[المائدة : 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
3 - (حرمت عليكم الميتة) أي أكلها (والدم) أي المسفوح كما في الأنعام (ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) بأن ذبح على اسم غيره (والمنخنقة) الميتة خنقاً (والموقوذة) المقتولة ضرباً (والمتردية) الساقطة من علو إلى أسفل فماتت (والنطيحة) المقتولة بنطح أخرى لها (وما أكل السبع) منه (إلا ما ذكيتم) أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه (وما ذبح على) اسم (النصب) جمع نصاب وهي الأصنام (وأن تستقسموا) تطلبوا القسم والحكم (بالأزلام) جمع زَلَم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام ، قِدح بكسر القاف صغير لا ريش له ولا نصل وكانت سبعة عند سادن الكعبة عليها أعلام وكانوا يحكمونها فإن أمرتهم ائتمروا وإن نهتهم انتهوا (ذلكم فسق) خروج عن الطاعة ، ونزل يوم عرفة عام حجة الوداع: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) أن ترتدوا عنه بعد طمعهم في ذلك لما رأوا من قوته (فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم) أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام (وأتممت عليكم نعمتي) بإكماله وقيل بدخول مكة آمنين (ورضيت) أي اخترت (لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة) مجاعة إلى أي أكل شيء مما حرم عليه فأكله (غير متجانف) مائل (لإثم) معصية (فإن الله غفور) له ما أكل (رحيم) به في إباحته بخلاف المائل لإثم أي المتلبس به كقاطع الطريق والباغي مثلا فلا يحل له الأكل
قوله تعالى حرمت عليكم الميتة الآية أخرج ابن مندة في كتاب الصحابة من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة فأنزل تحريم الميتة فأكفأت القدر
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : حرم الله عليكم ، أيها المؤمنون ، الميتة.
و"الميتة": كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكلها، أهليها ووحشيها، فارقتها روحها بغير تذكية.
وقد قال بعضهم : "الميتة"، هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية، مما أحل الله أكله.
وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك ، في كتابنا كتاب لطيف القول في الأحكام.
وأما الدم ، فإنه الدم المسفوح ، دون ما كان منه غير مسفوح ، لأن الله جل ثناؤه قال : "قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " [الأنعام:145]، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم ، كالكبد والطحال ، وما كان فى اللحم غير منسفح ، فإن ذلك غير حرام ، لإجماع الجميع على ذلك.
وأما قوله : "ولحم الخنزير"، فإنه يعني : وحرم عليكم لحم الخنزير، أهليه وبريه.
فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم ، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه ، وباطنه كظاهره ، حرام جميعه ، لم يخصص منه شيء.
وأما قوله : "وما أهل لغير الله به"، فإنه يعني : وما ذكر عليه غير اسم الله.
وأصله من استهلال الصبي ، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه . ومنه إهلال المحرم بالحج ،إذا لبى به ، ومنه قول ابن أحمر:
يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
وإنما عنى بقوله : "وما أهل لغير الله به"، وما ذبح للآلهة وللأوثان، يسمى عليه غير اسم الله.
وبالذي قلنا في ذلك اقال أهل التأويل ، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى ، فكرهنا إعادته.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة الانخناق الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله : والمنخنقة.
فقال بعضهم بما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "والمنخنقة " قال : التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة، فتختنق فتموت.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك في المنخنقة، قال : التي تختنق فتموت.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله : "والمنخنقة‎"، التي تموت في خناقها.
وقال آخرون : هى التي توثق فيقتلها بالخناق وثاقها.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "والمنخنقة"، قال : الشاة توثق ، فيقتلها خناقها، فهي حرام.
وقال آخرون : بل هي البهيمة من النعم ، كان المشركون يخنقونها حتى تموت ، فحرم الله أكلها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "والمنخنقة" التي تخنق فتموت.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "والمنخنقة"، كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها.
وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : هي التي تختنق ، إما في وثاقها، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه ، فتختنق حتى تموت .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره ، لأن المنخنقة، هي الموصوفة بالانخناق ، دون خنق غيرها لها، ولو كان معنياً بذلك أنها مفعول بها، لقيل : والمخنوقة، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : والموقوذة، والميتة وقيذاً.
يقال منه : وقذه يقذه وقذاً ، إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك ، ومنه قواط الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكار
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس : "والموقوذة"، قال : الموقوذة، التي تضرب بالخشب حتى توقذ بها فتموت.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "والموقوذة"، كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي ، حتى إذا ماتت أكلوها.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة في قوله : "والموقوذة"، قال : كانوا يضربونها حتى يقذوها، ثم يأكلونها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "والموقوذة"، التي توقذ فتموت.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبوخالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال : الموقوذة ، التي تضرب حتى تموت.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "والموقوذة"، قال : هي التي تضرب فتموت.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "والموقوذة"، كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم ، حتى يقتلوها فيأكلوها.
حدثنا العباس بن الوليد قال ، أخبرني عقبة بن علقمة ، حدثني إبراهيم بن أبي عبلة قال ، حدثني نعيم بن سلامة، عن أبي عبد الله الصنابحي قال : ليست الموقوذة إلا في مالك ، وليس في الصيد وقيذ.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : وحرمت عليكم الميتة تردياً من جبل أو في بئر، أو غير ذلك.
و ترذيها، رميها بنفسها من مكان عال مشرف إلى سفله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "والمتردية"، قال : التي تتردى من الجبل.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "والمتردية"، كانت تتردى في البئر فتموت ، فيأكلونها.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "المتردية"، قال : التي تردت في البئر.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : "والمتردية "، قال : هي التي تردى من الجبل ، أو في البئر، فتموت.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبوخالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: المتردية ، التي تردى من الجبل فتموت.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "والمتردية"، قال: التي تخر في ركي ، أو من رأس جبل ، فتموت.
قال أبو جعفر: يعني بقوله : النطيحة ، الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغيرتذكية. فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين ، إن لم يدركوا ذكاته قبل موته.
وأصل النطيحة ، المنطوحة ، صرفت من مفعولة إلى فعيلة.
فإن قال قائل : وكيف أثبتت الهاء هاء التأنيث فيها ، وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت الهاء في نظائرها إذا صرفوها صرف النطيحة من مفعول إلى فعيل ، إنما تقول : لحية دهين وعين كحيل وكف خضيب ، ولا يقولون : كف خضيبة، ولا عين كحيلة؟
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك - فقال بعض نحويي البصرة : أثبتت فيها الهاء، أعني في النطيحة -لأنها جعلت كالاسم مثل : الطويلة و الطر يقة.
فكأن قائل هذا القول ، وجه النطيحة إلى معنىالناطحة.
فتأويل الكلام على مذهبه : وحرمت عليكم الميتة نطاحاً ، كأنه عنى : حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها.
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما تحذف العرب الهاء من الفعيلة المصروفة عن المفعول ، إذا جعلتها صفة لاسم قد تقدمها ، فتقول : رأينا كفا خضيباً ، وعيناً كحيلاً. فأما إذا حذفت الكف و العين، والاسم الذي يكون فعيل نعتاً لها ، واجتزأوا بـ فعيل منها ، أثبتوا فيه هاء التانيث ، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر، فتقول : رأينا كحيلةً وخضيبة و أكيلة السبع قالوا : ولذلك أدخلت الهاء في النطيحة ، لأنها صفة المؤنث ، ولو أسقطت منها لم يدر أهي صفة مؤنث أو مذكر.
وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب ، لشائع أقوال أهل التأويل ، بأن معنى : النطيحة ، المنطوحة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله : "والنطيحة"، قال : الشاة تنطح الشاة.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال : كان يقرأ : والمنطوحة .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبوخالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك : "والنطيحة"، الشاتان ينتطحان فيموتان.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "والنطيحة"، هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت.
يقول : هذا حرام ، لأن ناساً من العرب كانوا يأكلونه.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "والنطيحة"، كان الكبشان ينتطحان ، فيموت أحدهما ، فيأكلونه.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "والنطيحة"، الكبشان ينتطحان ، فيقتل أحدهما الآخر، فيأكلونه.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك ، يقول في قوله : "والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة فتموت.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وما أكل السبع"، وحرم عليكم ما أكل السبع غيرالمعلم من الصوائد.
وكذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "وما أكل السبع " يقول : ما أخذ السبع.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك : "وما أكل السبع " ، يقول : ما أخذ السبع.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة: "وما أكل السبع"، قال : كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئاً من هذا أو أكل منه ، أكلوا ما بقي.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس أنه قرأ: وأكيل السبع.
قال أبو جعفر: يعنى جل ثناؤه بقوله : "إلا ما ذكيتم"، إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً.
ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله : "إلا ما ذكيتم".
فقال، بعضهم: استثني من جميع ما سمى الله تحريمه من قوله : "وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع".
