[الذاريات : 23] فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
23 - (فورب السماء والأرض إنه) ما توعدون (لحق مثل ما أنكم تنطقون) برفع مثل صفة وما مزيدة وبفتح اللام مركبة مع ما المعنى مثل نطقكم في حقيقته أي معلوميته عندكم ضرورة صدوره عنكم
يقول تعالى ذكره مقسماً لخلقه بنفسه : فورب السماء والأرض إن الذي قلت لكم أيها الناس أن في السماء رزقكم وما توعدون لحق كما حق أنكم تنطقون .
وقد حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا ابن أبي عدي عن خوف عن الحسن في قوله " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه " وقال الفراء : للجميع بين ما وإن في هذا الموضع وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك نظير جمع العرب بين الشيئين من الأسماء والأدوات كقول الشاعر في الأسماء :
من النفر اللائي الذين إذا هم يهاب اللئام حلقه الباب قعقعوا
فجمع بين اللائي والذين وأحدهما مجزئ من الآخر وكقول الآخر في الأدوات :
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب
فجمع بين ما وبين إن وهما جحدان يجزئ أحدهما من الآخر وأما الآخر فهو : لو أن ذلك أفرد بما ، لكان خبراً عن انه حق لا كذب وليس ذلك المعنى به وإنما أريد به : إنه لحق كما حق أن الآدمي ناطق ألا ترى أن قولك : أحق منقطك معناه : أحق هو أم كذب وأن قولك أحق أنك تنطق معناه للاستثبات لا لغيره فأدخلت أن ليفرق بها بين المعنيين قال : فهذا أعجب الوجهين إلي .
واختلفت القراء في قراءة قوله " مثل ما أنكم " فقرأ ذلك عامة قرأء المدينة والبصرة " مثل ما " نصباً بمعنى : إنه لحق حقاً يقيناً كأنهم وجهوها إلى مذهب المصدر وقد يجوز أن يكون نصبها من أجل أن العرب تنصبها بها الاسم فتقول : مثل من عبد الله ، وعبد الله مثلك ، وأنت مثله ومثله رفعاً ونصباً وقد يجوز أن يكون نصبها على مذهب المصدر إنه لحق كنطقكم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض أهل البصرة رفعاً " مثل ما أنكم " على وجه النعت للحق .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مسفيضتان في قرأة الأمصار متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
قوله تعالى " فورب السماء والأرض إنه لحق " أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله " مثل ما أنكم تنطقون " وخص النطق من بين سائر الحواس ، لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه ، كالذي يرى في المرآة واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها والدوي والطنين في الأذن ، والنطق سالم من ذلك ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به وقال بعض الحكماء : كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره .
وقال الحسن : بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى " فورب السماء والأرض إنه لحق " وقال الأصمعي أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه ، فدنا وسلم وقال : ممن الرجل قلت من بني أصمع قال أنت أصمعي قلت نعم قال ومن أين أقبلت قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت نعم قال فاتل علي منه شيئا فقرأت "والذاريات ذروا" إلى قوله "وفي السماء رزقكم" فقال : يا أصمعي حسبك ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها وقال أعني على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول : "وفي السماء رزقكم وما توعدون " فمقت نفسي ولمتها ثم حججت مع الرشيد فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر ، فسلم علي وأخذ بيدي وقال : اتل علي كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام فقرأت "والذاريات " حتى وصلت إلى قوله تعالى "وفي السماء رزقكم وما توعدون " فقال الأعرابي لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا ، وقال وهل غير هذا قلت نعم يقول الله تبارك وتعالى "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " قال فصاح الأعرابي وقال يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه وقال يزيد بن مرثد إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به فشبع وروي من غير طعام ولا شراب . و"عن أبي سعيد الخدري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت " أسنده الثعلبي وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا :" دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه ، لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله " وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله ، فخرجت عليهم أعرابية فقالت : مالي أراكم قد نكستم رؤوسكم وضاقت صدوركم هو ربنا والعالم بنا ، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء ثم أنشأت تقول :
لو كان في صخرة في البحر راسية صما ململمة ملسا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع قوله تعالى " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب وقد ذكرناه في سورة هود وقال لقمان " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة " وقد مضى في لقمان وقد استوفينا هذا الباب في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ) والحمد لله . وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء ، وهو فراغ القلب مع الرب رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه .
قوله تعالى" مثل ما أنكم تنطقون " قراءة العامة مثل بالنصب أي كمثل "ما أنكم " فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم وما زائدة قاله بعض الكوفيين . وقال الزجاج والفراء يجوز أن ينتصب على التوكيد أي لحق حقا مثل نطقك فكأنه نعت لمصدر محذوف وقول سيبويه إنه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن وما زائدة للتوكيد . المازني مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك . واختاره أبو عبيدوأبو حاتم قال : ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا فتقول قال لي رجل مثلك ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل وقرأ أبو بكر وحمزة و الكسائيوالأعمش مثل بالرفع على أنه صفة لحق لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة إذ لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين ومثل مضاف إلى أنكم وما زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معها تكون معه مصدرا . ويجوز أن تكون بدلا من لحق .
يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله عز وجل أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال. وقوله تعالى: " آخذين ما آتاهم ربهم " قال ابن جرير: أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض "إنهم كانوا قبل ذلك محسنين" أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضاً, ثم روي عن ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن أبي عمر عن مسلم البطين, عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: " آخذين ما آتاهم ربهم " قال: من الفرائض "إنهم كانوا قبل ذلك محسنين" قبل الفرائض يعملون, وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد رواه عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان, عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, والذي فسر به ابن جرير فيه نظر, لأن قوله تبارك وتعالى آخذين حال من قوله في جنات وعيون, فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ماآتاهم ربهم, أي من النعيم والسرور والغبطة, وقوله عز وجل: "إنهم كانوا قبل ذلك" أي في الدار الدنيا "محسنين" كقوله جل جلاله: "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا: "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" اختلف المفسرون في ذلك على قولين: (أحدهما) أن "ما" نافية تقديره كانوا قليلاً من الليل لا يهجعونه, قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً, وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل, إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد: قل ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون, وكذا قال قتادة, وقال أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة, (والقول الثاني) أن "ما" مصدرية تقديره كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم, واختاره ابن جرير.
وقال الحسن البصري "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله, ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر, وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" كانوا لا ينامون إلا قليلاً ثم يقول: لست من أهل هذه الاية. وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة, فإذا قوم قد باينونا بوناً بعيداً, إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون, وعرضت عملي على عمل أهل النار, فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله, مكذبون بالبعث بعد الموت, فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوماً فقال: "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم, فقال له أبي رضي الله عنه: طوبى لمن رقد إذا نعس واتقى الله إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه, فكنت فيمن انجفل, فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب, فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس أطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وأفشوا السلام, وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها" فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لمن هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لمن ألان الكلام, وأطعم الطعام, وبات لله قائماً والناس نيام" وقال معمر في قوله تعالى: "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" كان الزهري والحسن يقولان كانوا كثيراً من الليل ما يصلون, وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" ما ينامون. وقال الضحاك " إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا " ثم ابتدأ فقال: " من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون " وهذا القول فيه بعد وتعسف.
وقوله عز وجل: "وبالأسحار هم يستغفرون" قال مجاهد وغير واحد: يصلون وقال آخرون: قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الأسحار كما قال تبارك وتعالى: "والمستغفرين بالأسحار" فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير, فيقول هل من تائب فأتوب عليه, هل من مستغفر فأغفر له, هل من سائل فيعطى سؤله ؟ حتى يطلع الفجر" وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخباراً عن يعقوب أنه قال لبنيه "سوف أستغفر لكم ربي" قالوا أخرهم إلى وقت السحر.
وقوله تبارك وتعالى: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة فقال: "وفي أموالهم حق" أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم. أما السائل فمعروف وهو الذي يبتدىء بالسؤال, وله حق كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى, عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس" ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به. ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وروي من حديث الهرماس بن زياد مرفوعاً, وأما المحروم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم, يعنى لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها, وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه, وقال الضحاك: هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب, قضى الله تعالى له ذلك. وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل, فقال رجل من الصحابة رضي الله عنهم: هذا المحروم وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وعطاء بن أبي رباح: المحروم المحارف. وقال قتادة والزهري: المحروم الذي لا يسأل الناس شيئاً.
قال الزهري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان, ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه" وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر. وقال سعيد بن جبير: هو الذي يجيء وقد قسم المغنم فيرضخ له. وقال محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في طريق مكة, فجاء كلب, فانتزع عمر رضي الله عنه كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم, وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم, واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله, سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها. وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا, فجاءه قوم لم يشهدوا الغنيمة, فنزلت هذه الاية "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" وهذا يقتضي أن هذه مدنية وليس كذلك بل هي مكية شاملة لما بعدها, وقوله عز وجل: "وفي الأرض آيات للموقنين" أي فيها من الايات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار, واختلاف ألسنة الناس وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى, وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات والسعادة والشقاوة, وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه, ولهذا قال عز وجل: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة.
ثم قال تعالى: "وفي السماء رزقكم" يعنى المطر "وما توعدون" يعني الجنة, قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد. وقال سفيان الثوري: قرأ واصل الأحدب هذه الاية "وفي السماء رزقكم وما توعدون" فقال: ألا إني أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئاً, فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب, وكان له أخ أحسن نية منه, دخل معه فصارتا دوخلتين, فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت وقوله تعالى: "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون" يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة, وهو حق لا مرية فيه, فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون, وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك ههنا, قال مسدد عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن البصري قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن فذكره مرسلاً.
