[المائدة : 87] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
87 - ونزل لما همَّ قوم من الصحابة أن يلازموا الصوم والقيام ولا يقربوا النساء والطيب ولا يأكلوا اللحم ولا يناموا على الفراش (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا) تتجاوزوا أمر الله (إن الله لا يحب المعتدين)
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا الآية روى الترمذي وغيره عن ابن عباس ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم فأنزل الله يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ان عباس ابن رجالا من الصحابة منهم عثمان بن مظعون حرموا النساء واللحم على أنفسهم وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكي تنقطع الشهوة عنهم ويتفرغوا للعبادة فنزلت
وأخرج نحوه ذلك من مرسل عكرمة وأبي قلابة ومجاهد وأبي مالك والنخعي والسدي وغيرهم وفي رواية السدي انهم كانوا عشرة منهم ابن مظعون وعلي ابن أبي طالب وفي رواية عكرمة منهم ابن مظعون
وعلي وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالم مولى أبي حذيفة وفي رواية مجاهد منهم ابن مظعون وعبد الله بن عمر
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق السدي الصغير عن الكلبي إن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة منهم أو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسود وسالم مولى أبي حذيفة توافقوا أن يجبوا أنفسهم ويعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما ويلبسوا المسوح ولا يأكلون من الطعام الا قوتا وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان فنزلت وروى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفه انتظارا له فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي فقالت امرأته هو علي حرام فقال الضيف هو علي حرام فلما رأى ذلك وضع يده وقال كلوا بسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ثم أنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله، "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، يعني بـ الطيبات، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إياها، كالذي فعله القسيسون والرهبان، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم، وساح في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدوا حد الله الذي حد لكم فيما أحل لكم وفيما حرم عليكم، فتجاوزوا حده الذي حده، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحب من اعتدى حده الذي حده لخلقه، فيما أحل لهم وحرم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا عبثر أبو زبيد قال، حدثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين، حرموا عليهم النساء، وامتنعوا من الطعام الطيب، وأراد بعضهم أن يقطع ذكره، فنزلت هذه الآية.
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني خالد الحذاء، عن عكرمة قال: كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالاً أرادوا كذا وكذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختصوا، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" إلى قوله: "الذي أنتم به مؤمنون".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن إبراهيم: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: كانوا حرموا الطيب واللحم، فأنزل الله تعالى هذا فيهم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا خالد، عن عكرمة: أن أناساً قالوا: لا نتزوج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا! فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجوا، واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. قال: ونزلت فيهم: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلوا من الدنيا، ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً".
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية، ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في ديني ترك النساء واللحم، ولا اتخاذ الصوامع"، وخبرنا "أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا، فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم: أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ألم أنبا أنكم اتفقتم على كذا؟ قالوا: بلى! يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير! قال: لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، وكان في بعض القراءة: "من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل سواء السبيل". وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناس من أصحابه: "إن من قبلكم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدور والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم".
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف. فقال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خفنا إن لم نحدث عملاً! فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم، فنحن نحرم! فحرم بعضهم أكل اللحم والودك، وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء. "فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأته عائشة، وكان يقال لها الحولاء، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تطيبين؟ فقالت: وكيف أتطيب وأمتشط، وما وقع علي زوجي، ولا رفع عني ثوباً، منذ كذا وكذا! فجعلن يضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قال: يا رسول الله، الحولاء، سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة! وقص عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك! فقال: يا رسول الله، إني صائم! قال: أفطر! فأفطر وأتى أهله. فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت، وتطيبت، فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام حرموا النساء، والطعام ، والنوم ؟ ألا إفي أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"! فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا"، يقول لعثمان: لا تجب نفسك. فإن هذا هو الاعتداء، وأمرهم أن يكفروا أيمانهم، فقال: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" [المائدة: 89].
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: هم رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر ذلك لهم فقالوا: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو من، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني".
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أب ، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، "وذلك أن رجالاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرموا النساء واللحم على أنفسهم، وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم؟ لكي تنقطع الشهوة ويتفرغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أردت ؟ فقالوا: أردنا أن تنقطع الشهوة عنا، ونتفرغ لعبادة ربنا، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوج النساء! فقالوا: نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم". فأنزل الله تعالى ذكره: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"إلى قوله: "الذي أنتم به مؤمنون".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجال، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يتبتلوا، ويخصوا أنفسهم، ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"، قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحاب، تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام والثياب إلا ما أكل ولبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالإخصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد: ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيام الليل، وما هموا به من الإخصاء. فلما نزلت فيهم، "بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لأنفسكم حقا، لان لأعينكم حقا! صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا! فقالوا: اللهم أسلمنا واتبعنا ما أنزلت"! -حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال، قال أبي: "ضاف عبد الله بن رواحه ضيف، فانقلب ابن رواحه ولم يتعش، فقال لأهله: ما عشيته؟ فقالت: كان الطعام قليلا، فانتظرت أن تأتي! قال: فحبست ضيفي من أجلي! فطعامك علي حرام إن ذقته! فقالت هي: وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف: هو علي حرام إن ذقته إن لم تذوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحه: قربي طعامك، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحسنت" فنزلت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وقرأ حتى بلغ: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، إذا قلت: والله لا أذوقه، فذلك العقد.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد قال، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت من اللحم انتشرت، وأخذتني شهوتي، فحرمت اللحم؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: هم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك النساء والخصاء، فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية.