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس : "إلا ما ذكيتم"، يقول : ما أدركت ذكاته من هذا كله ، يتحرك له ذنب ، أوتطرف له عين ، فاذبح واذكر اسم الله عليه ، فهو حلال.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ". قال الحسن : أي هذا أدركت ذكاته فذكه وكل. فقلت : يا أبا سعيد، كيف أعرف ؟ قال : إذا طرفت بعينها، أوضربت بذنبها.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "إلا ما ذكيتم"، قال : فكل هذا الذي سماه الله عزو جل ههنا ، ما خلا لحم الخنزير ، إذا أدركت منه عينا تطرف ، أوذنبا يتحرك ، أو قائمة تركض ، فذكيته ، فقد أحل الله لك ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "إلا ما ذكيتم"، من هذا كله. فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرك أذنها من هذا كله ، فهي لك حلال.
حدثنا القاسم قال، حدتنا الحسين قال، حدثني هشيم وعباد قالا، أخبرنا حجاج ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهى تحرك يداً أو رجلاً، فكلها.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا معمر، عن إبراهيم قال : إذا أكل السبع من الصيد، أو الوقيذة أو النطيحة أو المتردية ، فأدركت ذكاته ، فكل.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن سلام التميمي قال ، حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال : إذا ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، وحركت ذنبها، فقد أجزأ.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه قال : إذ ذبحت فمصعت بذنبها، أو تحركت ، فقد حلت لك ، أو قال : فحسبه.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن قال : إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصع بذنبها، فاذبح وكل.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن قتادة، بمثله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير: أنه سمع عبيد بن عمير يقول : إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذنبها، أو تحركت ، فقد حلت لك.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : كان أهل الجاهلية يأكلون هذا ، فحرم الله في الإسلام إلا ما ذكي منه ، فما أدرك فتحرك منه رجل أوذنب أو طرف ، فذكي ، فهو حلال.
حدثني يونس فقال ، أخيرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير "، وقوله: "والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة"، الآية "وما أكل السبع إلا ما ذكيتم". قال : هذا كله محرم ، إلا ما ذكي من هذا.
فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرمت الموقوذة والمتردية ، إن ماتت من التردي والوقذ والنطح وفرس السبع ، إلا أن تدركوا ذكاتها، فتدركوها قبل موتها، فيكون حينئذ حلالاً أكلها.
وقال آخرون : هو استثناء من التحريم ، وليس باستثناء من المحرمات التي ذكرها الله تعالى في قوله : "حرمت عليكم الميتة"، لأن الميتة لا ذكاة لها، ولا للخنزير. قالوا: وإنما معنى الآية : حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك ، إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية، فإنه لكم حلال.
وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة.
ذكر بعض من قال ذلك:
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال ، قال مالك ، وسئل عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها، فقال مالك : لا أرى أن تذكى، ولا يؤكل أي شيء يذكى منها.
حدثني يونس، عن أشهب قال : سئل مالك عن السبع يعدو على الكبش فيدق ظهره ، أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ قال :إن كان بلغ السحر، فلا أرى أن يؤكل، وإن كان إنما أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأساً. قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ قال : لا يعجبني أن يؤكل ، هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال : إذا شق بطنها، فلا أرى أن تؤكل.
وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله : "إلا ما ذكيتم"، استثناءً منقطعاً.
فيكون تأويل الآية : حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب ، القول الأول ، وهو أن قوله : "إلا ما ذكيتم"، استثناء من قوله : " وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع "، لأن كل ذلك مستحق الصفة التي هو بها قبل حال موته، فيقال لما قرب المشركون لآلهتهم فسموه لهم : هو "ما أهل لغير الله به"، بمعنى سمي قرباناً لغير الله. وكذلك المنخنقة ، إذا انخنقت وإن لم تمت ، فهي منخنقة. وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله : "وما أهل لغير الله به"، إلا بالتذكية، فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته ، فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة، دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفاً.
فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية: وحرم عليكم ما أهل لغير الله به والمنخنقة وكذا وكذا وكذا، إلا ما ذكيتم من ذلك.
فـ ما -إذكان ذلك تأويله -في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها. وقد يجوز فيه الرفع.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فكل ما أدركت ذكاته من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه ، ومفارقة روحه جسده ، فحلال أكله ، إذا كان مما أحله الله لعباده.
فإن قال لنا قائل : فإذ كان ذلك معناه عندك ، فما وجه تكريره ما كرر بقوله : "وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية"، وسائر ما عدد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله : "حرمت عليكم الميتة"؟ وقد علمت أن قوله : "حرمت عليكم الميتة"، شامل كل ميتة، كان موته حتف أنفه من علة به من غير جناية أحد عليه ، أو كان موته من ضرب ضارب إياه ، أو انخناق منه ، أو انتطاح ، أو فرس سبع ؟ وهلا كان قوله -إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك ، من أنه معني بالتحريم في كل ذلك : الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك ، دون أن يكون معنياً به تحريمه إذا تردى أو انخنق أو فرسه السبع ، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة- "حرمت عليكم الميتة"، مغنياً من تكرير ما كرر بقوله : "وما أهل لغير الله به والمنخنقة"، وسائر ما ذكر مع ذلك ، وتعداده ما عدد؟.
قيل : وجه تكراره ذلك ، وان كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف ، وقد تقدم بقوله : "حرمت عليكم الميتة"، أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا لا يعدون "الميتة" من الحيوان ، إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردي والانتطاح وفرس السبع. فأعلمهم الله أن حكم ذلك ، حكم ما مات من العلل العارضة، وأن العلة الموجبة تحريم الميتة، ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بم المعنى الذي أحلها به ، كالذي:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : "والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، يقول : هذا حرام ، لأن ناساً من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدونه ميتاً، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. فحرمه الله عليهم ، إلا ما ذكروا اسم الله عليه ، وأدركوا ذكاته وفيه الروح.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "وما ذبح على النصب"، وحرم عليكم أيضاً الذي ذبح على النصب.
فـ ما في قوله : "وما ذبح"، رفع ، عطفاً على ما التي في قوله : "وما أكل السبع". و"النصب"، الأوثان من الحجارة ، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض ، فكان، المشركون يقربون لها، ولجست بأصنام.
وكان ابن جريج يقول في صفته ما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج: "النصب" ليست بأصنام، الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة تنصب، ثلثمئة وستون حجراً ، منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذجوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت ، وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجا رة.
فقال المسلمون : يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك ، فأنزل الله : "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها" [الحج: 37].
ومما يحقق قول ابن جريج في أن الأنصاب غير الأصنام ، ما:
حدثنا به ابن وكيع قال : حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما ذبح على النصب"، قال : حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله: "النصب"، قال : حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما ذبح على النصب"، و"النصب": حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "وما ذبح على النصب"، يعني : أنصاب الجاهلية.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "وما ذبح على النصب" و"النصب" أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: "وما ذبح على النصب"، قال : كان حول الكعبة حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية ، ويبدلونها إذا شاؤوا بحجر هو أحب إليهم منها.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : الانصاب ، حجارة كانوا يهلون لها ، ويذبحون عليها.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "وما ذبح على النصب"، قال : "ما ذبح على النصب" و"ما أهل لغير الله به"، وهو واحد.
قال أبو جعفر: يعني بقوله : "وأن تستقسموا بالأزلام"، وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم ، بالأزلام.
وهو استفعلت من القسم قسم الرزق والحاجات. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو نحو ذلك، أجال القداح، وهي الأزلام وكانت قداحاً مكتوباً على بعضها : نهاني ربي ، وعلى بعضها: أمرني ربي، فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه: أمرني ربي، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك . وإن خرج الذي عليه مكتوب نهاني ربي ، كف عن المضي لذلك وأمسك، فقيل : " وأن تستقسموا بالأزلام "، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يقسمن لهم ، ومنه قول الشاعر مفتخراً بترك الاستقسام بها:
ولم أقسم فتربثني القسوم
وأما الأزلام ، فإن واحدها زلم ، ويقال : زلم ، وهي القداح التي وصفنا أمرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير: "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : القداح ، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحاً للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا. وإن وقع الجلوس جلسوا.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير: "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : حصى بيض كانوا يضربون بها.
قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع : هو الشطرنج.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عباد بن راشد البزار، عن الحسن في قوله : "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : كانوا إذا أرادوا أمراً أو سفراً ، يعمدون إلى قداح ثلاثة ، على واحد منها مكتوب : اؤمرني ، وعلى الاخر: انهني ، ويتركون الآخر محللاً بينهما ليس عليه شيء . ثم لم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه اؤمرني مضوا لأمرهم . وإن خرج الذي عليه انهني كفوا ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وأن تستقسموا بالأزلام"، حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها القداح .
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "بالأزلام"، قال: القداح، يضربون لكل سفر وغزو وتجارة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد : "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : كعاب فارس التي يقمرون بها ، وسهام العرب.
حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد : "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : سهام العرب ، وكعاب فارس والروم ، كانوا يتقامرون بها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافراً، كتب في قدح : هذا يأمرني بالمكث و هذا يامرني بالخروج ، وجعل معهما منيحة، شيء لم يكتب فيه شيئاً، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج ، فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث ، وإن خرج الذي يامر بالخروج خرج ، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "وأن تستقسموا بالأزلام"، وكان أهل الجاهلية إذا أرادوا أحدهم خروجاً، أخذ قدحاً فقال : هذا يأمر بالخروج ، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيراً، ويأخذ قدحاً آخر فيقول : هذا يأمر بالمكوث ، فليس يصيب في سفره خيراً، و المنيح بينهما. فنهى الله عن ذلك وقدم فيه.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله : "وأن تستقسموا بالأزلام" قال : كانوا يستقسمون بها في الأمور.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: الأزلام، قداح لهم. كان أحدهم إذا أراد شيئاً من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأي قدح خرج -وإن كان أبغض تلك - ارتكبه وعمل به.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وأن تستقسموا بالأزلام"، قال : الأزلام ، قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل ان يسافر، أو يتزوج أو يحدث أمراً، أتى الكاهن فأعطاه شيئاً، فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه ، أمره ففعل . وإن خرج منها شيء يكرهه ، نهاه فانتهى. كما ضرب عبد المطلب على زمزم ، وعلى عبد الله والإبل.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : سمعنا أن أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظعن والإقامة أو الشيء يريدونه ، فيخرج سهم الظعن فيظعنون ، والإقامة فيقيمون.
وقال ابن إسحاق في "الأزلام"، ما :
حدثني به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق قال :كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة . وكانت عند هبل سبعة أقدح ، كل قدح منها فيه كتاب . قدح فيه :العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ، ضربوا بالقداح السبعة، [فإن خرج العقل ، فعلى من خرج حمله]. وقدح فيه : نعم للأمر إذا أرادوه ، يضرب به ، فإن خرج قدح نعم، عملوا به . وقدح فيه : لا، فإذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح ، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه: منكم. وقدح فيه : ملصق. وقدح فيه : من غيركم . وقدح فيه المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح ، فحيثما خرج عملوا به . وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً، أو أن ينكحوا منكحاً، أو أن يدفنوا ميتاً، أو شكوا في نسب واحد منهم ، ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم ، وبجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا ، هذا فلان ابن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فيضرب . فإن خرج عليه منكم،كان وسيطاً. وإن خرج عليه : من غيركم كان حليفاً، وإن خرج ملصق كان على منزلته منهم ، لانسب له ولاحلف. وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به نعم ، عملوا به . وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى . ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله :"وأن تستقسموا بالأزلام"، يعني : القداح ، كانوا يستقسمون بها في الأمور.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "ذلكم"، هذه الأمور التي ذكرها، وذلك : أكل الميتة، والدم ، ولحم الخنزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله ، والاستقسام بالأزلام ، "فسق"، يعني : خروج عن أمر الله عز ذكره وطاعته ، إلى ما نهى عنه وزجر، إلى معصيته ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "ذلكم فسق"، يعني : من أكل من ذلك كله فهو فسق.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" ، الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود، أيها المؤمنون ، "من دينكم"، يقول : من دينكم أن تتركوه فترتدوا عنه راجعين إلى الشرك ، كما :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، يعني : أن ترجعوا إلى دينهم أبداً.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله : "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال : أظن ، يئسوا أن ترجعوا عن دينكم .
فإن قال قائل : وأي يوم هذا اليوم الذي أخبر الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين ؟.
قيل : ذكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال مجاهد: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، "اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا حين فعلت . قال ابن جريج : وقال آخرون ، ذلك يوم عرفة، في يوم جمعة، لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير إلا موحداً، ولم ير مشركاً، حمد الله ، فنزل عليه جبريل عليه السلام : "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، أن يعودوا كما كانوا.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال : هذا يوم عرفة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك : فلا تخشوا، أيها المؤمنون ، هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم ، فيقهروكم ويردوكم عن دينكم ، "واخشون"، يقول : ولكن خافون ، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي ، وتعديتم حدودي ، أن أحل بكم عقابي وأنزل بكم عذابي ، كما :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "فلا تخشوهم واخشون"، فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم .
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : يعني جل ثناؤه بقوله : "اليوم أكملت لكم دينكم"، اليوم أكملت لكم ، أيها المؤمنون ، فرائضي عليكم وحدودي وأمري إياكم ونهيي ، وحلالي وحرامي ، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي ، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي ، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم . قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع . وقالوا: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض ، ولا تحليل شيء ولا تحريمه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم"، وهو الإسلام . قال أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فيينما نحن نسير، إذ تجلى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت ، فأتيته فسجيت عليه برداء كان علي.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية، إحدى وثمانين ليلة، قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم".
حدثنا سفيان قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال : لما نزلت : "اليوم أكملت لكم دينكم"، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ! فقال : صدقت .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن أبي وكيع، عن أبيه ، فذكر نحو ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : "اليوم أكملت لكم دينكم"، حجكم ، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه ، أنتم أيها المؤمنون ، دون المشركين ، لا يخالطكم في حجكم مشرك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن أبي غنية، عن أبيه ، عن الحكم : "اليوم أكملت لكم دينكم"، قال : أكمل لهم دينهم : أن حجوا ولم يحج معهم مشرك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "اليوم أكملت لكم دينكم"، قال : أخلص الله لهم دينهم ونفى المشركين عن البيت.
حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير: "اليوم أكملت لكم دينكم"، قال : تمام الحج ، ونفي المشركين عن البيت .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام ، لإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون .
فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا؟
فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل .
وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن : "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" [النساء : 176].
ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبض ، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعاً. فإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله : "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" [النساء: 176] آخرها نزولاً، وكان ذلك من الأحكام والفرائض ، كان معلوماً أن معنى قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم"، على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله ، أعني : كمال العبادات والأحكام والفرائض.
فإن قال قائل : فما جعل قول من قال : قد نزل بعد ذلك فرض، أولى من قول من قال : لم ينزل ؟
قيل : لأن الذي قال : لم ينزل ، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض ، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال : نزل . وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقاً.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي ، أيها المؤمنون ، بإظهاركم على عدوي وعدوكم من المشركين ، ونفي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قال : كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت براءة، فنفى المشركين عن البيت ، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكان ذلك من تمام النعمة : "وأتممت عليكم نعمتي".
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" الآية، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، يوم جمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجهم.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا داود، عن الشعبي قال : نزلت هذه الآية بعرفات ، حيث هدم منار الجاهلية واضمحل الشرك، ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"، قال ، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم ، واضمحل الشرك ، ولم يطف حول البيت عريان ، فأنزل الله : "اليوم أكملت لكم دينكم".
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي ، بنحوه .
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : ورضيت لكم الاستسلام لأمري ، والانقياد لطاعتي ، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه ، "دينا"، يعني بذلك : طاعة منكم لي.
فإن قال قائل : أو ما كان الله راضياً الإسلام لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؟
قيل : لم يزل الله راضياً لخلقه الإسلام ديناً، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالاً بعد حال ، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه ، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية : "ورضيت لكم الإسلام" بالصفة التي هو بها اليوم ، والحال التي أنتم عليها اليوم منه ، "دينا" فالزموه ولا تفارقوه.
وكان قتادة يقول في ذلك ، ما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير، حتى يجيء الإسلام فيقول (رب ، أنت السلام وأنا الإسلام) ، فيقول : (إياك اليوم أقبل ، وبك اليوم أجزي).
وأحسب أن قتادة وجه معنى (الإيمان) بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان ، لأن ذلك معنى (الإيمان) عند العرب ، ووجه معنى (الإسلام) إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد، وانقياد الجسد له بالطاعة فيما أمر ونهى، فلذلك قيل للإسلام : (إياك اليوم أقبل ، وبك اليوم أجزي) .
ذكر من قال : نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال ، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيداً! فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : أنزلت يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة - قال سفيان : وأشك ، كان يوم الجمعة أم لا - "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".
