[المائدة : 64] وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
64 - (وقالت اليهود) لما ضيق عليهم بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا أكثر الناس مالا (يد الله مغلولة) مقبوضة عن إدرار الرزق علينا كنوا به عن البخل تعالى الله عن ذلك قال تعالى (غُلَّت) أمسكت (أيديهم) عن فعل الخيرات دعاء عليهم (ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) مبالغة في الوصف بالجود وثني اليد لإفادة الكثرة إذ غاية ما يبذله السخي من ماله أي يعطي بيديه (ينفق كيف يشاء) من توسيع وتضييق لا اعتراض عليه (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك) من القرآن (طغيانا وكفرا) لكفرهم به (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) فكل يوم فرقة منهم تخالف الأخرى (كلما أوقدوا نارا للحرب) أي لحرب النبي صلى الله عليه وسلم (أطفأها الله) أي كلما أرادوه ردهم (ويسعون في الأرض فسادا) أي مفسدين بالمعاصي (والله لا يحب المفسدين) بمعنى أنه يعاقبهم
قوله تعالى وقالت اليهود الآية أخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رجل من اليهود له النباش بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله وقالت اليهود يد الله مغلولة الآية وأخرج بو الشيخ من وجه آخر عنه قال نزلت وقالت اليهود يد الله مغلولة في فنحاص راس يهود قينقاع
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم ، ووصفهم إياه بما ليس من صفته ، توبيخاً لهم بذلك ، وتعريفاً منه نبيه صلى الله عليه وسلم قديم جهلهم واغترارهم به ، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم ، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم، واحتجاجاً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبي مبعوث ورسول مرسل: أن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفي علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلاً عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتاباً، ولا وعوا من علوم أهل الكتاب علماً، فأطلع الله على ذلك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم.
يقول تعالى ذكره: "وقالت اليهود"، من بني إسرائيل ، "يد الله مغلولة"، يعنون : أن خير الله ممسك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" [الإسراء: 29].
وإنما وصف تعالى ذكره (اليد) بذلك ، والمعنى العطاء، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضاً، إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل:
يداك يدا مجد، فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى (اليد). ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال: "وقالت اليهود يد الله مغلولة"، يعني بذلك : أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يفضل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف ، تعالى الله عما قالوا، أعداء الله! فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم: "غلت أيديهم"، يقول : أمسكت أيديهم عن الخيرات ، وقبضت عن الانبساط بالعطيات، "ولعنوا بما قالوا"، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك، "بل يداه مبسوطتان"، يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين، "ينفق كيف يشاء"، يقول : يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتر عليه.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "يد الله مغلولة"، قالوا: لقد تجهدنا الله -أي: جهدنا الله- يا بني إسرائيل ، حتى جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "يد الله مغلولة"، قال : اليهود تقوله : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، حتى إن يده إلى نحره، "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" إلى "والله لا يحب المفسدين"، أما قوله: "يد الله مغلولة"، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله : "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، قالوا: إن الله وضع يده على صدره ، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا.
وأما قوله: "ينفق كيف يشاء"، يقول : يرزق كيف يشاء.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة: "وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية، نزلت في فنحاص اليهودي.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قوله: "يد الله مغلولة"، يقولون : إنه بخيل ليس بجواد! قال الله : "غلت أيديهم"، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء". وقال: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" [الإسراء: 29]، يقول : لا تمسك يدك عن النفقة.
قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: "بل يداه مبسوطتان". فقال بعضهم: عني بذلك: نعمتاه. وقال: ذلك بمعنى: (يد الله على خلقه)، وذلك نعمه عليهم . وقال : إن العرب تقول : (لك عندي يد)، يعنون بذلك : نعمة.
وقال آخرون منهم : عني بذلك القوة . وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي" [ص: 45].
وقال آخرون منهم : بل (يده)، ملكه . وقال : معنى قوله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة"، ملكه وخزائنه.
قالوا: وذلك كقول العرب للملوك : (هو ملك يمينه)، و (فلان بيده عقدة نكاح فلانة)، أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره: "فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" [المجادلة: 12].
وقال آخرون منهم : بل "يد الله" صفة من صفاته ، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا: وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصه آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده.
قالوا: ولو كان معنى اليد، النعمة، أو القوة، أو الملك ، ما كان لخصوصه آدم بذلك وجه مفهوم ، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ، ومشيئته في خلقه نعمة، وهو لجميعهم مالك.
قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده ، كان معلوماً أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال: معنى اليد من الله ، القوة والنعمة أو الملك ، في هذا الموضع.
قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن: "يد الله" في قوله: "وقالت اليهود يد الله مغلولة"، هي نعمته ، لقيل : بل يده مبسوطة، ولم يقل : بل يداه، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [إبراهيم: 34 - النحل: 18].
قالوا: ولو كانت نعمتين ، كانتا محصاتين.
قالوا: فإن ظن ظان أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره : "والعصر* إن الإنسان لفي خسر" [العصر: 1- 2]، وكقوله "لقد خلقنا الإنسان" [الحجر: 26]، وقوله: "وكان الكافر على ربه ظهيرا" [الفرقان: 55]، قال : فلم يرد بـ الإنسان و الكافر في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدى عن جنسه ، كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس، وكذلك قوله: "وكان الكافر" [الفرقان: 55]، معناه : وكان الذين كفروا.
قالوا: فأما إذا ثنى الاسم ، فلا يؤدي عن الجنس ، ولا يؤدي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما.
قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم.
قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما.
قالوا: وغير محال: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس ، وما أكثر الدراهم في أيديهم ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.
قالوا: ففي قول الله تعالى: "بل يداه مبسوطتان"، مع إعلامه عبادة أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع -ما ينبئ عن خطا قول من قال: معنى اليد، في هذا الموضع، النعمة- وصحة قول من قال: إن "يد الله"، هي له صفة.
قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفي أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم ، احتجاجاً عليهم لصحة نبوتك ، وقطعاً لعذر قائل منهم أن يقول: "ما جاءنا من بشير ولا نذير" [المائدة: 19]: "وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا". يعني بـ الطغيان: الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك، "وكفرا"، يقول: ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك، جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل ، ويقولوا: "يد الله مغلولة". وإنما أعلم تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتو وتمرد على ربهم ، وأنهم لا يذعنون لحق وإن علموا صحته ، ولكنهم يعاندونه ، يسلي بذلك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عن الموجدة بهم في ذهابهم عن الله ، وتكذيبهم إياه.
وقد بينت معنى الطغيان فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا"، حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوباً عندهم.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، بين اليهود والنصارى ، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، اليهود والنصارى.
فإن قال قائل : وكيف قيل : "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، جعلت الهاء والميم في قوله: "بينهم"، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟.
قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله : "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض" [المائدة: 51]، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين ، وفي بعض عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، ثم قصد بقوله: "ألقينا بينهم"، الخبر عن الفريقين.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم ، شتته الله عليهم وأفسده ، لسوء فعالهم وخبث نياتهم ، كالذي:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله: "لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم" [الإسراء: 4 - 6]، قال: كان الفساد الأول ، فبعث الله عليهم عدواً فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء ، واستعبدوا الولدان ، وخربوا المسجد. فغبروا زماناً، ثم بعث الله فيهم نبياً وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بخت نصر، فقتل من قتل منهم ، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفساد الثاني -قال: والفساد المعصية- ثم قال، "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة" إلى قوله: "وإن عدتم عدنا" [الإسراء: 7-8]. فبعث الله لهم عزيراً، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم . فقام بها ذلك القرن ، ولبثوا فنسوا. ومات عزير، وكانت أحداث، ونسوا العهد وبخلوا ربهم ، وقالوا: "يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، وقالوا في عزير: إن الله اتخذه ولداً، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح ، فخالفوا ما نهوا عنه ، وعملوا بما كانوا يكفرون عليه ، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدو آخر الدهر، فقال: "كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين"، فبعث الله عليهم المجوس الثالثة أرباباً، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم، وهم يقولون : يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا، عسى الله أن يفكنا به من المجوس والعذاب الهون! فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم -واسمه محمد، واسمه في الإنجيل أحمد- فلما جاءهم وعرفوا كفروا به ، قال : "فلعنة الله على الكافرين" [البقرة: 89]، وقال: "فباءوا بغضب على غضب" [البقرة: 90].
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله"، هم اليهود.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا"، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله"، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله، وأطفأ حدهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب.
وقال مجاهد بما:
حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: "كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله"، قال: حرب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله ، فيكفرون بآياته ، ويكذبون رسله ، ويخالفون أمره ونهيه ، وذلك سعيهم فيها بالفساد، "والله لا يحب المفسدين"، يقول: والله لا يحب من كان عاملاً بمعاصيه في أرضه.
