[الأنعام : 54] وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
54 - (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل) لهم (سلام عليكم كتب) قضى (ربكم على نفسه الرحمة أنه) أي الشأن ، وفي قراءة بالفتح بدل من الرحمة (من عمل منكم سوءاً بجهالة) منه حيث ارتكبه (ثم تاب) رجع (من بعده) بعد عمله منه (وأصلح) عمله (فإنه) أي الله (غفور) له (رحيم) به وفي قراءة بالفتح أي فالمغفرة له
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية.
فقال بعضهم : عنى بها الذين نهى الله نبيه عن طردهم . وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه .
وقال آخرون : عنى بها قوما استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظام ، فلم يؤيسهم الله من التوبة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان ، عن مجمع قال ، سمعت ماهان قال : جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوباً عظاماً. قال ماهان : فما إخاله رد عليهم شيئا. قال : فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية : "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم"، ا لآية.
حدثنا هناد قال ، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن مجمع، عن ماهان. أن قوما جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوباً عظاماً! فما إخاله رد عليهم شيئاً، فانصرفوا فأنزل الله تعالى ذكره : "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة". قال : فدعاهم فقرأها عليهم .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان، عن مجمع التميمي قال ، سمعت ماهان يقول ، فذكر نحوه .
وقال آخرون : بل عني بها قوم من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم ، فكان ذلك منهم خطيئة، فغفرها الله لهم وعفا عنهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بان قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم . وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد، وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية، قول من قال : المعنيون بقوله : "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم"، غير الذين نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم . لأن قوله : "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا"، خبر مستأنف بعد تقضي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم . ولى كانوا هم ، لقيل : وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم ، وفي ابتداء الخبر عن قصة هؤلاء، وتركه وصل الكلام بالخبر عن الأولين ما ينبىء عن أنهم غيرهم. فتأويل الكلام إذاً-إذ كان الأمر على ما وصفنا- : وإذا جاءك يا محمد، القوم الذين يصدقون بتنزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرون بذلك قولاً وعملاً، مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم ، هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها، وقل لهم : سلام عليكم ، أمنة الله لكم من ذنوبكم ، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها، "كتب ربكم على نفسه الرحمة"، يقول : قضى ربكم الرحمة بخلقه "أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم".
واختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة المدنيين : "أنه من عمل منكم سوءا"، فيجعلون أن منصوبة على الترجمة بها عن "الرحمة" ، ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ، على ائتناف إنه بعدالفاء فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها، بمعنى : فهو له غفور رحيم ، أو: فله المغفرة والرحمة .
وقرأهما بعض الكوفيين بفتح الألف منهما جميعا، بمعنى : "كتب ربكم على نفسه الرحمة"، ثم ترجم بقوله : "أنه من عمل منكم سوءا بجهالة"، عن الرحمة، "فأنه غفور رحيم"، فيعطف ب أنه الثانية علىأنه الأولى، ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت .
وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة : بكسر الألف من إنه وإنه على الابتداء ، وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما.
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأهما بالكسر: كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه ، على ابتداء الكلام ، وأن الخبر قد انتهى عند قوله : "كتب ربكم على نفسه الرحمة"، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعل تعالى ذكره بمن عمل سوءاً بجهالة ثم تاب وأصلح منه .
ومعنى قوله : إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، إنه من اقترف منكم ذنباً فجهل باقترافه إياه ، ثم تاب وأصلح ، فإنه غفور، لذنبه إذا تاب وأناب ، وراجع العمل بطاعة الله ، وترك العود إلى مثله ، مع الندم على ما فرط منه ، "رحيم"، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عثمان ، عن مجاهد: "من عمل منكم سوءا بجهالة"، قال : من جهل : أنه لا يعلم حلالاً من حرام ، ومن جهالته ركب الأمر.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك ، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن ليث ، عن مجاهد: يعملون السوء بجهالة، قال : من عمل بمعصية الله ، فذاك منه جهل حتى يرجع .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا بكر بن خنيس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : "من عمل منكم سوءا بجهالة"، قال : كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال : كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال : "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة".