حدثنا بو كريب وابن وكيع قالا، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال ، قال يهودي لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، لو نعلم ذلك اليوم ، اتخذنا ذلك اليوم عيداً! فقال عمر: قد علمت اليوم الذي نزلت فيه ، والساعة، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت : نزلت ليلة الجمعة، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات. لفظ الحديث لأبي كريب ، وحديث ابن وكيع نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جعفر بن عون ، عن أبي العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق ، عن عمر، نحوه .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة، عن عمار مولى بني هاشم قال : قرأ ابن عباس : "اليوم أكملت لكم دينكم"، وعنده رجل من أهل الكتاب فقال : لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية، لاتخذناه عيداً! فقال ابن عباس : فإنها نزلت يوم عرفة، يوم جمعة.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار: أن ابن عباس قرأ : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيداً! فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد، ويوم جمعة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا رجاء بن أبي سلمة قال ، أخبرنا عبادة بن نسي قال ، حدثنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر: إسحاق ، هو ابن خرشة - عن قبيصة قال ، قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه ! فقال عمر: أي آية يا كعب ؟ فقال : "اليوم أكملت لكم دينكم". فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه : يوم جمعة، وبوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن عيسى بن جارية الأنصاري قال : كنا جلوساً في الديوان ، فقال لنا نصراني : يا أهل الإسلام ، لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا، لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيداً ما بقي منا اثنان : "اليوم أكملت لكم دينكم"! فلم يجبه أحد منا، فلقيت محمد بن كعب القرظي ، فسألته عن ذلك فقال : ألا رددتم عليه ؟ فقال : قال عمر بن الخطاب : أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم أحد.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود، عن عامر قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، عشية عرفة، وهو في الموقف .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود قال : قلت لعامر: إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟ فقال عامر: أو ما حفظته ؟ قلت له : فأي يوم ؟ قال : يوم عرفة، أنزل الله في يوم عرفة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة قال : بلغنا أنها نزلت يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن حبيب ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قال : نزلت (سورة المائدة) يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة، عن ليث ، عن شهر بن حوشب قال : نزلت (سورة المائدة) على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته ، فتنوخت لأن يدق ذراعها.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت (سورة المائدة) جميعاً وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء. قالت : فكادت من ثقلها أن يدق عضد الناقة.
حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني قال ، حدثنا هشام بن عمار قال ، حدثنا ابن عياش قال ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: "اليوم أكملت لكم دينكم"، حتى ختمها، فقال : نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية -أعني قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم" - يوم الاثنين. وقالوا : أنزلت (سورة ا لمائدة) بالمدينة.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش ، عن ابن عباس : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت : (سورة المائدة) يوم الاثنين : "اليوم أكملت لكم دينكم"، ورفع الذكر يوم الاثنين .
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة قال : (المائدة) مدنية .
وقال آخرون : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : نزلت (سورة المائدة) على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع ، وهو راكب راحلته ، فبركت به راحلته من ثقلها.
وقال آخرون : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، وإنما معناه : اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي ، أكملت لكم دينكم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "اليوم أكملت لكم دينكم"، يقون : ليس بيوم معلوم يعلمه الناس .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القول الذي روي عن عمر بن الخطاب : أنها : نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده ، ووهي أسانيد غيره.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "فمن اضطر"، فمن أصابه ضر، "في مخمصة"، يعني : في مجاعة.
وهي (مفعلة)، مثل (المجبنة) و (المبخلة) و (المنجبة)، من (خمص البطن)، وهو اضطماره ، وأظنه هو في هذا الموضع معني به : اضطماره من الجوع وشدة السغب . وقد يكون في غير هذا الموضع اضطماراً من غير الجوع والسغب ، ولكن من خلقة، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخمص البطن :
والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعد
فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله : (خميص) بالهزال والضر من الجوع ، ولكنه أراد وصفها بلطافة طي ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها، لأن ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر من ذلك ، قول أعشى بني ثعلبة :
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
يعني بذلك : يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضر. فمن هذا المعنى قوله : "في مخمصة".
وكان بعض نحويي البصرة يقول : (المخمصة)، المصدر من (خمصه الجوع ).
وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم للمصدر، وليست بمصدر، ولذلك تقع (المفعلة) اسماً في المصادر للتأنيث والتذكير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "فمن اضطر في مخمصة"، يعني : في مجاعة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "فمن اضطر في مخمصة"، أي : في مجاعة .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله .
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "فمن اضطر في مخمصة"، قال : ذكر الميتة وما فيها، فاحلها في الاضطرار، "في مخمصة"، يقول : في مجاعة.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : "فمن اضطر في مخمصة"، قال ، المخمصة ، الجوع .
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حرمت عليه منكم ، أيها المؤمنون ، من الميتة والدم ولحم الخنزير، وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية، "غير متجانف لإثم"، يقول : لا متجانفاً لإثم.
فلذلك نصب "غير" لخروجها من الاسم الذي في قوله : "فمن اضطر"، وهي بمعنى : (لا)، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوباً (المتجانف)، لوجاء الكلام : (لا متجانفاً).
وأما (المتجانف للإثم)، فإنه المتمايل له ، المنحرف إليه . وهو في هذا الموضع مراد به المتعمد له ، القاصد إليه ، من (جنف القوم علي)، إذا مالوا. وكل أعوج فهو (أجنف)، عند العرب.
وقد بينا معنى (الجنف ) بشواهده في قوله : (فمن خاف من موص جنفاً) [البقرة : 182]، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين بهذه الآية، للإثم في حال أكله ، فهو: تعمده أكل ذلك لغير دفع الضرورة النازلة به ، ولكن لمعصية الله ، وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم"، يعني : إلى ما حرم ، مما سمى في صدر هذه الآية، "غير متجانف لإثم"، يقول : غير متعمد لإثم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم . قال : إلى حرم الله ، ما حرم . رخص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم ، أن يأكله من جهد. فمن بغى، أو عدا، أو خرج في معصية لله ، فإنه محرم عليه أن يأكله.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "غير متجانف لإثم"، أي : غير متعرض لمعصية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم ، غير متعرض.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "غير متجانف لإثم"، يقول : غير متعرض لإثم ، أي : يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "غير متجانف لإثم"، لا يأكل ذلك ابتغاء الإثم ، ولا جراءة عليه.
قال أبو جعفر: وفي هذا الكلام متروك ، اكتفي بدلالة ما ذكر عليه منه. وذلك أن معنى الكلام : فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، غير متجانف لإثم فأكله ، فإن الله له غفور رحيم ، فترك ذكر (فأكله)، وذكر (له)، لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.
وأما قوله : "فإن الله غفور رحيم"، فإن معناه : فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله ، في مخمصة، غير متجانف لإثم ، "غفور رحيم"، يقول : يستر له عن أكله ما أكل من ذلك ، بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه وعن عقوبته عليه ، "رحيم"، يقول : وهو به رفيق . ومن رحمته ورفقه به ، أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه من كلب الجوع وضر الحاجة العارضة ببدنه.
فإن قال قائل : وما الأكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرمات معها بهذه الآية، غفرانه إذا أكل منها؟
قيل: ما:
حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي قال : قلنا: يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال : إذا لم تصطبحوا،أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلاً، فشأنكم بها.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن الخصيب بن زيد التميمي قال ، حدثنا الحسن: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إلى متى يحل لي الحرام ؟ قال فقال : إلى أن يروى أهلك من اللبن ، أو تجيء ميرتهم".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا خصيب بن زيد التميمي قال ، حدثنا الحسن: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : أو تجبى ميرتهم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال ، حدثني عمر بن عبدالله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عمن حدثه: "أن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تحل لك الطيبات ، وتحرم عليك الخبائث ، إلا أن تفتقر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تستغني عنه . فقال الرجل : وما فقري الذي يحل لي ؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجاً، فتبلغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غنى تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئاً، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه . فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرويت أهلك غبوقاً من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام . وأما مالك ، فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه ، وكان فيه : ويجزي من الاضطرار غبوق أو صبوح .
حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن عون قال : قرأت في كتاب سمرة بن جندب : يكفي من الاضطرار -أو: من الضرورة - غبوق أو صبوح .
حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب قالا، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن قال : إذا اضطر الرجل إلى الميتة، أكل منها قوته ، يعني : مسكته.
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا ابن مبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : قال رجل : يا رسول الله ، إنا بأرض مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؟ ومتى تحل لنا الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بقلاً، فشأنكم بها.
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية، عن رجل قد سمي لنا: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نكون بأرض مخمصة، فمتى تحل لنا الميتة؟ قال : إذا لم تغتبقوا، ولم تصطبحوا، ولم تحتفئوا بقلاً، فشأنكم بها.
قال أبو جعفر: يروى هذا على أربعة أوجه : (تحتفئوا) بالهمزة، و (تحتفيوا) بتخفيف (الياء) و(الحاء) ، و(تحتفوا) ، بتشديد الفاء ، و(تحتفوا) بالحاء ، والتخفيف ، ويحتمل الهمز.
فيه ست وعشرون مسألة :
الأولى - قوله تعالى :" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " تقدم القول فيه في البقرة .
الثانية - قوله تعالى :" والمنخنقة " هي التي تموت خنقاً، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه، وذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها، وذكر نحوه ابن عباس.
الثالثة - قوله تعالى :" والموقوذة " الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى موت من غير تذكية عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي ويقال: منه وقذه يقذه وقذاً وهو وقيذ: والوقذ شدة الضرب وفلان وقيذ أي مثخن ضرباً قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه، وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها ومنه المقتولة بقوس البندق، وقال الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكار
وفي صحيح مسلم "عن عدي بن حاتم قالت: قلت يا رسول الله فإني أمري بالمعراض الصيد فأصيب فقال:
إذا رميت بالمعارض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله " وفي رواية "فإن وقيذ" قال أبو عمر : اختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روي عن ابن عمر وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي: وخالفهم الشاميون في ذلك قال الأوزاعي في المعراض كله خزق أو لم يخزق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً قال أبو عمر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه والأصل في هذا الباب والذي عليه العلم وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه "وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ" .
