[القمر : 49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
49 - (إنا كل شيء) منصوب بفعل يفسره (خلقناه بقدر) بتقدير حال من كل أي مقدرا وقرى كل بالرفع مبتدأ خبره خلقناه
وقوله " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يقول تعالى ذكره : إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه وفي هذا بيان أن الله جل ثناؤه توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال :
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثنا هشام بن سعد عن أبي ثابت عن إبراهيم بن محمد عن أبيه عن ابن عباس أنه كان يقول : إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم :" ذوقوا مس سقر " لأنهم كانوا يكذبون بالقدر وإني لا أراهم فلا أدري أشيء كان قبلنا أم شيء فيما بقي .
حدثنا ابن بشار و ابن المثنى قالا : ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا سفيان عن زياد ابن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة أن مشركي قريش خاصمت النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فأنزل الله " إنا كل شيء خلقناه بقدر " .
حدثنا ابن بشار و ابن المثنى و أبو كريب قالوا : ثنا وكيع بن الجراح قال : ثنا سفيان عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت " إن المجرمين في ضلال وسعر " .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا أبو عاصم عن سفيان عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن أبي هريرة بنحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا حصين عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : لما نزلت هذه الآية " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قال رجل :" يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه أو في شيء قد فرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسل اعملوا فكل ميسر لما خلق له سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى " .
حدثنا ابن أبي الشوارب قال : ثنا عبد الواحد بن زياد قال : ثنا خصيف قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : لما تكلم الناس في القدر نظرت فإذا هذه الآية أنزلت فيهم " إن المجرمين في ضلال وسعر " .. إلى قوله " خلقناه بقدر" .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عاصم و يزيد بن هارون قالا : ثنا سفيان عن سالم عن محمد بن كعب قال : ما نزلت هذه الآية إلا تعييراً لأهل القدر " ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر " .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن سالم بن أبي حفصة عن محمد ابن كعب قال : ما نزلت هذه الآية إلا تعييراً لأهل القدر .
قال : ثنا مهران عن سفيان عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " .
قال : ثنا مهران عن حازم عن أسامة عن محمد بن كعب القرظي مثله .
حدثني علي قال : ثنا ابو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قال : خلق الله الخلق كلهم بقدر وخلق لهم الخير والشر بقدر فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاء بئس الشر الشقاء .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله " كل شيء خلقناه بقدر " فقال بعض نحويي البصرة : نصب كل شيء في لغة من قال : عبد الله ضربته قال : وهي في كلام العرب كثير قال : وقد رفعت كل في لغة من رفع ورفعت على وجه آخر قال " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فجعل خلقناه من صفة الشيء وقال غيره : إنما نصب كل لأن قوله خلقناه فعل لقوله " إنا " وهو أولى بالتقديم إليه من المعفول فلذلك اختير النصب وليس قيل عبد الله في قوله : عبد الله ضربته شيء هو أولى بالفعل وكذلك إنا طعامك أكلناه الاختيار النصب لأنك تريد : إنا أكلنا طعامك الأكل أولى بأنا من الطعام قال : وأما قول من قال : خلقناه وصف للشيء فبعيد لأن المعنى : إنا خلقناه كل شيء بقدر وهذا القول الثاني أولى بالصواب عندي من الأول للعلل التي ذكرت لصاحبها .
الثانية : قوله تعالى " إنا كل شيء " قراءة العامة " كل" بالنصب وقرأ أبو السمال كل بالرفع على الابتداء ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين لأن إن تطلب الفعل فهي به أولى والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى لأنه لو حذفت "خلقناه" المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله .
الثالثة : الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه سبحانه لا إله إلا هو ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا "قال أبو ذر رضي الله عنه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فقالوا : يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا فقال: أنتم خصماء الله يوم القيامة "
الرابعة : "روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم " خرجه ابن ماجة في سننه . وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر " وأسند النحاس وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد بن ميسرة "عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني " وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر ، ثم أكد هذا بقوله :والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين : " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله " وهذا واضح و"قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن " .
يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الاراء, وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق, ثم قال تعالى: "يوم يسحبون في النار على وجوههم" أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار, وكما كانوا ضلالاً يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون, ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: "ذوقوا مس سقر". وقوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" كقوله: "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" وكقوله تعالى: " سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه, ولهذا يستدل بهذه الاية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه, وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها, وردوا بهذه الاية وبما شاكلها من الايات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية, الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة, وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلاً وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه الله, ولنذكر ههنا الأحاديث المتعلقة بهذه الاية الكريمة.
قال أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي, عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت "يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث وكيع عن سفيان الثوري به. وقال البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا الضحاك بن مخلد, حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ما نزلت هذه الايات "إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" إلا في أهل القدر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي, حدثني قرة بن حبيب عن كنانة, حدثني جرير بن حازم عن سعيد بن عمرو بن جعدة, عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الاية "ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" قال: "نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله".