قوله تعالى :" وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " السلام والسلامة بمعنى واحد ومعنى "سلام عليكم " سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال :
"الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام" فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى ، أي أبلغهم منا السلام ، وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى . وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو:
"أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخوذها، قال فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ؟قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي" فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم، فإن في ذلك غضب الله ، أي حلول عقابهن بمن آذى من أوليائه، وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية وروي عن أنس بن مالك مثله سواء .
قوله تعالى :" كتب ربكم على نفسه الرحمة " أي أوجب ذلك بخبره الصدق ووعده الحق ، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئاً فقد أوجبه على نفسه، وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ" أنه من عمل منكم سوءا بجهالة " أي خطيئة من غير قصد، قال مجاهد: لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل وقد مضى هذا المعنى في النساء وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل " فأنه غفور رحيم " قرأ بفتح أن من فأنه ابن عامر وعاصم وكذلك " أنه من عمل " ووافقهما نافع في " أنه من عمل " وقرأ الباقون بالكسر فيهما، فمن كسر فعلى الاستئناف والجملة مفسرة للرحمة وإن إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها ، " كتب " كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل، وأما " فأنه غفور " بالفتح ففيه وجهان، أحدهما- أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر كأنه قال : فله أنه غفور رحيم، لأن ما بعد الفاء مبتدأ أي فله غفران الله الوجه الثاني - أن يضمر مبتدأ تكون أن وما عملت فيه خبره تقديره فأمره غفران الله له ، وهذا اختيار سيبويه ، ولم يجز الأول، وأجازه أبو حاتم وقيل: إن كتب عمل فيها، أي كتب ربكم أنه غفور رحيم وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم، ومن فتح الأولى - وهو نافع - جعلها بدلاً من الرحمة واستأنف الثانية أنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة.
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله" أي لست أملكها ولا أتصرف فيها "ولا أعلم الغيب" أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب, إنما ذاك من علم الله عز وجل, ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه, "ولا أقول لكم إني ملك" أي ولا أدعي أني ملك, إنما أنا بشر من البشر, يوحى إلي من الله عز وجل, شرفني بذلك وأنعم علي به, ولهذا قال " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه, "قل هل يستوي الأعمى والبصير" أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه, ومن ضل عنه فلم ينقد له, "أفلا تتفكرون" وهذه كقوله تعالى: "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب" وقوله "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع" أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد "الذين هم من خشية ربهم مشفقون" " ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " أي يوم القيامة "ليس لهم" أي يومئذ "من دونه ولي ولا شفيع" أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم, من عذابه إن أراده بهم, "لعلهم يتقون" أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه, إلا الله عز وجل, "لعلهم يتقون" فيعملون في هذه الدار, عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه, ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه. وقوله تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك, بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كقوله " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " وقوله "يدعون ربهم" أي يعبدونه ويسألونه "بالغداة والعشي" قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة, وهذا كقوله "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" أي أتقبل منكم. وقوله "يريدون وجهه" أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم, وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات, وقوله "ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء" كقول نوح عليه السلام: في جواب الذين قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون, قال:وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون, أي إنما حسابهم على الله عز وجل, وليس علي من حسابهم من شيء, كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء, وقوله "فتطردهم فتكون من الظالمين" أي إن فعلت هذا والحالة هذه, قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط هو ابن محمد, حدثني أشعث عن كردوس, عن ابن مسعود: قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار, فقالوا: يا محمد, أرضيت بهؤلاء فنزل فيهم القرآن " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " ورواه ابن جرير من طريق أشعث, عن كردوس, عن ابن مسعود, قال: مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم, من ضعفاء المسلمين, فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك, فنزلت هذه الاية "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" إلى آخر الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي عن أبي سعيد الأزدي ـ وكان قارى الأزد ـ عن أبي الكنود, عن خباب, في قول الله عز وجل: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" قال جاء الأقرع بن حابس التميمي, وعيينة بن حصن الفزاري, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع صهيب وبلال وعمار وخباب, قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين, فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم في نفر في أصحابه فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا, فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد, فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا, فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت, قال: "نعم", قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً, قال: فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية, فنزل جبريل فقال "ولا تطرد الذين يدعون ربهم" الاية, فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة من يده, ثم دعانا فأتيناه, ورواه ابن جرير من حديث أسباط به, وهذا حديث غريب, فإن هذه الاية مكية, والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر, وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه, قال: قال سعد: نزلت هذه الاية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, منهم ابن مسعود, قال: كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنو منه, فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا, فنزلت "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان, وقال: على شرط الشيخين, وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به.