الرابعة - قوله تعالى :" والمتردية " المرتدية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضاً لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم، ومنه الحديث :
" وإن وجدتنه غريقاً في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك " أخرجه مسلم وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من المحكم المتفق عليه وكذلك النطيحة وأكيله السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل.
الخامسة- قوله تعالى :" والنطيحة " النطيحة فعليه بمعنى مفعوله، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقيل: نطيحة ولم يقل نطيح وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال: كف خضيب ولحية دهين، لكن ذكر الهاء ههنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به يقال: شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول : رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم، ولأنك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بن فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة وقرأ أبو ميسرة والمنطوحة.
السادسة- قوله تعالى :" وما أكل السبع " يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع، يقال: سبع فلان فلاناً أن عضة بسنة، وسبعة أي عابه ووقع فيه، وفي الكلام إضمار أي وما أكل مه السبع، لأن ما أكله السبع فقد فني، ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حيوة السبع بسكون الباء وهي لغة لأهل نجد وقال حسان في عبتة بن أبي لهب :
من رجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
وقرأ ابن مسعود: وأكليه السبع وقرأ عبد الله بن عباس : وأكيل السبع .
السابعة - قوله تعالى :" إلا ما ذكيتم" نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور من العلماء والفقهاء وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة فإن الذكاة عاملة فيه لأن حق الاستثناء أن يكون منصروفاً إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعاً إلا بدليل يجب التسليم له وروى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال: كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل قال إسحاق بن راهوية: السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم، وإنما ينظر عند الذبح أحيه هي أم ميتة ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها فكذلك المريضة قال إسحاق: ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء
قلت: وإليه ذهب ابن حبيبة وذكر عن أصبحا مالك ، هو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي قال المزني: وأحفظ للشافعي قولاً آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه، وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك وهو الذي ذكره عبد الوهاب في تلقيته، وروي عن زيد بن ثابت، ذكره مالك في موطئه وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين، والاستثناء على هذا القول منقطع أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحه، والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري وهي تضطرب فليأكل وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره، فهو أولى من الروايات النادرة وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة، وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض وبقية حياة من سبع لو اتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر! وقال أبو عمر: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك وأجمعوا أنها إذا صارت في النزع ولم تحرك يداً ولا رجلاً أنه لا ذكاة فيها، وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية والله أعلم .
الثامنة- قوله تعال :" ذكيتم " الذكاة في كلام العرب الذبح قاله قطرب: وقال ابن سيده في المحكم والعرب تقول "ذكاة الجنبين ذكاة أمه" قال ابن عطية: وهذا إنما هو حديث وذكى الحيوان ذبحه ومنه قول الشاعر:
يذكيها الأسل
قلت : الحديث الذي أشرا إليه أخرجه الدراقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبد الله بن "النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ذكاة الجنين ذكاة أمه" وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتاً لم يحل أكله لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين. قال ابن المنذر: وفي "قول النبي صلى الله عله وسلم : ذكاة الجنين ذكاة أمه " دليل على أن الجنين غير الأم، وهو يقول: لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء عن أصحابه، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل. وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حياً أن ذكاة أمه ليست بذكاة له. واختلفوا إذا ذكيت الأم ومن بطنها جنين فقال مالك وجميع أصحابه أن ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره وذلك إذا خرج ميتاً أو خرج به رمق من الحياة ، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك فإن سبقهم بنفسه أكل وقال ابن القاسم: ضحيت بنعجة فلما ذبحها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم، فأمرت أهلي أن يشووه، وقال عبد الله بن كعب بن مالك: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه قال ابن المنذر: ومن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال القاضي أبو الوليد الباجي: وقد "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
ذكاة الجينن ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أنه حديث ضعيف فمذهب مالك وهو الصحيح من الأقوال، الذي عليه عامة فقهاء الأمصار وبالله التوفيق.
التاسعة -قوله تعالى :" ذكيتم " الذكاة في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة وذلك تمام استكمال القوة ويقال: ذكى يذكى والعرب تقول : جري المذكيات غلاب ، والذكاء حدة القلب قال الشاعر
يفضله إذا اجتهدوا عليه تمام السن منه والذكاة
والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكى يذكى ذكاً والذكوة ما تذكو به النار وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما وذكاء اسم الشمس، وذلك أنها تذكو كالنار والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها فمعنى ذكيتم أدركتم ذكاته على التمام ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب يقال رائحة ذكية فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب لأنه يتسارع إليه التجفيف، وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما "ذكاة الأرض يبسها" يريد طهارتها من النجاسة فالذكاة في الذبيحة تطهير لها وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيراً لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة ، وهو قول أهل العراق وإذا تقرر هذا فاعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور مقروناً بنية القصد لله وذكره عليه على ما يأتي بيانه .
العاشرة - واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم، وعلى هذا تواترت الآثار وقال به فقهاء الأمصار، والسن والظفر المنهى عنهما في التذكية هما غير المنزعين لأن ذلك يصير خنقاً وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال منزوعة أو غير منزوعة منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد وروي عن الشافعي، وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال :
قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غداً وليست معنا مدى في رواية فنذكى بالليط وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار "عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ
أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس بها وكلوها " وفي مصنف أبي داود .
"أنذبح بالمروة وشقة العصا قال : أعجل وأنرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم أما الظفر فمدى الحبشة " الحديث أخرجه مسلم وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما ذبح بلليطة والشطير والظرر فحل ذكي الليطة فلقه القصبة ويمكن بها الذبح والنحر، والشطير فلقة العود وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانباً دقيقاً والظرر فلقه الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر وعكسه الشظاظ ينحر به لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح .
الحادية عشرة - قال مالك وجماعة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة وهو الغرض من لموت ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ويفترق فيه الحلال- وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله : ما أنهر الدم وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والودجين والمريء وهو قول أبي ثور، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث، ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا على قولين.
الثانية عشرة- وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل، وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل، وقال الشافعي: تؤكل لأن المقصود قد حصل وهذا ينبني على أصل وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنها الدم ففيها ضرب من التعبد، وقد ذبح صلى الله عليه وسلام في الحلق ونحر في اللبة وقال :
"إنما الذكاة في الحلق واللبة " فبين محلها وعين موضعها وقال مبينا لفائدتها:
"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا يشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد، فلم تؤكل لذلك والله أعلم .
الثالثة عشرة - واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور، وأكمل الذكاة فقيل: يجزئه وقيل: لا يجزئه والأول أصح لأنه جرحها ذكر ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها .
الرابعة عشرة- ويستحب ألا يذبح إما من ترضى حاله، وكلم من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلماً أو كتابياً وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي، ولا يذبح نسكاً إلا مسلم، فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه ولا يجوز في تحصيل المذهب وقد أجازه أشبه .
الخامسة عشرة - وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسى وفي قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد، وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبه على سنة الذكاة، وقد خالف في هاتين المسئلتين بعض أهل المدينة غيرهم وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم وتمامه بعد قوله :
" فمدى الحبشة" قال: وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول اله صلى لله عليه وسلم : "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا" - وفي رواية - "فكلوه " وبه قال أبو حنيفة والشافعي، قال الشافعي: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة، واحتج بما رواه أبو داود والترمذي "عن أبي العشراء عن أبيه قال :
قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحق واللبة قال : لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك " قال يزيد بن هارون: وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه، قال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة وهو قول انفراد به عن مالك وأصحابه قال أبو عمر: قول الشافعي أظهر في أهل العلم وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي لحديث رافع بن خديج وهو قول ابن عباس وابن مسعود، ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي لأنه صار مقدورا عليه فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل له الوحشي .
قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته وهو مقتضى الحديث وظاهرة لقوله : فحبسه ولم يقل إن السهم قتله، وأيضاً فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد، وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوساً صار مقدوراً عليه فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر، والله أعلم، وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه هذا الحديث واختلفوا في اسم أبي العشراء، فقال بعضهم : اسمه أسمان بن قهطم ويقال: اسمه يسار بن برز ويقال: بلز ويقال - اسمه عطارد نسب إلى جده فهذا سند مجهول لا حجة فيه ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقاً في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور فظاهره ليس بمراد قطعاً وتأويل أبي داود وابن حبيب له غير متفق عليه، فلا يكون في حجة والله أعلم قال أبو عمر: وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه ، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا وهذا لا حجة فيه لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدرو عليه وهذا غير مقدرو عليه .
