[المائدة : 84] وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ
84 - (و) قالوا في جواب من عيرهم بالإسلام من اليهود (ما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق) القرآن أي لا مانع لنا من الإيمان مع وجود مقتضيه (ونطمع) عطف على نؤمن (أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) المؤمنين الجنة
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه، آمنوا به وصدقوا كتاب الله، وقالوا: "ما لنا لا نؤمن بالله"، يقول: لا نقر بوحدانية الله، "وما جاءنا من الحق"، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمع بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.
يعني بـ"القوم الصالحين"، المؤمنين بالله، المطيعين له، الذين استحقوا من الله الجنة بطاعتهم إياه.
وإنما معنى ذلك: ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جناته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين"، قال: القوم الصالحون، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله تعالى :" وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق " بين استبصارهم في الدين أي يقولون وما لنا لا نؤمن، أي وما لنا تاركين الإيمان ف نؤمن في موضع نصب على الحال " ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله " أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " [الأنبياء: 105] يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الكلام إضمار أي نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة وقيل: مع بمعنى في كما تذكر وفي بمعنى مع تقول: كنت فيمن لقي الأمير أي مع من لقي الأمير والطمع يكون مخففاً وغير مخفف يقال: طمع طمعاً وطماعةً وطماعية مخفف فهو طمع .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن, بكوا حتى أخضلوا لحاهم, وهذا القول فيه نظر, لأن هذه الآية مدنية, وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة . وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته, فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا, ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. قال السدي: فهاجر النجاشي فمات بالطريق. وهذا من أفراد السدي, فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة, وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات, وأخبر به أصحابه, وأخبر أنه مات بأرض الحبشة. ثم اختلف في عدة هذا الوفد, فقيل: اثنا عشر: سبعة قساوسة وخمسة رهابين. وقيل: بالعكس. وقيل: خمسون. وقيل: بضع وستون. وقيل: سبعون رجلاً, فالله أعلم وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيس ابن مريم, فلما رأوا المسلمين, وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا, واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة, سواء كانوا من الحبشة أو غيرها .
فقوله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم, ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة, وسموه وسحروه, وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن محمد بن السري, حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرقي, حدثنا علي بن سعيد العلاف, حدثنا أبو النضر عن الأشجعي, عن سفيان, عن يحيى بن عبد الله, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ماخلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله", ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري, حدثنا أحمد بن أيو ب الأهوازي, حدثنا فرج بن عبيد, حدثنا عباد بن العوام عن يحيى بن عبد الله, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ماخلا يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله", وهذا حديث غريب جداً .
وقوله تعالى: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة, وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة, كما قال تعالى "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية" وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعاً في ملتهم, ولهذا قال تعالى: "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون" أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم, واحدهم قسيس وقس أيضاً, وقد يجمع على قسوس, والرهبان جمع راهب, وهو العابد, مشتق من الرهبة, وهي الخوف, كراكب وركبان, وفرسان. قال ابن جرير: وقد يكون الرهبان واحداً وجمعه رهابين, مثل قربان وقرابين, وجردان وجرادين, وقد يجمع على رهابنة, ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا بشر بن آدم. حدثنا نصير بن أبي الأشعث, حدثني الصلت الدهان عن جاثمة بن رئاب, قال: سألت سلمان عن قول الله تعالى "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً" فقال: دع القسيسين في البيع والخرب, أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً", وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الخاني عن نضير بن زياد الطائي, عن صلت الدهان, عن جاثمة بن رئاب, عن سلمان به. قال ابن أبي حاتم: ذكره أبي, حدثنا يحيى بن عبد الحميد الخاني, حدثنا نضير بن زياد الطائي, حدثنا صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب قال: سمعت سلمان وسئل عن قوله "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً" فقال هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب فدعوهم فيها, قال سلمان: وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم "ذلك بأن منهم قسيسين" فأقرأني "ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً" فقوله "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون" تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع, ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف, فقال "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم "يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.
وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفلاس, عن عمر بن علي بن مقدم, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله "فاكتبنا مع الشاهدين" أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته هم الشاهدون, يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ, وللرسل أنهم قد بلغوا, ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه .
وقال الطبراني, حدثنا أبو شبيل عبد الله بن عبد الرحمن بن واقد, حدثنا أبي, حدثنا العباس بن الفضل عن عبد الجبار بن نافع الضبي, عن قتادة, وجعفر بن إياس عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قول الله تعالى: "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع" قال: إنهم كانوا كرابين يعني فلاحين, قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة, فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن, آمنوا وفاضت أعينهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم" فقالوا: لن ننتقل عن ديننا, فأنزل الله ذلك من قولهم " وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله" الآية, وهم الذين قال الله فيهم "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين" إلى قوله "لا نبتغي الجاهلين" ولهذا قال تعالى ههنا: "فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار" أي فجزاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق "جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون "وذلك جزاء المحسنين" أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان, ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا" أي جحدوا بها وخالفوها, "أولئك أصحاب الجحيم" أي هم أهلها والداخلون فيها .
قوله: 84- "وما لنا لا نؤمن بالله" كلام مستأنف، والاستفهام للاستبعاد "ولنا" متعلق بمحذوف، و "لا نؤمن" في محل نصب في الحال، والتقدير: أي شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق؟ والمعنى: أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع وجود المقتضى له، وهو الطمع في إنعام الله، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعاً كقوله تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقاراً"، والواو في "ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين" للحال أيضاً بتقدير مبتدأ: أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين؟ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في "لنا" وعاملهما الفعل المقدر: أي حصل، ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في "نؤمن" والتقدير: وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين.
85- " فأثابهم الله " ، أعطاهم الله ، " بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " ، وإنما انجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص ، بدليل قوله : " وذلك جزاء المحسنين " ، يعني : الموحدين المؤمنين ، وقوله من قبل : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ، يدل على أن الأخرص والمعرفة بالقلب مع القول يكون إيماناً .
84" وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين، والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم أمنتم؟ و "لا نؤمن" حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين. أو بكتابه ورسوله فإن الإيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئة وتعظيماً، ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف، والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عمال الأولى مقيداً بها أو نؤمن.
84. How should we not believe in Allah and that which hath come unto us of the Truth. And (how should we not) hope that our Lord will bring us in along with righteous folk?
84 - What cause can we have not to believe in God and the truth which has come to us, seeing that we long for our lord to admit us to the company of the righteous?