمنون" يقول فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه, الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدقون إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله عز وجل ؟ وقد روى الإمام أحمد: عن حسن بن موسى وعفان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث, كلهم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت ليلة أسري بي كذا, فلما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق, وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء أكلة الربا, فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب" علي بن زيد بن جدعان له منكرات. ثم قال تعالى:
والاستفهام في 185- " أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض " للإنكار والتقريع والتوبيخ ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدم بيانه، والمعنى: إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكراً ولا يمعنون نظراً. قوله: "وما خلق الله من شيء" أي لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته. قوله: "وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم" معطوف على ملكوت وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى وما بعدها: أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتون عن قريب. والمعنى: إنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به "فبأي حديث بعده يؤمنون" الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة: أي فبأي حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره، وقيل الضمير للقرآن، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل للأجل المذكور قبله.
185 - " أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله " فيهما " من شيء " ، أي : وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا به على وحدانيته . " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " أي : لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا يصيروا إلى العذاب ، " فبأي حديث بعده يؤمنون " ، أي : بعد القرآن يؤمنون ، يقول : بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون ، وليس بعده نبي ولا كتاب ، ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال :
185. " أولم ينظروا "نظر استدلال . " في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء " مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها وعظم شان مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر صحة ما يدعوهم إليه . " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ن واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ونزول العذاب . " فبأي حديث بعده " أي بعد القرآن . " يؤمنون " إذا لم يؤمنوا به ،وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر . وقيل هو متعلق بقوله : عسى أن يكون ، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن ،وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به وقوله:
185. Have they not considered the dominion of the heavens and the earth, and what things Allah hath created, and that it may be that their own term draweth nigh? In what fact after this will they believe?
185 - Do they see nothing in the government of the heavens and the earth and all that God hath created? (do they not see) that it may well be that their term in nigh drawing to an end? in what message after this will they then believe?