قوله تعالى :" وقالت اليهود يد الله مغلولة " قال عكرمة: إنما قال هذا فنخاص بن عازرواء لعنه الله وأصحابه وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قل مالهم: فقالوا : إن الله بخيل ويد الله مقبوضة عنا في العطاء فالآية خاصة في بعضهم وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا وقيل: إنها لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" [البقرة: 245] ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا: إن إله محمد فقير وربما قالوا: بخيل ، وهذا معنى قولهم : " يد الله مغلولة " فهو على التمثيل كقوله :" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك "[الإسراء: 29] ويقال للبخيل : جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكز الأصابع، ومغلول اليد قال الشاعر:
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جعداً أنامله كأنما وجهه بالخل منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى :" وخذ بيدك ضغثا " [ص:44] وهذا محال على الله تعالى ، وتكون للنعمة تقول العرب : كم يدي لي عند فلان أي كم من نعمة لي قد أسديتها له، وتكون للقوة قال الله عز وجل " واذكر عبدنا داود ذا الأيد "[ص: 17] أي ذا القوة وتكون للملك والقدرة قال الله تعالى : " قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " [آل عمران: 73] وتكون بمعنى الصلة قال الله تعالى :" مما عملت أيدينا أنعاما" [يس: 71] أي مما عملنا نحن وقال :" أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " [البقرة: 237] أي الذي له عقدة النكاح، وتكون بمعنى التأييد والنصرة، ومنه "قوله عليه السلام :
يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم، حتى يقسم " وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه تشريفاً له وتكريماً، قال الله تعالى :" يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " [ص: 75] فلا يجوز أن يحمل على الجارحة لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض ولا على القوة والملك والنعمة والصلة، لأن الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم وعده إبليس ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه لبطلان معنى التخصيص فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفاً له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة، ومثله ما روى أنه عز اسمه وتعالى علاه وجده أنه كتب التوراة بيده وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها .
قوله تعالى :" غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" حذفت الضمة من الياء لثقلها أي غلت في الآخرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا " ولعنوا بما قالوا" والمقصود تعليمنا كما قال : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " [الفتح : 27] علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله : " تبت يدا أبي لهب " [المسد:1] وقيل : المراد أنهم أبخل الخلق فلا ترى يهوداً غير لئيم وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو أي قالوا : يد الله مغلولة وغلت أيديهم واللعن الإبعاد وقد تقدم .
قوله تعالى :" بل يداه مبسوطتان " ابتداء وخبر، أي بل نعمته مبسوطة فاليد بمعنى النعمة قال بعضهم هذا غلط لقوله : بل يداه مبسوطتان فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد فيكون مثل "قوله عليه السلام:
مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين "فأحد الجنسين نعمة الدنيا والثاني نعمة الآخرة وقيل نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة كما قال: "وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " [لقمان : 20] وروى ابن عباس "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه :
النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك والباطنة ما ستر عليك من سيء عملك " وقيل نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما وقيل: إن النعمة للمبالغة كقول العرب : لبيك وسعديك وليس يريد الاقتصار على مرتين وقد يقول القائل: مالي بهذا الأمر يد أي قوة قال السدي: معنى قوله : يداه قوتان بالثواب والعقاب بخلاف ما قلت اليهود: إن يده مقبوضة عن عذابهم وفي صحيح مسلم "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إن الله تعالى قال لي أنفق عليك " و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمنه -قال- وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" السح الصب الكثير ويغيض ينقص ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره: "والله يقبض ويبسط "[البقرة : 245] وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود بل يداه بسطان حكاه الأخفش، وقال يقال: يد بسطه أن منطلقة منبسطة "ينفق كيف يشاء" أي يرزق كما يريد ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة أي قدرته شاملة فإن شاء وسع وإن شاء قتر " وليزيدن كثيرا منهم " لام قسم " ما أنزل إليك من ربك" أي بالذي أنزل إليك " طغيانا وكفرا " أي إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم " وألقينا بينهم " قال مجاهد: أي بين اليهود والنصارى لأنه قال قبل هذا " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" وقيل: أي ألقينا بين طوائف اليهود كما قال : "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " [الحشر: 14] فهم متباغضون غير متفقين ، فهم أبغض خلق الله إلى الناس : " كلما أوقدوا نارا للحرب" يريد اليهود و كلما ظرف أي كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم وقيل: إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله -التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا ناراً أي أهاجوا شراً وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم " أطفأها الله " وقرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار قال قتادة : أذلهم الله جل وعز، فلقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس، ثم قال عز وجل: "ويسعون في الأرض فسادا" أي يسعون في إبطال الإسلام، ذلك من أعظم الفساد والله أعلم وقيل: المراد بالنار هنا نار الغضب، أي كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم .
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل, كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا "يد الله مغلولة". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس "مغلولة" أي بخيلة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "وقالت اليهود يد الله مغلولة" قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك, وقرأ "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير, وهو زيادة الإنفاق في غير محله, وعبر عن البخل بقوله "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله, وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي, عليه لعنة الله, وقد تقدم أنه الذي قال "إن الله فقير ونحن أغنياء" فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق, فأنزل الله "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه, فقال "غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" وهكذا وقع لهم, فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم, كما قال تعالى: " أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " الآية, وقال تعالى: "ضربت عليهم الذلة" الآية .
ثم قال تعالى: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" أي بل هو الواسع الفضل, الجزيل العطاء, الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه, وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له, الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه, في ليلنا ونهارنا, وحضرنا وسفرنا, وفي جميع أحوالنا, كما قال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" والآيات في هذا كثيرة, وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى: أنفق, أنفق عليك" أخرجاه في الصحيحين, البخاري في التوحيد عن علي بن المديني, ومسلم فيه عن محمد بن رافع, كلاهما عن عبد الرزاق به .
وقوله تعالى: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم, فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً, يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً, وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء, وكفراً أي تكذيباً, كما قال تعالى: "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" وقال تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً", وقوله تعالى: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً, لأنهم لا يجتمعون على حق, وقد خالفوك وكذبوك, وقال إبراهيم النخعي: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء", قال: الخصومات والجدال في الدين, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها, وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها, أبطلها الله ورد كيدهم عليهم, وحاق مكرهم السيء بهم "ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين" أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض, والله لا يحب من هذه صفته, ثم قال جلا وعلا: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم "لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود, "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم" قال ابن عباس وغيره: هو القرآن, "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير, لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم, فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة .
وقوله تعالى: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لأكلوا من فوقهم" يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً, "ومن تحت أرجلهم" يعني يخرج من الأرض بركاتها, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي, كما قال تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" الآية .
وقال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية, وقال بعضهم معناه "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه, ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف .
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" حديث علقمة عن صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يوشك أن يرفع العلم" فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله, وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة, أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى, فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله" ثم قرأ "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقاً من أول إسناده مرسلاً في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلاً موصولاً, فقال: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد, عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, فقال "وذاك عند ذهاب العلم" قال: قلنا: يا رسول الله, وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن, ونقرئه أبناءنا, وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد, إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة, أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء" هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع بإسناده نحوه, هذا إسناد صحيح .
وقوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" كقوله "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" وكقوله عن أتباع عيسى "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" الآية, فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين, كما في قوله عز وجل: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها " الآية, والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة, وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا أحمد بن يونس الضبي, حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر, عن يعقوب بن يزيد بن طلحة, عن زيد بن أسلم, عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار, وواحدة في الجنة, وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة, وإحدى وسبعون منها في النار, وتعلو أمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة, وثنتان وسبعون في النار" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال "الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً, قال "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" إلى قوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" وتلا أيضاً قوله تعالى: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق, وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة, وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة .
قوله: 64- "يد الله مغلولة" اليد عند العرب تطلق على الجارحة، ومنه قوله تعالى: "وخذ بيدك ضغثاً" وعلى النعمة، يقولون كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة، ومنه قوله تعالى: "قل إن الفضل بيد الله" أو على التأييد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع القاضي حين يقضي" وتطلق على معان أخر. وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازاً، ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف، ومنه قول الشاعر:
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جعـــــداً أناملـه كأنما وجهه بالخــــل منضــوح
فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل، فأجاب سبحانه عليهم بقوله: "غلت أيديهم" دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقوله: "يد الله مغلولة" ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة، ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهودياً، وإن كان ماله في غاية الكثرة، إلا وهو من أبخل خلق الله، وأيضاً المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله. قوله: "ولعنوا بما قالوا" معطوف على ما قبله والباء سببية: أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم: "يد الله مغلولة"، ثم رد سبحانه بقوله: "بل يداه مبسوطتان" أي بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام: أي كلا ليس الأمر كذلك "بل يداه مبسوطتان" وقيل المراد بقوله: "بل يداه مبسوطتان" نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة، وقيل نعمة المطر والنبات، وقيل الثواب والعقاب. وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان: أي منطلقتان كيف يشاء. قوله: "ينفق كيف يشاء" جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه: أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى. قوله: "وليزيدن كثيراً منهم" إلخ، اللام هي لام القسم: أي ليزيدن كثيراً من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة "طغياناً وكفراً" أي طغياناً إلى طغيانهم وكفراً إلى كفرهم. قوله: "وألقينا بينهم" أي بين اليهود "العداوة والبغضاء" أو بين اليهود والنصارى. قوله: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" أي كلما جمعوا للحرب جمعاً وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم، وذهب بريحهم فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها، ثم يبطل الله ذلك، والآية مشتملة على استعارة بليغة، وأسلوب بديع "ويسعون في الأرض فساداً" أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد، ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله، وقيل المراد بالنار هنا الغضب: أي كلما أثاروا في أنفسهم غضباً أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم. قوله: "والله لا يحب المفسدين" إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه.
64- قوله تعالى ، " وقالت اليهود يد الله مغلولة "، قال ابن عباس و عكرمة و الضحاك و قتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا لله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، أي : محبوسة مقبوضة عن الرزق نسبوه إلى البخل،تعالى الله عن ذلك .
قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها .
وقال الحسن : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما تبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل. والأول أولى لقوله: ينفق كيف يشاء .
" غلت أيديهم "، أي : [ أمسكت ] أيديهم عن الخيرات .وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال: أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة. وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة، كقوله تعالى: " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " ( غافر، 71 ) . " ولعنوا " ، عذبوا، " بما قالوا "، فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة و المسكنة في الآخرة بالنار ، " بل يداه مبسوطتان " ، ويد الله صفة من [ صفاته ] كالسمع ، والبصر والوجه، وقال جل ذكره : " لما خلقت بيدي " ( ص،75 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلتا يديه يمين "، والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم.
وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : أمروها كما جاء بلا كيف.
" ينفق "، يرزق، " كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً "، أي : كلما نزلت آية كفروا بها وازدادوا طغياناً وكفراً ، [كلما نزلت آية ]" وألقينا بينهم العداوة والبغضاء "، يعني : بين اليهود والنصارى، قاله الحسن و ومجاهد :وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين " إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " يعني : اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فبعث الله طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين.
وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه ، هذا معنى قول الحسن وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في بلد إلا وجدتهم من أذل الناس، " ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ".
64"وقالت اليهود يد الله مغلولة" أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها كجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
ونظيره من المجازات المركبة: شابت لمة الليل. وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى: " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ". " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك: سبني سب الله دابره. "بل يداه مبسوطتان" ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتاً لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه، وتنبيهاً على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإكرام. "ينفق كيف يشاء" تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته، لا على تعاقب وسعة وضيق في ذات يد، ولا يجوز جعله حالاً من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها، ولا من اليدين غذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك. والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وأشرك فيه الأخرون لأنهم رضوا بقوله: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغياناً وكفراً بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم. " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين، وللحرب صفة أوقدوا أو صفة ناراً. "ويسعون في الأرض فساداً" أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم. "والله لا يحب المفسدين" فلا يجازيهم إلا شراً.
64. The Jews say: Allah's hand is fettered. Their hands are fettered and they are accursed for saying so. Nay, but both His hands are spread out wide in bounty. He bestoweth as He will. That which bath been revealed unto thee from thy Lord is certain to increase the contumacy and disbelief of many of them, and We have cast among them enmity and hatred till the Day of Resurrection. As often as they light a fire for war, Allah extinguisheth it. Their effort is for corruption in the land, and Allah loveth not corrupters.
64 - The Jews say: God's hand is tied up. be their hands tied up and be they accursed for the (blasphemy) they utter nay, both his hands are widely outstretched: he giveth and spendeth (of his bounty) as he pleaseth but the revelation that cometh to thee from God increaseth in most of them their obstinate rebellion and blasphemy. amongst them we have placed enmity. and hatred till the day of judgment. every time they kindle the fire of war, God doth extinguish it; but they (ever) strive to do mischief on earth. and God loveth not those who do mischief.