واختلفوا في معنى الاعتداء الذي قال تعالى ذكره: "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
فقال بعضهم: الاعتداء الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون هم به من جب نفسه، فنهي عن ذلك، وقيل له: هذا هو الاعتداء. وممن قال ذلك السدي.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عنه.
وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستنوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عنه.
وقال بعضهم: بل ذلك نهي من الله تعالى ذكره أن يتجاوز الحلال إلى الحرام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا"، قال: لا تعتدوا إلى ما حرم عليكم.
وقد بينا أن معنى الاعتداء تجاوز المرء ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك- وكان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: "لا تعتدوا"، النهي عن العدوان كله- كان الواجب أن يكون محكوماً لما عمه بالعموم حتى يخصه ما يجب التسليم له. وليس لأحد أن يتعدى حد الله تعالى في شيء من الأشياء مما أحل أو حرم، فمن تعداه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره: "إن الله لا يحب المعتدين".
وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهط الذين هموا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هموا به من تحريم بعض ما أحل الله لهم على أنفسهم، ويكون مراداً بحكمها كل من كان في مثل معناهم ممن حرم على نفسه ما أحل الله له، أو أحل ما حرم الله عليه، أو تجاوز حداً حده الله له. وذلك أن الذين هموا بما هموا به من تحريم بعض ما أحل لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما هموا به من تجاوزهم ما سن لهم وحد، إلى غيره.
فيه خمس مسائل:
الأولى- أسند الطبري إلى ابن عباس: أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية وقيل:
إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وابن مسعود وعبد الله بن عمرو و وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقدام بن مظعون واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحون في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي
الثانية - خرج مسلم "عن أنس .
أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم : لا أنام على الفراش فحمد الله وأثنى عليه فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وخرجه البخاري عن أنس أيضاً ولفظه قال:
"جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها -فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدأ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأففر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وخرجا "عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان بن مظعون أن يتبل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم" ولو أجاز له ذلك لاختصينا خرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده قل حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه قال : فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا قال: لو أني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل فأتاه فقال : "يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعث بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته وستين سنة" .
قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه وحاد عن تحقيقه قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء ما أحله الله لعباده وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون إذ كان خير الهدي هدي نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس كذلك تبين حله وأثر كل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء قال الطبري: فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته وقد جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال : إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال : يقول لا يؤدي شكره فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ فقال نعم: فقال: إن جارك جاهل فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج قال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا إذا كان الدين قواماً ولم يكن المال حراماً فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل وترك اللذات أولى وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى قال المهلب: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار ، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل .
الرابعة -قوله تعالى :" ولا تعتدوا" قيل: المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين، أي لا تشددوا فتحرموا حلالاً ولا تترخصوا فتحلوا حراما قاله الحسن البصري وقيل: معناه التأكيد لقوله :" تحرموا " قاله السدي وعكرمة وغيرهما أي التي تحرموا ما احل الله وشرع والأول أولى والله أعلم
الخامسة -من حرم على نفسه طعاماً أو شراباً أو أمة له، أو شيئاً مما أحل الله فلا شيء عليه ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك إلا أنه إن نوى بتحريم الأمة عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثاً وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحاً وكناية ، وحرام من كنايات الطلاق وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة التحريم إن شاء الله تعالى ، وقال أبو حنيفة: إن من حرم شيئاً صار محرماً عليه وإذا تناوله لزمته الكفارة وهذا بعيد والآية ترد عليه وقال سعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قالوا: نقطع مذاكيرنا, ونترك شهوات الدنيا, ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك, فقالوا: نعم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لكني أصوم وأفطر, وأصلي, وأنام, وأنكح النساء, فمن أخذ بسنتي فهو مني, ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني" رواه ابن أبي حاتم, وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك, وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على الفراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا, لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري, حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, عن عثمان يعني ابن سعيد, أخبرني عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء, وإني حرمت علي اللحم, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم". وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعاً عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم النبيل به. وقال, حسن غريب. وقد روي من وجه آخر مرسلاً, وروي موقوفاً على ابن عباس, فالله أعلم. وقال سفيان الثوري ووكيع عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم, عن عبد الله بن مسعود, قال: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء, فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل, ثم قرأ عبد الله "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية, أخرجاه من حديث إسماعيل, وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة, والله أعلم .
