[الحشر : 8] لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
8 - (للفقراء) متعلق بمحذوف أي إعجبوا (المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) في إيمانهم
يقول تعالى ذكره : كيلا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم ، ولكن يكون للفقراء المهاجرين ، وقيل : عني بالمهاجرين : مهاجرة قريش .
ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " ما أفاء الله على رسوله " من قريظة جعلها لمهاجرة قريش .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، و سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، قالا : كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحج عليها ويغزو ، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء ، وجعل لهم سهماً في الزكاة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم " ... إلى قوله " أولئك هم الصادقون " قال : هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر ، خرجوا لله ولرسوله ، واختاروا الإسلام على ما فيه من الشدة ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها .
وقوله : " الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " ، وقوله " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " موضع يبتغون نصب ، لأنه في موضع حال ، وقوله " وينصرون الله ورسوله " يقول : وينصرون دين الله الذي بعث به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقوله " أولئك هم الصادقون " يقول : هؤلاء الذين وصف صفتهم من الفقراء المهاجرين هم الصادقون فيما يقولون .
أي الفيءوالغنائم "للفقراء المهاجرين " وقيل : " كي لا يكون دولة بين الأغنياء " ولكن يكون للفقراء . وقيل هو بيان لقوله : " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " [الحشر : 7 ] فلما ذكروا بأصنافهم فيل المال لهؤلاء ،لأنهم فقراء والمهاجرين وقد اخرجوا من ديارهم ، فهم أحق الناس به . وقيل " ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " للفقراء المهاجرين ،لكي لايكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا .وقيل :والله شديد العقاب للمهاجرين ، أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم . ودخل في هؤلاء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى : " ولذي القربى واليتامى " .وقيل : هو عطف على ما مضى ،ولم يأت بواو العطف كقولك :هذا المال لزيد لبكر لفلان لفلان .والمهاجرون هنا : من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبا فيه ونصرة له .قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والاهلين والاوطان حبا لله ولرسوله ،حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر علىبطنه ليقيم به صلبه من الجوع ،وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دثار غيرها .وقال عبد الرحمن بن أزى وسعد بن جبير :كان ناس من المهارين لأحدهم العبد والزوجةوالدار والناقة يحج عليها يغزو ،فنسبهم الله إلى الفقراء وجعل لهم سهما في الزكاة .ومعنى "أخرجوا من ديارهم " أي أخرجهم كفار مكة أي احوجوهم إلىالخروج ، وكانوا مائة رجل ." يبتغون " يطلبون ." فضلا من الله " أي غنيمة في الدنيا "ورضوانا " في الآخرة ، أي مرضاة ربهم " وينصرون الله ورسوله " في الجهاد في سبيل الله ." أولئك هم الصادقون " في فعلهم ذلك .وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال :من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما .ألا وإني باد بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن ،ثم الماهاجرين والأولين ،أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا .
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم "الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً" أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه "وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون" أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم, وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم. قال عمر: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم, وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل, أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري ههنا أيضاً.
قوله تعالى: "يحبون من هاجر إليهم" أي من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير, لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. قالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال "إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة" تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل, قال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة.
قال الحسن البصري "ولا يجدون في صدورهم حاجة" يعني الحسد "مما أوتوا" قال قتادة يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الان رجل من أهل الجنة" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال, فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك, فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى, فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً, فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى, فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً, فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال "نعم".
قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً, فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله, قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة, ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات "يطلع عليكم الان رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث المرات, فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به, فلم أرك تعمل كبير عمل, فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ماهو إلا ما رأيت, فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق, ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به, وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس, فالله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" يعني مما أوتوا المهاجرين, قال وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى: "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم" فقالوا أموالنا بيننا قطائع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر" فقالوا: نعم يا رسول الله. وقوله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" يعني حاجة أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصدقة جهد المقل" وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه" وقوله "وآتى المال على حبه" فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به, وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به, وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه, ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك ؟" فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله, وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه, وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء, فرده الاخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان حدثنا أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد, فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله, فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً, فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم, وتعالي فأطفيء السراج ونطوي بطوننا الليلة, ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب الله عز وجل ـ أو ضحك ـ من فلان وفلانة" وأنزل الله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه.
وقوله تعالى: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به.
وقال الأعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش, وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالظلم فظلموا, وأمرهم بالفجور ففجروا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا" ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق الأعمش, كلاهما عن عمرو بن مرة به, وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن الجلاح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً, ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان, أخبرنا ابن المبارك, حدثنا المسعودي عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت, فقال له عبد الله: وما ذاك ؟ قال: سمعت الله يقول "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً, فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن, إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً, ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل.
وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك, فقلت له, فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل, وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق, حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة".
وقوله تعالى: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه" فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لاثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية, ولهذا قال تعالى: في هذه الاية الكريمة " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون " أي قائلين " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا " أي بغضاً وحسداً " للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الاية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب, لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي, حدثنا محمد بن بشر, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الاية " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " الاية. وقال إسماعيل بن علية عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها" رواه البغوي, وقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه "وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب" قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: هذه لرسول لله صلى الله عليه وسلم خاصة وقرى عربية فدك وكذا مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى, فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ وللفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ـ والذين جاؤوا من بعدهم فاستوعبت هذه الاية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب ـ أو قال حظ ـ إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا أبو ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم " ثم قال: هذه لهؤلاء, ثم قرأ "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى" الاية. ثم قال: هذه لهؤلاء, ثم قرأ " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم " ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.
قوله: 8- "للفقراء" قيل هو بدل من "لذي القربى" وما عطف عليه، ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وقيل التقدير "كي لا يكون دولة" ولكن يكون للفقراء، وقيل التقدير: اعجبوا للفقراء، وقيل التقدير: والله شديد العقاب للفقراء: أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء، وقيل هو عطف على ما مضى بتقدير الواو كما تقول المال لزيد لعمر ولبكر، والمراد بـ"المهاجرين" الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين، ومعنى "أخرجوا من ديارهم" أن كفار مكة أخرجوهم منها واضطروهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل "يبتغون فضلاً من الله ورضواناً" أي يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا، وبالرضوان في الآخرة "وينصرون الله ورسوله" بالجهاد للكفار، وهذه الجملة معطوفة على يبتغون، ومحل الجملتين النصب على الحال، الأولى مقارنة، والثانية مقدرة: أي ناوين لذلك، ويجوز أن تكون حالاً مقارنة لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله، والإشارة بقوله: "أولئك" إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره "هم الصادقون" أي الكاملون في الصدق الراسخون فيه.
8- "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً"، رزقاً "من الله ورضواناً"، أي خرجوا إلى دار الهجرة طلباً لرضا الله عز وجل، "وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"، في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو العباس الطحان، أخبرنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين. قال أبو عبيد: هكذا قال عبد الرحمن وهو عندي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك مقدار خمسمائة سنة".
8-" للفقراء المهاجرين " بدل من " لذي القربى " و " ما " عطف عليه فإن " الرسول " لا يسمى فقيراً ، ومن أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده ، والفيء بفيء بني النضير . " الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم . " يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم . " وينصرون الله ورسوله " بأنفسهم وأموالهم ." أولئك هم الصادقون " في إيمانهم .
8. And (it is) for the poor fugitives who have been driven out from their homes and their belongings, who seek bounty from Allah and help Allah and His messenger. They are the loyal.
8 - (Some part is due) to the indigent Muhajirs, those who were expelled from their homes and their property, while seeking Grace from God and (His) Good Pleasure, and aiding God and His Apostle: such are indeed the sincere ones;