ثم أقسم سبحانه بنفسه فقال: 23- "فورب السماء والأرض إنه لحق" أي ما أخبركم به في هذه الآيات. قال الزجاج: هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات. قال الكلبي: يعني ما قص في الكتاب. وقال مقاتل: يعني من أمر الساعة. وقيل إن ما في قوله: "وما توعدون" مبتدأ وخبره فورب السماء والأرض إنه لحق، فيكون الضمير لما. ثم قال سبحانه "مثل ما أنكم تنطقون" قرأ الجمهور بنصب "مثل" على تقدير: كمثل نطقكم، وما زائدة، كذا قال بعض الكوفيون إنه منصوب بنزع الخافض. وقال الزجاج والفراء. يجوز أن ينتصب على التوكيد: أي لحق حقاً مثل نطقكمظ. وقال المازني: إن مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح. وقال سيبويه: هو مبني لإضافته إلى غير متمكن، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والأعمش "مثل" بالرفع على أنه صفة لحق، لأن مثل نكرة وإن أضيفت فهي لا تتعرف بالإضافة كغير. ورجح قول المازني أبو علي الفارسي، قال ومثله قول حميد:
وويحاً لمن لم يدر ما هن ويحما
فبني ويح مع ما ولم يلحقه التنوين، ومعنى الآية تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك هاهنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك هاهنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري والدارقطني في الأفراد والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: "والذاريات ذرواً" قال: الرياح "فالحاملات وقراً" قال: السحاب "فالجاريات يسراً" قال: السفن "فالمقسمات أمراً" قال: الملائكة. وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه وابن عساكر عن عمر بن الخطاب مثله ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده أبو بكر بن سبرة هو لين الحديث، وسعيد بن سلام وليس من أصحاب الحديث، كذا قال البزار. قال ابن كثير: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر. وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس مثل قول علي. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس "والسماء ذات الحبك" قال: حسنها واستواؤها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه في الآية قال: ذات البهاء والجمال وإن بنيانها كالبرد المسلسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن منيع عن علي قال: هي السماء السابعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "يؤفك عنه من أفك" قال: يضل عنه من ضل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً " قتل الخراصون " قال : لعن المرتابون . وأخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: هم الكهنة "الذين هم في غمرة ساهون" قال: في غفلة لاهون. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الغمرة الكفر والشك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: في ضلالتهم يتمادون، وفي قوله: "يوم هم على النار يفتنون" قال: يعذبون. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: " آخذين ما آتاهم ربهم " قال: الفرائض "إنهم كانوا قبل ذلك محسنين" قال: قبل أن تنزل الفرائض يعملون. وأخرج هؤلاء أيضاً والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" قال: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في الآية يقول: قليلاً ما كانوا ينامون. وأخرج أبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس في الآية قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر "وبالأسحار هم يستغفرون" قال: يصلون. وأخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس "في أموالهم حق" قال: سوى الزكاة يصل بها رحماً أو يقري بها ضيفاً أو يعين بها محروماً. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: السائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس له سهم من فيء المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، فأمر الله المؤمنين برفده. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية. قالت: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وأخرج الترمذي والبيهقي في سننه عن فاطمة بنت قيس "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قال: إن في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية "ليس البر أن تولوا وجوهكم" إلى قوله: "وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة"". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الزبير في قوله: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" قال: سبيل الغائط والبول.
23. " فورب السماء والأرض إنه لحق "، أي: ما ذكرت من أمر الرزق لحق، " مثل "، قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر وعاصم: (( مثل )) برفع اللام بدلاً من (( الحق )) وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل، " ما أنكم تنطقون "، فتقولون: لا إله إلا الله. وقيل: شبه تحقق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي، كما تقول: إنه لحق كما أنت هاهنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى: إنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قال بعض الحكماء: يعني: كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره.
23-" فورب السماء والأرض إنه لحق " وعلى هذا فالضمير لـ" ما " وعلى الأول يحتمل أن يكون له ولما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد . " مثل ما أنكم تنطقون " أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في تحقيق ذلك ، ونصبه على الحال من المستكن في لحق أو الوصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقاً مثل نطقكم .وقيل إنه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت بمعنى شيء ، وإن بما في حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على أنه صفة " لحق " ، ويؤيده قراءة حمزة و الكسائي و أبي بكر بالرفع .
23. And by the Lord of the heavens and the earth, it is the truth, even as (it is true) that ye speak.
23 - Then, by the Lord of heaven and earth, this is the very Truth, as much as the fact that ye can speak intelligently to each other.