وحدثنا الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج, عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم, وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له قد تكلم في القدر, فقال: أوقد فعلوها ؟ قلت: نعم, قال: فوالله ما نزلت هذه الاية إلا فيهم "ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر" أولئك شرار هذه الأمة, فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم, إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين. وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر وفيه مرفوع فقال: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا الأوزاعي عن بعض إخوته عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس قال: قيل له إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر, فقال: دلوني عليه وهو أعمى, قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس ؟ قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه, ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن مشركات, هذا أول شرك هذه الأمة, والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً, كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً" ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن الأوزاعي عن العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد فذكر مثله لم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد: حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثني أبو صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه. فكتب إليه عبد الله بن عمر أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر, فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر" ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به.
وقال أحمد: حدثنا أنس بن عياض, حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة مجوس, ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر, إن مرضوا فلا تعودوهم, وإن ماتوا فلا تشهدوهم" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه. وقال أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا رشدين عن أبي صخر حميد بن زياد عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صخر حميد بن زياد به, وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن الطباع, أخبرني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم, عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم منفرداً به من حديث مالك.
وفي الحديث الصحيح "استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل, ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك, ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك جفت الأقلام وطويت الصحف" وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سوار, حدثنا الليث عن معاوية عن أيوب بن زياد, حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة, حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي, فقال: أجلسوني, فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك, يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار.
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البلخي عن أبي داود الطيالسي عن عبد الواحد بن سليم عن عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال: حسن صحيح غريب. وقال سفيان الثوري عن منصور عن ربعي بن خراش, عن رجل عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله بعثني بالحق, ويؤمن بالبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر خيره وشره" وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به, ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن علي فذكره وقال: هذا عندي أصح, وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك عن منصور عن ربعي عن علي به. وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانىء الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" زاد ابن وهب "وكان عرشه على الماء" ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
وقوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه, كما أخبرنا بنفوذ قدره فيهم فقال: "وما أمرنا إلا واحدة" أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إلى تأكيد بثانية, فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلاً موجوداً كلمح البصر, لا يتأخر طرفة عين, وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قولة فيكون
وقوله تعالى: "ولقد أهلكنا أشياعكم" يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل "فهل من مدكر" أي فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب, كما قال تعالى: "وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل" وقوله تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر" أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام "وكل صغير وكبير" أي من أعمالهم "مستطر" أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك, سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير, حدثني عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً" ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني, وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر. ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنباً فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان:
لا تحقرن من الذنـــوب صغيـــــراً إن الصغير غداً يعود كبيــرا
إن الصغير ولو تقــــــادم عهــــده عند الإله مسطراً تسطيـــــرا
فازجر هواك على البطالة لا تكـن صعب القياد وشمرن تشميرا
إن المحـــــــــب إذا أحب إلهـــــه طار الفؤاد وألهم التفكيــــرا
فاسأل هدايتـــــــك الإلـــه بنيـــــة فكفى بربك هادياً ونصيـــرا
وقوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر" أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار على وجوههم, مع التوبيخ والتقريع والتهديد. وقوله تعالى: "في مقعد صدق" أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده وإحسانه "عند مليك مقتدر" أي عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها. وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" انفرد بإخراجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة بإسناده مثله.
آخر تفسير سورة اقتربت ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
49- " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال . وقرأ أبو السماك بالرفع ، والمعنى : أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبسا بقدر قدره وقضاء قضاه سبق في علنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، والقدر التقدير ، وقد قدمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى .
49. " إنا كل شيء خلقناه بقدر "، أي: ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ، قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له.
أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أخبرنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي ، أخبرنا أبو [معشر] يعقوب بن عبد الجليل بن يعقوب ، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أخبرنا أحمد بن نصر النيسابوري ، أخبرنا عبد الله بن الوليد العدني ، أخبرنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال: جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية: " إن المجرمين في ضلال وسعر " إلى قوله: " إنا كل شيء خلقناه بقدر ".
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي الخدشاهي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن [الحبلى] عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء ".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاووس اليماني قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (( كل شيء بقدر الله ))، قال وسمعت عبد الله بن [عمر] رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز ".
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا يعلى بن عبيد ، [وعبيد الله] بن موسى و أبو نعيم عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر زاد [عبيد الله] خيره وشره ".
ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال: عن ربعي عن علي ولم يقل: عن رجل، وهذا أصح.
49-" إنا كل شيء خلقناه بقدر " أي إنا خلقنا كل شيء مقدراً مرتباً على مقتضى الحكمة ، أو مقدراً مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده ، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبراً لا نعتاً ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر ، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإضمار لما فيه من النصوصية على المقصود .
49. Lo! We have created every thing by measure.
49 - Verily, all things have We created in proportion and measure.