وقوله "وكذلك فتنا بعضهم ببعض" أي ابتلينا واختبرنا وامتحنا ببعض, " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان غالب من اتبعه في أول بعثته, ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء, ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل, كما قال قوم نوح لنوح "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" الاية, وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل, فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقال: بل ضعفاؤهم, فقال: هم أتباع الرسل, والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم, ويعذبون من يقدرون عليه منهم, وكانوا يقولون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير, لو كان ما صاروا إليه خيراً ويدعنا, كقولهم "لو كان خيراً ما سبقونا إليه" وكقوله تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً" قال الله تعالى في جواب ذلك "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً" وقال في جوابهم حين قالوا: " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " أي أليس هو أعلم بالشاكرين له, بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم, فيوفقهم ويهديهم سبل السلام, ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه, ويهديهم إلى صراط مستقيم, كما قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, عن حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله: "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" الاية, قال: جاء عتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, ومطعم بن عدي, والحارث بن نوفل, وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف, من أهل الكفر, إلى أبي طالب, فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا, فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا, كان أعظم في صدورنا, وأطوع له عندنا, وأدنى لاتباعنا إياه, وتصديقنا له, قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك, فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون, وإلى ما يصيرون من قولهم, فأنزل الله عز وجل هذه الاية "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" إلى قوله "أليس الله بأعلم بالشاكرين" قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد, ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارى, وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو, وذو الشمالين, ومرثد بن أبي مرثد, وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب, وأشباههم من الحلفاء, فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء, " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " الاية, فلما نزلت, أقبل عمر رضي الله عنه, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر من مقالته, فأنزل الله عز وجل "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا" الاية, وقوله "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم" أي فأكرمهم برد السلام عليهم, وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم, ولهذا قال "كتب ربكم على نفسه الرحمة" أي أوجبها على نفسه الكريمة, تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً, "أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة" قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل, وقال معتمر بن سليمان: عن الحكم بن أبان بن عكرمة, في قوله "من عمل منكم سوءاً بجهالة" قال: الدنيا كلها جهالة, رواه ابن أبي حاتم "ثم تاب من بعده وأصلح" أي رجع عما كان عليه من المعاصي, وأقلع وعزم على أن لا يعود, وأصلح العمل في المستقبل, "فأنه غفور رحيم" قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر, عن همام بن منبه, قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" أخرجاه في الصحيحين, وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة, ورواه موسى عن عقبة: عن الأعرج, عن أبي هريرة, وكذا رواه الليث وغيره, عن محمد بن عجلان, عن أبيه عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان: عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق, أخرج كتاباً من تحت العرش, إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة أو قبضتين, فيخرج من النار خلقاً لم يعملوا خيراً, مكتوب بين أعينهم عتقاء الله" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله "كتب ربكم على نفسه الرحمة" قال: إنا نجد في التوراة عطفتين, أن الله خلق السموات والأرض, وخلق مائة رحمة, أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق, ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة, قال: فبها يتراحمون, وبها يتعاطفون, وبها يتباذلون, وبها يتزاورون, وبها تحن الناقة, وبها تبح البقرة, وبها تثغو الشاة, وبها تتتابع الطير, وبها تتتابع الحيتان في البحر, فإذا كان يوم القيامة, جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده, ورحمته أفضل وأوسع, وقد روي هذا مرفوعاً من وجه آخر, وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله "ورحمتي وسعت كل شيء" ومما يناسب هذه الاية من الأحاديث أيضاً, قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" ثم قال: " أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم" وقد رواه الإمام أحمد: من طريق كميل بن زياد, عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قوله: 54- "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا" هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين، كما سيأتي بيانه "فقل سلام عليكم" أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييباً لخواطرهم وإكراماً لهم. والسلام، والسلامة: بمعنى واحد، فمعنى سلام عليكم: سلمكم الله. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقيل: إن هذا السلام هو من جهة الله: أي أبلغهم منا السلام. قوله: "كتب ربكم على نفسه الرحمة" أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان، وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. قيل: هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله وعظيم رحمته. قوله: "أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة". قرأ ابن عامر وعاصم ونافع بفتح أن من أنه، وقرأ الباقون بكسرها. فعلى القراءة الأولى تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة: أي كتب ربكم على نفسه أنه من عمل إلى آخره. وعلى القراءة الثانية تكون هذه الجملة مفسرة للرحمة بطريق الاستئناف وموضع بجهالة النصب على الحال: أي عمله وهو جاهل. قيل: والمعنى أنه فعل فعل الجاهلين، لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه، فقد فعل فعل أهل الجهل والسفه لا فعل أهل الحكمة والتدبير، وقيل المعنى: أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة، فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر. قوله: "ثم تاب من بعده" أي من بعد عمله "وأصلح" ما أفسده بالمعصية فراجع الصواب وعمل الطاعة " إن الله غفور رحيم ". قرأ ابن عامر وعاصم بفتح الهمزة من فإنه، وقرأ الباقون الكسر. فعلى القراءة الأولى تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف: أي فأمره أن الله غفور رحيم، وهذا اختيار سيبويه، واختار أبو حاتم أن الجملة في محل رفع على الابتداء والخبر مضمر، كأنه قيل فله: "أنه غفور رحيم" قال: لأن المبتدأ هو ما بعد الفاء. وأما على القراءة الثانية فالجملة مستأنفة.
54- قوله عز وجل: " إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم "، قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام.
وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين .
" كتب ربكم على نفسه الرحمة "، أي: قضى على نفسه الرحمة، "أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة "، قال مجاهد : لا يعلم حلالاً من حرام فمن جهالته ركب الذنب، وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب، وقيل: جهالة من حيث أنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير، " ثم تاب من بعده "، رجع عن ذنبه، " وأصلح "، عمله، وقيل: أخلص توبته، " فأنه غفور رحيم "، قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب " أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم " بفتح الألف فيهما بدلاً من الرحمة، أي: كتب على نفسه أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلاً عن الأولى، كقوله تعالى: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون "، (المؤمنون،35)، وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف، وكسرهما الآخرون على الاستئناف.
54 " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره أن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم ، إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ، ويعز ولا يذل ، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة ، وقيل إن قومًا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا فلم يرد عليهم شيئًا فانصرفوا فنزلت :" أنه من عمل منكم سوءا " استئناف بتفسير الرحمة . وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالفتح على البدل منها . " بجهالة " في موضع الحال أي من عمل ذنبًا جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد ،كعمر فيما أشار إليه ، أو ملتبسًا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل . " ثم تاب من بعده " بعد العمل أو السوء . "وأصلح " بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه . " فأنه غفور رحيم " فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه .
54. And when those who believe in Our revelations come unto thee, say: Peace be unto you! Your Lord hath prescribed for Himself mercy, that whoso of you doeth evil and repenteth afterward thereof and doeth right, (for him) lo! Allah is Forgiving, Merciful.
54 - When those come to thee who believe in our signs, say: peace be on you: your lord hath inscribed for himself (the rule of) mercy: verily, if any of you did evil in ignorance, and thereafter repented, and amended (his conduct), lo he is oft forgiving, most merciful.