[الأنعام : 103] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
103 - (لا تدركه الأبصار) أي لا تراه وهذا مخصوص لرؤية المؤمنين له في الآخرة لقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وحديث الشيخين "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" وقيل المراد لا تحيط به (وهو يدرك الأبصار) أي يراها ولا تراه ولا يجوز في غيره أن يدرك البصر ولا يدركه أو يحيط به علما (وهو اللطيف) بأوليائه (الخبير) بهم
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار".
فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، يقول: لا يحيط بصر أحد بالملك.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، وهو أعظم من أن تدركه الأبصار .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة" [القيامة: 22 ، 23 ]، قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم. فذلك قوله: "لا تدركه الأبصار" الآية.
قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا إن الله قال: "حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت" [يونس:90] قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون. ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه، ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئاً. قالوا: فمعنى قوله: "لا تدركه الأبصار"، بمعنى: لا تراه، بعيد. لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه، كما قال جل ثناؤه مخبراً عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم لموسى حين قرب منهم أصحاب فرعون: "فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون" [الشعراء: 61]، لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدركون، لقوله: "ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى" [طه: 77].
قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه، ويدركه ولا يراه، فكان معلوماً بذلك أن قوله: "لا تدركه الأبصار"، من معنى: لا تراه الأبصار، بمعزل، وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار، لأن الإحاطة به غير جائزة.
قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم ، ولا تدركه أبصارهم ، بصنى : أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئاً يحيط به.
قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك، جواز وصفه بأنه يعلم ولا يحاط بعلمه، وكما قال جل ثناؤه: "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" [البقرة:255]. قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. قالوا: ومعنى العلم في هذا الموضع، المعلوم. قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء فن علمه إلا بما شاء، نفي عن أن يعلموه. قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علماً نفي للعلم به، كان كذلك، لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر، نفي رؤيته له. قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياء ولا يحيطون بها علماً، كذلك جائز أن يروا ربهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم، إذ كان معنى الرؤية، غير معنى الإدراك ، ومعنى الإدراك غير معنى الرؤية، وأن معنى الإدراك، إنما هو الإحاطة، كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل.
قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: "لا تدركه الأبصار"، لا تراه الأبصار؟ قلنا له: أنكرنا ذلك، لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهاً في القيامة إليه ناظرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب، قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر، وحققت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم: أن تأويل قوله: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة" [القيامة: 22 ، 23] أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله، وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحد هذين الخبرين ناسخاً للآخر، إذ كان غير جائز في الأخبار- لما قد بينا في كتابنا: كتاب لطيف البيان، عن أصول الأحكام، وغيره - علم، أن معنى قوله: "لا تدركه الأبصار"، غير معنى قوله: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة"، فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله، ولا يدركونه بها، تصديقاً لله في كلا الخبرين، وتسليماً لما جاء به تنزيله على ما جاء به في السورتين.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "لا تدركه الأبصار"، لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب! "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب" [الشورى : 51]، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال: قلت لعائشه: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله ، لقد قف شعري مما قلت! ثم قرأت: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وابن علية، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة، بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن أحداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! قال الل : "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار".
فقال قائلو هذه المقالة: معنى الإدراك في هذا الموضع، الرؤية، وأنكروا أن يكون الله يرى بالأبصار في الدنيا والآخرة، وتأولوا قوله: "وجوه يومئذ ناضرة *إلى ربها ناظرة" [القيامة: 23 ، 24]، بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابه.
قال أبو جعفر: وتأول بعضهم في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تحيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضروب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات.
وكان من أجل ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئاً إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا : فما كان للأبصار مبايناً مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً. قالوا : فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة، على نحو ما يرى الأشخاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدوداً. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان.
قالوا: وأخرى، أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنسم أن يدرك الأعراف. قالوا : فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزاً أن يقضى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسم إلا بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزاً القضاء للبصر إلا بإدراك الألوان.
قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفاً بأنه ذو لون، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفاً بأنه مرئي.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة: الإدراك، في هذا الموضع، الرؤية.
واعتل أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: الإدراك، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصره شيئاً فيراه، وهو لما أبره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا : فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم يره. قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهاً يوم القيامة إليه ناظرة. قالوا، فمحال أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤية. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضاد وتعارض، وجب وصح أن قوله: "لا تدركه الأبصار"، على الخصوص لا على العموم، وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة" [القيامة: 22 - 23]. وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص، إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة، وأما بالرؤية فبلى. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وتدركه في الآخرة - وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصار من يراد بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصار خلقه - فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه، هو الذي أثبته لنفسه، إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قواها جل ثناؤه على النفوذ فيه، وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء. قالوا: ولا شك في خصوص قوله: "لا تدركه الأبصار"، وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، غير أنا لا ندري أفي معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية. واعتلوا لتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة، بنحو علل الذين ذكرنا قبل.
