[الواقعة : 95] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
95 - (إن هذا لهو حق اليقين) من إضافة الموصوف إلى صفته
يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقربين وأصحاب اليمين وعن المكذبين الضالين وما إليه صائرة أمورهم " لهو حق اليقين " يقول : لهو الحق من الخبر اليقين لا شك فيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى و حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إن هذا لهو حق اليقين " قال: الخبر اليقين .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين " حتى ختم إن الله تعالى ليس تاركاً أحداً من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة وأما الكافر فأيقين يوم القيامة حين لا ينفعه .
واختلف أهل العربية في وجه إضافة الحق إلى اليقين والحق يقين فقال بعض نحويي البصرة : قال : حق اليقين فأضاف الحق إلى اليقين كما قال " ذلك دين القيمة " ( البينة 5 ) أي ذلك دين الملة القيمة وذلك حق الأمر اليقين قال : وأما هذا رجل السوء فلا يكون فيه هذا الرجل السوء كما يكون في الحق اليقين لأن السودء ليس بالرجل واليقين هو الحق وقال بعض أهل الكوفة : اليقين نعت للحق كأنه قال : الحق اليقين والدين القيم فقد جاء مثله في كثير من الكلام والقرآن " ولدار الآخرة " ( يوسف 109 - النحل 30 ) " والدار الآخرة " ( الأعراف 169- الأحزاب 29 ) قال : فإذا أضيف توهم به غير الأول .
" إن هذا لهو حق اليقين " أي هذا الذي قصصناه محص اليقين وخالصه . وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما . قال المبرد : هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين ، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين . وعند البصريين حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين . وقيل : هو توكيد . وقيل : أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت علىالاتساع والمجاز ، كقوله : " ولدار الآخرة " وقال قتادة في هذه الآية : إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن ، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة ، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين .
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم, إما أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين, وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله, ولهذا قال تعالى: "فأما إن كان" أي المحتضر "من المقربين" وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات, وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات "فروح وريحان وجنة نعيم" أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه, اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فروح" يقول راحة وريحان يقول مستراحة, وكذا قال مجاهد: إن الروح الاستراحة, وقال أبو حزرة: الراحة من الدنيا, وقال سعيد بن جبير والسدي: الروح الفرح, وعن مجاهد "فروح وريحان" جنة ورخاء وقال قتادة: فروح فرحمة, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, وريحان ورزق, وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة, فإن من مات مقرباً حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة, والفرح والسرور والرزق الحسن, "وجنة نعيم" وقال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه. وقال محمد بن كعب: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار, وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت" ولو كتبت ههنا لكان حسناً, من جملتها حديث تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى فلان فائتني به فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب, ائتني فلأريحه ـ قال ـ فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة, ومعهم ضبائر الريحان ـ أصل الريحانة واحد ـ وفي رأسها عشرون لوناً لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه, ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك" وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الاية.
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا هارون عن بديل بن ميسرة, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "فروح وريحان" برفع الراء, وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون, وهو ابن موسى الأعور به, وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه, وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده وخالفه الباقون فقرءوا "فروح وريحان" بفتح الراء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانىء, أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون النسم طيراً يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها". هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن, ومعنى يعلق يأكل, ويشهد له بالصحة أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك بن أنس عن الزهري, عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". وهذا إسناد عظيم ومتن قويم.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" الحديث. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام , حدثنا عطاء بن السائب قال: كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخاً أبيض الرأس واللحية على حمار, وهو يتبع جنازة فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قال: فأكب القوم يبكون, فقال: "ما يبكيكم ؟" فقالوا: إنا نكره الموت, قال: "ليس ذاك ولكنه إذا احتضر "فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم" فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل, والله عز وجل للقائه أحب " وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم " فإذا بشر بذلك كره لقاء الله والله تعالى للقائه أكره", هكذا رواه الإمام أحمد, وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه.
وقوله تعالى: "وأما إن كان من أصحاب اليمين" أي وأما إذا كان المحتضر من أصحاب اليمين "فسلام لك من أصحاب اليمين" أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة, أنت من أصحاب اليمين, وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله, كما قال عكرمة: تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين, وهذا معنى حسن, ويكون ذلك كقول الله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم " وقال البخاري "فسلام لك" أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين, وألغيت أن وبقي معناها كما تقول أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل, وقد يكون كالدعاء له كقولك سقياً لك من الرجال إن رفعت السلام, فهو من الدعاء, وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم.
وقوله تعالى: " وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم " أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى "فنزل" أي فضيافة "من حميم" وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود "وتصلية جحيم" أي وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته. ثم قال تعالى: "إن هذا لهو حق اليقين" أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحد عنه "فسبح باسم ربك العظيم" قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا موسى بن أيوب الغافقي, حدثني إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم "فسبح باسم ربك العظيم" قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت "سبح اسم ربك الأعلى" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم" وكذا رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب به, وقال روح بن عبادة: حدثنا حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة" هكذا رواه الترمذي من حديث روح, ورواه هو والنسائي أيضاً من حديث حماد بن سلمة, من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به, وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير, وقال البخاري في آخر كتابه: حدثنا أحمد بن أشكاب حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله, آخر تفسير سورة الواقعة و لله الحمد والمنة.
95- "إن هذا لهو حق اليقين" الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة، أو إلى المذكور قريباً من أحوال المتفرقين لهو حق اليقين: أي محض اليقين وخالصه، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه. قال المبرد: هو كقولك عن اليقين ومحض اليقين، هذا عند الكوفيين وجوزوا ذلك لاختلاف اللفظ، وأما البصريون فيجعلون المضاف إليه محذوفاً، والتقدير: حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين.
95- "إن هذا"، يعني ما ذكر من قصة المحتضرين، "لهو حق اليقين"، أي الحق اليقين، أضافه إلى نفسه.
95-" إن هذا " أي الذي ذكر في السورة أو في شأن الفرق . " لهو حق اليقين " أي حق الخبر اليقين .
95. Lo! this is certain truth.
95 - Verily, this is the Very Truth and Certainty.