وقال الأعمش, عن إبراهيم, عن همام بن الحارث, عن عمرو بن شرحبيل, قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني حرمت فراشي, فتلا هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية. وقال الثوري, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, قال: كنا عند عبد الله بن مسعود, فجيء بضرع فتنحى رجل, فقال له عبد الله: ادن, فقال: إني حرمت أن آكله, فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفر عن يمينك, وتلا هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الاية: رواهن ابن أبي حاتم, وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه من طريق إسحاق بن راهويه, عن جرير, عن منصور به، ثم قال: على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله, وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم, ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له, فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو علي حرام, فقالت امرأته: هو علي حرام. وقال الضيف: هو علي حرام, فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا باسم الله, ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم, ثم أنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" وهذا أثر منقطع .
وفي صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه شبيه بهذا, وفيه وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه, ولا كفارة عليه أيضاً, ولقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" ولأن الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة, وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً أو شيئاً من الأشياء, فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين, كما إذا التزم تركه باليمين, فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه, كما أفتى بذلك ابن عباس, وكما في قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم ", ثم قال "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" الاية, وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم, عقبه بالاية المبينة لتكفير اليمين, فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير, والله أعلم .
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا, ويخصوا أنفسهم, ويلبسوا المسوح, فنزلت هذه الاية إلى قوله "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون". قال ابن جريج, عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا, فجلسوا في البيوت, واعتزلوا النساء, ولبسوا المسوح, وحرموا طيبات الطعام واللباس, إلا ما يؤكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل, وهموا بالاختصاء, وأجمعوا لقيام الليل, وصيام النهار, فنزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" يقول لا تسيروا بغير سنة المسلمين, يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس, وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار, وما هموا به من الاختصاء, فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن لأنفسكم حقاً, وإن لأعينكم حقاً, صوموا وأفطروا, وصلوا وناموا, فليس منا من ترك سنتنا" فقالوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت .
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة, ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك, ولله الحمد والمنة. وقال أسباط عن السدي في قوله "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً فذكر الناس, ثم قام ولم يزدهم على التخويف, فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملاً, فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم, فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك, وأن يأكل بالنهار, وحرم بعضهم النوم, وحرم بعضهم النساء, فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه, فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء, فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا حولاء متغيرة اللون, لا تمتشطين ولا تتطيبين ؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي, وما وقع عني ثوباً منذ كذا وكذا. قال: فجعلن يضحكن من كلامها, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن, فقال "ما يضحككن ؟" قالت: يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها. فقالت: ما وقع عني زوجي ثوباً منذ كذا وكذا, فأرسل إليه فدعاه فقال "مالك يا عثمان ؟" قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة, وقص عليه أمره, وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك". فقال: يا رسول الله إني صائم. فقال "أفطر" فأفطر وأتى أهله, فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت, فضحكت عائشة وقالت: مالك يا حولاء ؟ فقالت: إنه أتاها أمس .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم, ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء, فمن رغب عني فليس مني" فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" يقول لعثمان: لا تجب نفسك, فإن هذا هو الاعتداء, وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان", رواه ابن جرير. وقوله تعالى: "ولا تعتدوا" يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم, كما قاله من قاله من السلف, ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال, بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه: كما قال تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" الاية, وقال "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه, لا إفراط ولا تفريط, ولهذا قال "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" ثم قال "وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً" أي في حال كونه حلالاً طيباً "واتقوا الله" أي في جميع أموركم, واتبعوا طاعته ورضوانه, واتركوا مخالفته وعصيانه "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون".
الطيبات: هي المستلذات مما أحله الله لعباده، نهى الذين آمنوا عن أن يحرموا على أنفسهم شيئاً منها، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرباً إليه، وأنه من الزهد في الدنيا لرفع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئاً مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم: حرام علي وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني. قال ابن جرير الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون.
فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء. قال: فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة. فقد ظن خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته. قوله: "ولا تعتدوا" أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحل الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم: أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة. وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما: إن من حرم شيئاً صار محرماً عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله. وقوله: "إن الله لا يحب المعتدين" تعليل لما قبله، وظاهره إنه تحريم كل اعتداء: أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور.
88- " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " ، قال عبد الله بن المبارك : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطيب ما غذى وأنمى ، فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي .
" واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا أبو عيسى أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدروقي و سلمة بن شبيب و محمود بن غيلان قالوا : أخبرنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل" ) .
87" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك والاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراماً فقال: " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن التحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما. "روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً وبالغ في إنذارهم، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالون صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إني لم أمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" فنزلت.
87. O ye who believe! Forbid not the good things which Allah hath made lawful for you, and transgress not. Lo! Allah loveth not transgressors.
87 - O ye who believe make not unlawful the good things which God hath made lawful for you, but commit no excess: for God loveth not those given to excess.