وقال آخرون: الآية على العموم، ولن يدرك الله بصر أحد في الدنيا والآخرة، ولكن الله يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس، فيرونه بها. واعتلوا لقولهم هذا بأن الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه، من غير أن يدل فيها أو بآية غيرها عنى خصوصها. قالوا: وكذلك أخبر في آية أخرى أن وجوهاً إليه يوم القيامة ناظرة. قالوا: فأخبار الله لا تتنافى ولا تتعارض، وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنزيل، واعتلوا أيضاً من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزاً أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه وإن زيد في قواها، وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت، لأن كل حاسة خلقت لإدراك معنى من المعاني، فهي وإن ضعفت كل الضعف، فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه، ما لم تعدم. قالوا: فلو كان في البصر أن يدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه، وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها وإن ضعف إدراكه إياه. قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا، كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا في أنها لا تدرك إلا ما كان من شانها إدراكه في الدنيا. قالوا: فلما كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أن وجوهاً في الآخرة تراه، علم أنها تراه بغير حاسة البصر، إذ كان غير جائز أن يكون خبره إلا حقاً.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب"، فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" [المطففي : 15]،
فأما ما اعتل به منكرو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار، لما كانت لا ترى إلا ما باينها وكان بينها وبينه فضاء وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك، لأن في ذلك إثبات حد له ونهاية، فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه، فإنه يقال لهم: هل علمتم موصوفاً بالتدبير سوى صانعكم، إلا مماساً لكم أومبايناً؟
فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك، كلفوا تبيينه، ولا سبيل إلى ذلك.
وإن قالوا: لا نعلم ذلك.
قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماساً لكم ولا مبايناً، وهو موصوف بالتدبير والفعل، ولم يجب عندكم إذ كنتم لم تعلموا موصوفاً بالتدبير والفعل غيره إلا مماساً لكم أو ميايناً، أن يكون مستحيلاً العلم به، وهو موصوف بالتدبير والفعل لا مماس ولا مباين؟ فإن قالوا: ذلك كذلك.
قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها وكانت بينه وبينها فرجة، قد تراه وهو غير مباين لها ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء، كما لا تعلم القلوب موصوفاً بالتدبير إلا مماساً للعالم أو مبايناً، وقد علمته عندكم لا كذلك؟ وهل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفاً بالتدبير والفعل معلوماً، إلا مماساً للعالم به أو مبايناً، وأجاز أن يكون موصوفاً برؤية الأبصار، لا مماساً لها ولا مبايناً، فرق؟
ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله.
وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان، كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات، ومن شأن المتنسم درك الأعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يقضى للسمع درك الأصوات، فسد أن يقضى للأبصار بغير درك الألوان. فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفاً بالتدبير والفعل إلا ذا لون، وقد علمتموه موصوفاً بالتدبير لا ذا لون؟
فإن قالوا: نحم، لا يجدون من الإقرار بذلك بدا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفاً بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفون بيان ذلك، ولا سبيل إليه. فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفاً بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفاً بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئاً إلا ألزموا في الآخر مثله.
ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم ، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدر الذي ذكرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة.
وأما قوله : "وهو اللطيف الخبير"، فإنه يقول: والله تعالى ذكره المتيسر له من إدراك الأبصار، والمتأتي له من الإحاطة بها رؤية ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها، "الخبير"، يقول: العليم بخلقه وأبصارهم، والسبب الذي له تعذر عليها إدراكه، فلطف بقدرته فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه، وخبر بعلمه كيف تدبيرها وشؤنها وما هوأصلح بخلقه، كالذي:
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: "اللطيف الخبير" ، قال: "اللطيف" باستخراجها "الخبير"،بمكانها.
قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار" بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته، كما تقول: أدركت كذا وكذا، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس: "لا تدركه الأبصار" في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة، لإخبار الله بها في قوله: "وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة" [القيامة: 22-23] وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة وسيأتي بيانه في يونس. وقيل: "لا تدركه الأبصار" لا تحيط به وهو يحيط بها، عن ابن عباس أيضاً. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه، إذ "ليس كمثله شيء" [الشورى: 11]. وقيل: المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصراً وإدراكاً يراه به كمحمد عليه السلام، إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلاً، إذ لو لم تكن جائزةً لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلاً، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزاً غير مستحيل. واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم "عن مسروق قال:
كنت متكئاً عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الله الفرية. قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: "ولقد رآه بالأفق المبين" [التكوير: 32]. "ولقد رآه نزلة أخرى"؟ [النجم: 13] فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض. فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير"؟ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا" -إلى قوله- "علي حكيم"؟ [الشورى: 51] قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" [المائدة: 67] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" [النمل: 65]".
وإلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه إنما رأى جبريل، واختلف عنهما. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينيه، هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى: "ما كذب الفؤاد ما رأى" [النجم: 11] وقال عبد الله بن الحارث: اجتمع ابن عباس وكعب الأحبار، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمداً رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم. وحكى عبد الرزاق: أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم. وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمد صلى الله عليه وسلم، رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقاله أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده، وحكى عن ابن عباس أيضاً وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا، لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصاراً باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في الأعراف إن شاء الله.
قوله تعالى: "وهو يدرك الأبصار" أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه. وإنما خص الأبصار لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار، أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال: "وهو اللطيف الخبير" أي الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفة، أي هدية. والملاطفة المبارة، عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قليك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في الشورى إن شاء الله تعالى.
يقول تعالى: "ذلكم الله ربكم" أي الذي خلق كل شيء, ولا ولد له ولا صاحبة "لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه" أي فاعبدوه وحده, لا شريك له, وأقروا له بالواحدنية, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا ولد له, ولا والد ولا صاحبة له, ولا نظير ولا عديل "وهو على كل شيء وكيل" أي حفيظ ورقيب, يدبر كل ما سواه, ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار, وقوله "لا تدركه الأبصار" فيه أقوال للأئمة من السلف (أحدها) لا تدركه في الدنيا, وإن كانت تراه في الاخرة, كما تواترت به الأخبار, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, من غير ما طريق ثابت, في الصحاح والمسانيد والسنن, كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب, وفي رواية على الله, فإن الله تعالى قال: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" رواه ابن أبي حاتم: من حديث أبي بكر بن عياش, عن عاصم بن أبي النجود, عن أبي الضحى, عن مسروق, ورواه غير واحد عن مسروق, وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه, وخالفها ابن عباس, فعنه: إطلاق الرؤية, وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين, والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر محمد بن مسلم, حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, حدثنا يحيى بن معين, قال: سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى: "لا تدركه الأبصار" قال هذا في الدنيا, وذكر أبي عن هشام بن عبيد الله, أنه قال نحو ذلك. وقال آخرون "لا تدركه الأبصار" أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الاخرة, وقال آخرون من المعتزلة, بمقتضى ما فهموه من هذه الاية, أنه لا يرى في الدنيا ولا في الاخرة, فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك, مع ما ارتكبوه من الجهل, بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب, فقوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " وقال تعالى عن الكافرين: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" قال الإمام الشافعي: فدل هذا, على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. أما السنة, فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد, وأبي هريرة, وأنس, وجريج, وصهيب, وبلال وغير واحد من الصحابة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, أن المؤمنين يرون الله في الدار الاخرة, في العرصات وفي روضات الجنات, جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين .
وقيل المراد بقوله "لا تدركه الأبصار" أي العقول, رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين, عن الفلاس, عن ابن مهدي, عن أبي حصين يحيى بن الحصين, قارىء أهل مكة, أنه قال ذلك, وهذا غريب جداً, وخلاف ظاهر الاية, وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية, والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك, فإن الإدراك أخص من الرؤية, ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو ؟ فقيل معرفة الحقيقة, فإن هذا لا يعلمه إلا هو, وإن رآه المؤمنون, كما أن من رأى القمر, فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته, فالعظيم أولى بذلك, وله المثل الأعلى. قال ابن علية في الاية: هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم .
وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية, وهو الإحاطة, ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية, كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم, قال تعالى: "ولا يحيطون به علماً" وفي صحيح مسلم "لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك" ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" قال لا يحيط بصر أحد بالملك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط, عن سماك, عن عكرمة, أنه قيل له "لا تدركه الأبصار" قال ألست ترى السماء ؟ قال بلى, قال فكلها ترى, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الاية "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" وهو أعظم من أن تدركه الأبصار .
وقال ابن جرير: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا خالد بن عبد الرحمن, حدثنا أبو عرفجة, عن عطية العوفي في قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " قال هم ينظرون إلى الله, لا تحيط أبصارهم به, من عظمته, وبصره محيط بهم, فذلك قوله "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" وورد في تفسير هذه الاية حديث رواه ابن أبي حاتم ههنا, فقال: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب بن الحارث السهمي, حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن عطية العوفي, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" قال "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا, صفوا صفاً واحداً, ما أحاطوا بالله أبداً" غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه, ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة, والله أعلم.
وقال آخرون في الاية بما رواه الترمذي في جامعه, وابن أبي عاصم في كتاب السنة له, وابن أبي حاتم في تفسيره, وابن مردويه أيضاً, والحاكم في مستدركه, من حديث الحكم بن أبان, قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى, فقلت: أليس الله يقول: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" الاية, فقال لي: لا أم لك, ذلك نوره, الذي هو نوره, إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء, وفي رواية لا يقوم له شيء, قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وفي معنى هذا الأمر, ما ثبت في الصحيحين, من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل النهار قبل الليل, وعمل الليل قبل النهار, حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه, لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وفي الكتب المتقدمة: إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات, ولا يابس إلا تدهده, أي تدعثر, وقال تعالى: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين" ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعباده المؤمنين كما يشاء, فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه, تعالى وتقدس وتنزه, فلا تدركه الأبصار.
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, تثبت الرؤية في الدار الاخرة, وتنفيها في الدنيا, وتحتج بهذه الاية "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" فالذي نفته الإدراك, الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال, على ما هو عليه, فإن ذلك غير ممكن للبشر, ولا للملائكة, ولا لشيء, وقوله "وهو يدرك الأبصار" أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه, لأنه خلقها, كما قال تعالى: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" وقد يكون عبر بالإبصار عن المبصرين, كما قال السدي: في قوله "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" لا يراه شيء, وهو يرى الخلائق, وقال أبو العالية في قوله تعالى "وهو اللطيف الخبير" قال اللطيف لاستخراجها, الخبير بمكانها, والله أعلم, وهذا كما قال تعالى إخباراً عن لقمان, فيما وعظ به ابنه "يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير"
قوله: 103- "لا تدركه الأبصار" الأبصار: جمع بصر، وهو الحاسة، وإدراك الشيء عبارة عن الإحاطة به. قال الزجاج: أي لا تبلغ كنه حقيقته، فالمنفي هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية. فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا شك فيه ولا شبهة، ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلاً عظيماً، وأيضاً قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي، فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار وهي أبصار الكفار، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية، فالمراد به هذه الرؤية الخاصة، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب، والأول تخلفه الجزئية، والتقدير: لا تدركه كل الأبصار بل بعضها، وهي أبصار المؤمنين. والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر الرؤية في الآخرة، واعتضادها بقوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة" الآية. قوله: "وهو يدرك الأبصار" أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا تخفى عليه منها خافية، وخص الأبصار ليجانس ما قبله. وقال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار: أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى "وهو اللطيف" أي الرفيق بعباده: يقال لطف فلان بفلان: أي رفق به، واللطف في العمل الرفق فيه، واللطف من الله التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا: إذا أبره: والملاطفة: المبارة، هكذا قال الجوهري وابن فارس، و "الخبير" المختبر بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم" قال: والله خلقهم "وخرقوا له بنين وبنات بغير علم" قال: تخرصوا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وخرقوا" قال: جعلوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كذبوا. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تدركه الأبصار" قال: لو أن الإنس والجن والملائكة والشياطين منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله أبداً. قال الذهبي: هذا حديث منكر انتهى. وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قال عكرمة: فقلت له أليس الله يقول: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" قال: لا أم لك ذاك نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي لفظ: إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر. وأخرج ابن جرير عنه قال: لا يحيط بصر أحد بالله. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في كتاب الرؤية عن الحسن في قوله: "لا تدركه الأبصار" قال: في الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إسماعيل بن علية مثله.
103- وأما قوله " لا تدركه الأبصار "، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو: الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به، والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك، قال الله تعالى في قصة موسى " فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون* قال كلا "(سورة الشعراء،61)، وقال " لا تخاف دركاً ولا تخشى "(سورة طه،77)، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وأحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به، قال الله تعالى: " ولا يحيطون به علماً "(سورة طه،110)فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار، وقال عطاء : كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقال ابن عباس و مقاتل : لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يرى في الآخرة، قوله تعالى: " وهو يدرك الأبصار "، لا يخفى عليه شيء ولا يفوته، " وهو اللطيف الخبير "، قال ابن عباس رضي الله عنهما: اللطيف بأوليائه[الخبير بهم، وقال الأزهري: معنى " اللطيف "] الرفيق بعباده، وقيل: اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق، وقيل: اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا، واصل اللطف دقة النظر في الأشياء.

103 " لا تدركه " أي لا تحيط به " الأبصار " جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف ، إذ ليس الإدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاما في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص ، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع . " وهو يدرك الأبصار " يحيط علمه بها " وهو اللطيف الخبير " فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها .
103. Vision comprehendeth Him not, but He comprehendeth (all) vision. He is the Subtile, the Aware.
103 - No vision can grasp him, but his grasp is over all vision: he is above all comprehension, yet is acquainted with all things.