ومن تمام هذا الباب "قوله عليه السلام:
إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتهم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم عن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله عليه وسلم قال : إن الله كتب فذكره قال علماءنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحية والقربة وتوجيهها إلى القبلة ، والأجهاز، وقطع الودجين والحلقوم وإراحتها وتركها إلى أن تبرد والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا وأباح لنا ما لو شاء لحرمة علينا وقال ربيعة: من إحسان الذبح إلا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها وحكي جوازه عن مالك ، والأول أحسن وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها، وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان "زاد ابن عيسى في حديثه و"هي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت"
السابعة عشرة - قوله تعالى:" وما ذبح على النصب" قال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح وهو النصب أيضاً والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد وغبار منتصب مرتفع وقيل: النصب جمع واحدة نصاب كحمار وحمر وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب وكانت ثلاثمائة وستين حجراً وقرأ طلحة النصب بجزم الصاد وروي عن ابن عمر النصب بفتح النون وجزم الصاد الجحدري بفتح النون والصاد جعله اسماً موحداً كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجيال قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضج بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة فلما جاء الإسلام قال المسمون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى:" لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " [ الحج : 37] ونزلت " وما ذبح على النصب" المعنى: والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز وقال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله فاعبدا
وقيل: على بمعنى اللام أي لأجلها قال قطرب قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد، قال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل لغير الله ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له .
الثامنة عشرة - قوله تعالى :" وأن تستقسموا بالأزلام " معطوف على ما قبله وأن في محل رفع، أي وحرم عليكم الاستقسام والأزلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم قال :
بات يقاسيها غلام كالزلم
وقال آخر فجميع :
فلئن جذيمة قتلت سراواتها فنساؤها يضربن بالأزلام
وذكر محمد بن جرير: أن ابن وكيع وحدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير: أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع : هي الشطرنج فأما قول لبيد :
تزل عن الثرى أزلامها
فقالوا : أراد أظلاف البقرة الوحشية، والأزلام للعرب ثلاثة أنواع
منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل وعلى الثاني لا تفعل والثلث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه فإذا أراد فعل شيء أدخل يده- وهي متشابهة -فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي. ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم : لا تخرج من أجل نجم كذا وأخرج من أجل نجم كذا وقال جل وعز : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا" [لقمان: 34] الآية : وسيأتي بيان هذا مستوفي إن شاء الله.
النوع الثاني- سبعة قداح كان عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل كل قدح منها في كتاب قدح فيه العقل من أمر الديات، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضاً كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم، على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل.
والنوع الثالث- هو قداح الميسر وهي عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانون يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدوم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف قال مجاهد: الأزلالم هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها وقال سفيان و وكيع: وهي الشطرنيج، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا، وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الأعلاف فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب ، وقال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم ورقاع الفأل في أشباه ذلك وقال الكيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غداً، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الأقرع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرعي، ويجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة عليماً على إثبات حكم العتق قطعاً للخوصمة أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علماً على العتق قطعاً فظهر افتراق البابين .
التاسعة عشرة- وليس في هذا الباب طلب الفأل.
و"كان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح" أخرجه الترمذي وقال حديث: حديث صحيح : غريب وإنما كان يعجب الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل: فيحسن الظن بالله عز وجل وقد قال:
"أنا عند ظن عبدي بي " وكان عليه السلام يكره الطيرة، لأنها من أعمال أهل الشرك ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هو من طريق الاتكال على شيء سواه، وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضاً فيسمع يا سالم أو يكون باغياً فيسمع يا واجد، وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم "عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
لا طيرة وخيرها الفأل قيل : يا رسول الله وما الفأل؟ قال :الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه من يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة .
الموفية عشرين- قوله تعالى :" ذلكم فسق" إشارة إلى الاستقسام بالأزلام والفسق الخروج قد تقدم وقيل يرجع إلى جميع ما ذكره من الاستحلال لجميع هذه المحرمات وكل شيء منها فسق وخرج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال : " أوفوا بالعقود".
الحادية والعشرون- قوله تعالى :" اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفاراً قال الضحاك: نزله هذه الآية حين فتح مكة وذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان من رمضان سنة تسع، ويقال: سنة ثمنان، ودخلها ونادى منادي رسول اه صلى اله عليه وسلم : ألا من قال له إله إلا اله فهو آمن ومن وضع السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن " وفي يئس لغتان يئس ييئس يأساً وأيس يأيس إياساً وإياسة قاله النضر بن شميل " فلا تخشوهم واخشون" أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم .
الثانية والعشرون -قوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية " اليوم أكملت لكم دينكم" الآية على ما نبينه روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال:
جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال : وأي آية ؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة لفظ مسلم وعن النسائي: ليلة جمعة . وروي أنها "لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت " وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة .
قلت: القول الأول أصح أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه وكذلك عن الشهر ببعضه تقول فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم والدين عبارة عن الشرائع التي شرف وفتح لنا فإنها نزلت نجوماً وآخر ا نزل منها هذه الآية ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي. وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج، إذ لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة وقيل: " أكملت لكم دينكم " بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينك على الدين كله كما تقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك .
الثالثة والعشرون- قوله تعالى :" وأتممت عليكم نعمتي" أي بإكمال الشرائع والأحكام وإزهار دين الإسلام كما وعدتكم إذ قلت: " ولأتم نعمتي عليكم" وهي دخول مكة آمنين مطمئنين وغير ذلك ما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى .
الرابعة والعشرون- لعل قائلاً يقول: قوله تعالى :" اليوم أكملت لكم دينكم " يدل على أن الدين كان يغر كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدراً والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعاً، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص ، ومعلوم أن النقص عيب ودين الله تعالى قيم كما قال تعالى : " دينا قيما " [ الأنعام : 161] فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيباً ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله:" وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره " [ فاطر : 11] أهو عيب له ، ونقصان أيام الحيض عن المعهود ونقصان أيام الحمل ، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه، وفما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تحلق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب ، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى :" اليوم أكملت لكم دينكم " يخرج على وجهين :
أحدهما- أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصاً نقصان عيب، لكنه يوسف بنقصان مقيد فيقال له: إنه كان ناقصاً عما كان عند الله تعالى أنه ملحقة به وضامه إليه كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصاً فيقال: أكمل الله عمره، ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصاً نقص قصور وخلل "فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر " ولكنه يجوز أن يوصف ينقصان مقيد فيقال: كان ناقصاً عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحاً ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحاً فهكذا هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئاً فشيئاً إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم .
والوجه الآخر- أنه أراد بقوله : " اليوم أكملت لكم دينكم "أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياماً بفرضه فإنه "يقول عليه السلام:
بني الإسلام على خمس " الحديث وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا، فلما حجوا ذلك اليوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى : وهم بالموقف عشيه عرفة " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فإنما أراد أكل وضعه لهم ، وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام .
الخامسة والعشرون ، قوله تعالى :" ورضيت لكم الإسلام دينا " أي أعلمتكم برضاي به لكم ديناً فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام ملنا ديناً فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره، ودينا نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا انقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم ويحتمل أن يريد " ورضيت لكم الإسلام دينا " أي رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئاً والله أعلم ، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى :" إن الدين عند الله الإسلام " [ آل عمران : 19] وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام وهو الإيمان والأعمال والشعب .
السادسة والعشرون - قوله تعالى:" فمن اضطر في مخمصة" يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية المخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام والخمص ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة ومنه أخمص القدم ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث، قال الأعشى :
تبتون في المشتى ملاء بطونكم وجارتكم غرثى يبتن خمائصا
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره:
والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعد
وفي الحديث:
"خماص البطون خفاف الظهور"، الخماص جمع الخميص البطن وهو الضامر، أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس، ومنه الحديث :
"إن الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" والخميصة أيضاً ثوب، قال الأصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة، وهي سوداء كانت من لباس الناس وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة.
السابعة والعشرون- قوله تعالى :" غير متجانف لإثم " أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى " غير باغ ولا عاد " [ البقرة: 173] وقد تقدم والجنف الميل، والإثم الحرام، ومنه قول عمر رضي الله عنه ما تجانفنا فيه لإثم أي ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه : وكل مائل فهو متجانف وجنف وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي متجنف دون ألف وهو أبلغ في المعنى، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتاً لحكمه وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه ألا ترى أنك إذا قلت: تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأوداً ومقاربة ميل وإذا قلت: تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون الرجل وتصون وتعقل فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده قاله قتادة والشافعي " فإن الله غفور رحيم " أي فإن الله لن غفور رحيم فحذف وأنشد سيبيويه :
قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنباً كله لم أنصع
أراد لم أصنعه فخذف الله أعلم .
يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة، وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة لما فيها من الدم المحتقن فهي ضارة للدين وللبدن، فلهذا حرمها الله عز وجل، ويستثنى من الميتة السمك، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر، فقال "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث وقوله: "والدم" يعني به المسفوح، كقوله "أو دماً مسفوحاً" قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذحجي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو يعني ابن قيس عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه، فقالوا: أنه دم، فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح، وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد، عن القاسم! عن عائشة ، قالت: إنما نهى عن الدم السافح، وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان. فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"، وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً، قلت: وثلاثتهم كلهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا بشير بن شريح عن أبي غالب، عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم فبينما نحن كذلك، إذ جاؤوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فقالوا: هلم يا صدي فكل، قال: قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه، قالوا: وماذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الاية "حرمت عليكم الميتة والدم" الاية، ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناده مثله، وزاد بعده هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي، فقلت: ويحكم اسقوني شربة من ماء، فإني شديد العطش، قال: وعلي عباءتي، فقالوا: لا، ولكن ندعك حتى تموت عطشاً، قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حر شديد، قال: فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه، فأمكنني منه فشربته، فلما فرغت من شرابي استيقظت فلا والله ما عطشت، ولا عريت بعد تيك الشربة. ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري، حدثنا صدقة بن هرم عن أبي غالب، عن أبي أمامة وذكر نحوه، وزاد بعد قوله: بعد تيك الشربة، فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة، فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم، وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:
وإياك والميتات لا تقربنها ولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة، ثم قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تأتينه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وقوله: "ولحم الخنزير" يعني إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم ههنا، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: "فإنه رجس أو فسقاً" يعنون قوله تعالى: "إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس" أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره ؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال "لا، هو حرام" . وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم: نهانا عن الميتة والدم .
وقوله "وما أهل لغير الله به" أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية إما عمداً أو نسياناً كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن السنجاني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال : نزل آدم بتحريم أربع " الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به "، وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط، ولم تزل حراماً منذ خلق الله السموات والأرض، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم وأحل لهم ما سوى ذلك، فكذبوه وعصوه، وهذا أثر غريب، وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا ربعي عن عبد الله، قال: سمعت الجارود بن أبي سبرة، قال: هو جدي، قال: كان رجل من بني رباح يقال له ابن وائل، وكان شاعراً، نافر غالباً أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء، فلما وردت الماء قاما إليها بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها، قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم، قال: وعلي بالكوفة، قال: فخرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله، هذا أثر غريب، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا ابن حماد بن مسعدة عن عوف، عن أبي ريحانة، عن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب، ثم قال أبو داود محمد بن جعفر هو غندر: أوقفه على ابن عباس، تفرد به أبو داود، وقال أبو داود أيضاً: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي، حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن حريث، قال: سمعت عكرمة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل، ثم قال أبو داود: أكثر من رواه غير ابن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، تفرد به أيضاً .
قوله: "والمنخنقة" وهي التي تموت بالخنق، إما قصداً وإما اتفاقاً بأن تتخبل في وثاقتها، فتموت به فهي حرام، وأما "الموقوذة" فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها . وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، قال "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمعراض ونحوه بحده، فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله، ولم يجرحه على قولين، هما قولان للشافعي رحمه الله (أحدهما) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلاً منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ . (والثاني) إنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه، لأنه قد دخل في العموم، وقد قررت لهذه المسألة فصلاً فليكتب ههنا .
[فصل] ـ اختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا أرسل كلباً على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه، أوصدمه: هل يحل أم لا ؟ على قولين (أحدهما) أن ذلك حلال لعموم قوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم"، وكذا عمومات حديث عدي بن حاتم، وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله، وصححه بعض المتأخرين منهم كالنووي والرافعي . (قلت): وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر، فإنه قال في كلا الموضعين: يحتمل معنيين، ثم وجه كلاً منهما فحمل ذلك الأصحاب منه، فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللهم إلا أنه في بحثه للقول بالحل رشحه قليلاً، ولم يصرح بواحد منهما، ولا جزم به، والقول بذلك ـ أعني الحل ـ نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة من رواية الحسن بن زياد عنه، ولم يذكر غير ذلك. وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر، وهذا غريب جداً، وليس يوجد ذلك مصرحاً به عنهم، إلا أنه من تصرفه رحمه الله ورضي عنه .
[والقول الثاني] ـ أن ذلك لا يحل، وهو أحد القولين عن الشافعي رحمه الله واختاره المزني، ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضاً، والله أعلم . ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وهذا القول أشبه بالصواب، والله أعلم، لأنه أجري على القواعد الأصولية، وأمس بالأصول الشرعية، واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج، قلت: يا رسول الله، إنا ملاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب ؟ قال "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه" الحديث بتمامه، وهو في الصحيحين . وهذا وإن كان وارداً على سبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السلام عن البتع، وهو نبيذ العسل، فقال "كل شراب أسكر فهو حرام"، أفيقول فقيه: إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل، وهكذا هذا، كما سألوه عن شيء من الذكاة، فقال لهم كلاماً عاماً يشمل ذاك المسؤول عنه وغيره لأنه عليه السلام كان قد أوتي جوامع الكلم، إذا تقرر هذا، فما صدمه الكلب أو غمه بثقله ليس مما أنهر دمه، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث، فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء، لأنهم إنما سألوه عن الالة التي يذكى بها، ولم يسألوه عن الشيء الذي يذكى، ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر حيث قال: "ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه، وإلا لم يكن متصلاً، فدل على أن المسؤول عنه هو الالة، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم، فالجواب عن هذا بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضاً، حيث يقول "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه", ولم يقل: فاذبحوا به، فهذا يؤخذ منه الحكمان معاً، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها، وحكم المذكى وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سناً ولا ظفراً، هذا مسلك .
[والمسلك الثاني]: طريقة المزني، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعرضه فلا تأكل، وإن خزق فكل، والكلب جاء مطلقاً، فيحمل على ما قيد هناك من الخزق لأنهما اشتركا في الموجب وهو الصيد فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل، بل هذا أولى، وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة، فلا بد لهم من جواب عن هذا، وله أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحل قياساً على ما قتله السهم بعرضه، والجامع أن كلاً منهما آلة للصيد، وقد مات بثقله فيهما، ولا يعارض ذلك بعموم الاية، لأن القياس مقدم على العموم، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، وهذا مسلك حسن أيضاً .
[مسلك آخر] ـ وهو أن قوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم" عام فيما قتلن بجرح أو غيره, لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو إما أن يكون نطيحاً أو في حكمه, أو منخنقاً أو في حكمه, وأياً ما كان, فيجب تقديم هذه الاية على تلك الوجوه: (أحدها) أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الاية حالة الصيد حيث يقول لعدي بن حاتم: وإن أصابه بعرضه, فإنما هو وقيذ فلا تأكله, ولم نعلم أحداً من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الاية, فقال: إن الوقيذ معتبر حالة الصيد, والنطيح ليس معتبراً, فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقاً للإجماع لا قائل به, وهو محظور عند كثير من العلماء. (الثاني) أن تلك الاية "فكلوا مما أمسكن عليكم" ليست على عمومها بالإجماع بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول, وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق, والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ .
[المسلك الاخر] ـ أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء، لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات، فلا تحل قياساً على الميتة .
[المسلك الاخر] ـ أن آية التحريم، أعني قوله: "حرمت عليكم الميتة" إلى آخرها، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة، أعني قوله تعالى: "يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات" الاية، فينبغي أن لا يكون بينهما تعارض أصلاً، وتكون السنة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك قصة السهم، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خزقه المعراض فيكون حلالاً، لأنه من الطيبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية التحريم، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل، لأنه وقيذ، فيكون أحد أفراد آية التحريم، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء إن كان قد جرحه الكلب، فهو داخل في حكم آية التحليل، وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله، فهو نطيح أو في حكمه، فلا يكون حلالاً، (فإن قيل): فلم لا فصل في حكم الكلب، فقال: ما ذكرتم إن جرحه فهو حلال، وإن لم يجرحه فهو حرام .
[فالجواب] أن ذلك نادر، لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر، وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه، أو للهو أو لنحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته، فلهذا ذكر كلاً من حكميه مفصلاً، والله أعلم، ولهذا لما كان الكلب، من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال "إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين، وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين، فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه، وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعيد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس: إن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه .
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك" ورواه أيضاً النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، فذكر نحوه، وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا عبد العزيز بن موسى هو اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار هو الطاحي عن أبي إياس وهو معاوية بن قرة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي" ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه أبو قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفاً .
وأما الجمهور فقدموا حديث عدي على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره، وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه فطال عليه الفصل ولم يجىء، فأكل منه لجوعه ونحوه فإنه لا بأس بذلك، لأنه والحالة هذه لا يخشى أنه إنما أمسك على نفسه بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم .
فأما الجوارح من الطيور فنص الشافعي على أنها كالكلب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد فيعفى عن ذلك، وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في "الإفصاح" : إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب لنص الشافعي رحمه الله، على التسوية بينهما، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما المتردية: فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال، فتموت بذلك، فلا تحل، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المتردية التي تسقط من جبل . وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر. وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر .
وأما النطيحة: فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي منطوحة، وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: عين كحيل، وكف خضيب، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة، وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل فيها تاء التأنيث، لأنها أجريت مجرى الأسماء كما في قولهم: طريقة طويلة، وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة بخلاف عين كحيل وكف خضيب لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام .
وقوله تعالى: "وما أكل السبع" أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين .
وقوله "إلا ما ذكيتم" عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "إلا ما ذكيتم" يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه، فهو ذكي، وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي في الآية قال: إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها، فكل . وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين، حدثنا هشيم وعباد، قالا: حدثنا حجاج عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها، وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد: أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل . قال ابن وهب: سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها، فقال مالك: لا أرى أن تذكى، أي شيء يذكى منها ؟ وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره، أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ فقال: إن كان قد بلغ السحرة فلا أرى أن يؤكل، وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً، قيل له: وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال: لا يعجبني هذا لا يعيش منه . قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء ؟ فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل، هذا مذهب مالك رحمه الله. وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها فيحتاج إلى دليل مخصص للآية، والله أعلم .
وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غداً وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب ؟ فقال "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" . وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعاً، وفيه نظر، وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح "ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك"، وهو حديث صحيح، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة .
وقوله "وما ذبح على النصب" قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصباً، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا، لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله .
وقوله تعالى: "وأن تستقسموا بالأزلام" أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، واحدها زلم وقد تفتح الزاي، فيقال: زلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: افعل، وعلى الاخر: لا تفعل، والثالث غفل ليس عليه شيء، ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد: أمرني ربي، وعلى الاخر: نهاني ربي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا الحجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور، وكذا روي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومقاتل بن حيان. وقال ابن عباس: هي قداح كانوا يستقسمون بها الأمور . وذكر محمد بن إسحاق وغيره: إن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام فقال "قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً" .
وفي الصحيح: أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام، هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره لا تضرهم. قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره لا تضرهم، وكان كذلك، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك، وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد عن رقية، عن عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائراً". وقال مجاهد في قوله "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون. وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار، فيه نظر، اللهم إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى، والله أعلم. فإن الله سبحانه قد قرن بينها وبين القمار وهو الميسر فقال في آخر السورة: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ". وهكذا قال ههنا "وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق" أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك . وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه .
كما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ـ أوقال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به" لفظ أحمد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي .
وقوله "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم، وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان، وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم"، ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلا الله، فقال "فلا تخشوهم واخشون" أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم، واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم، وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة .وقوله "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً" أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" أي فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "اليوم أكملت لكم دينكم" وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات قالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجيت عليه برداً كان علي. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، رواهما ابن جرير، ثم قال: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: لما نزلت "اليوم أكملت لكم دينكم" وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما يبكيك ؟" قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال "صدقت" ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت "إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية ؟ قال: قوله "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشية عرفة في يوم جمعة، ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به. ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: و الله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً . فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا "اليوم أكملت لكم دينكم" الآية، وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية، فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير، ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم, وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نسي، أخبرنا أميرنا إسحاق، قال أبو جعفر بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب، قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الاية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر: أي آية يا كعب ؟ فقال "اليوم أكملت لكم دينكم"، فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه: نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وقال ابن جرير: حدثنا أبو بكر، حدثنا قبيصة، حدثنا حماد بن سلمة عن عمار هو مولى بني هاشم: أن ابن عباس قرأ "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيداً، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة. وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا يحيى بن الحماني، حدثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سليمان، عن أبي عمر البزار، عن أبي الحنفية، عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة "اليوم أكملت لكم دينكم".
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس السكوني، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الاية "اليوم أكملت لكم دينكم" حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة. وروى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن موسى بن دحية، عن قتادة عن الحسن، عن سمرة قال: نزلت هذه الاية "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف، فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد الله الصغاني، عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح بدراً يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين ـ "اليوم أكملت لكم دينكم". ورفع الذكر يوم الاثنين. فإنه أثر غريب، وإسناده ضعيف، وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصغاني، عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين، هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين، فالله أعلم، ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين، كما تقدم فاشتبه على الراوي، والله أعلم .
وقال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "اليوم أكملت لكم دينكم" يقول: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، قال: وقد قيل: إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع، ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس . قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلي "من كنت مولاه فعلي مولاه". ثم رواه عن أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع، ولا يصح هذا ولا هذا بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله .
وقوله "فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم" أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، والله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه، ويغفر له، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر مرفوعاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته" لفظ ابن حبان، وفي لفظ لأحمد "من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة" ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام، وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير أو صيداً وهو محرم، هل يتناول الميتة أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء أو ذلك الطعام ويضمن بدله، على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله . وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي، أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال "إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها" تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين، وكذا رواه ابن جرير عن عبد الأعلى بن واصل عن محمد بن القاسم الأسدي عن الأوزاعي به، لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد به. ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد به. ورواه ابن جرير عن هناد بن السري، عن عيسى بن يونس، عن حسان، عن رجل قد سمي له فذكره، ورواه أيضاً عن هناد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان مرسلاً، وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية عن ابن عون، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه، فكان فيه : ويجزىء من الاضطرار غبوق أو صبوح .
حدثنا أبو كريب، حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي، حدثنا الحسن: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى يحل الحرام ؟ قال: فقال "إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم". حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عن جدته: أن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يحل لك الطيبات، ويحرم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام لك، فتأكل منه حتى تستغني عنه". فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئاً فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه" فقال الأعرابي: ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته، فقال صلى الله عليه وسلم "إذا أرويت أهلك غبوقاً من الليل، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك، فإنه ميسور كله فليس فيه حرام" .
ومعنى قوله "ما لم تصطبحوا" يعني به الغداء "وما لم تغتبقوا" يعني به العشاء "أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها" فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف، يعني قوله "أو تحتفئوا" على أربعة أوجه: تحفؤا بالهمزة، وتحتفيوا: بتخفيف الياء والحاء، وتحتفوا بتشديد، وتحتفوا بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا رواه في التفسير .
[حديث آخر] ـ قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا وهب بن عقبة العامري، سمعت أبي يحدث عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا من الميتة ؟ قال "ما طعامكم" ؟ قلنا: نصطبح ونغتبق. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة، قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك وأبي الجوع، وأحل لهم الميتة على هذه الحال . تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق، والله أعلم .
[حديث آخر] ـ قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا سماك عن جابر عن سمرة: أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال له رجل: إن ناقتي ضلت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت له امرأته: انحرها فأبى, فنفقت فقالت له امرأته: اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال "هل عندك غنى يغنيك ؟" قال: لا، قال "فكلوها" قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها ؟ قال استحييت منك، تفرد به، وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم .
وقوله: "غير متجانف لإثم" أي متعاط لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الاخر، كما قال في سورة البقرة "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم" وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم .
هذا شروع في المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله: "إلا ما يتلى عليكم". والميتة قد تقدم ذكرها في البقرة، وكذلك الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم حملاً للمطلق على المقيد، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده يقال، ويقويه حديث: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي. والإهلال رفع الصوت لغير الله كأن يقول بسم اللات والعزى ونحو ذلك، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. 3- "والمنخنقة" هي التي تموت بالخنق: وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين، أو بفعل آدمي أو بغيره، وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها. "والموقوذة" هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية، يقال: وقذه يقذه وقذاً فهو وقيذ، والوقد شدة الضرب، وفلان وقيذ: أي مثخن ضرباً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها، ومنه قول الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلهــــا فطارة لقــوادم الأظفـــار
قال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، ويعني بالبندق قوس البندقة، وبالمعراض السهم الذي لا ريش له أو العصا التي رأسها محدد، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وخالفهم الشاميون في ذلك. قال الأوزاعي في المعراض: كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً. قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم، وفيه: "ما أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" انتهى.
قلت: والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال:" قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً. وأما البنادق المعروفة الآن: وهي بنادق الحديد التي يجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حياً. والذي يظهر لي أنه حلال لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله" فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. قوله: "والمتردية" هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت من غير فرق بين أن تتردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها، والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك وسواء تردت بنفسها أو ردها غيرها. قوله: "والنطيحة" هي فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم أيضاً: فعيلة بمعنى فاعلة، لأن الدابتين تتناطحان فتموتان، وقال: نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل، لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب صفة لموصوف مذكور فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية. وقرأ أبو ميسرة والمنطوحة. قوله: "وما أكل السبع" أي ما افترسه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها، والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها. وقرأ الحسن أبو حيوة السبع بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد، ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العــــام إلى أهــله فما أكيل السبـــع بالراجــع
وقرأ ابن مسعود وأكيلة السبع. وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع. قوله: "إلا ما ذكيتم" في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً، وفيه حياة، وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلا ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل. وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعاً: أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم، والأول أولى. والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة: التمام: أي تمام استكمال القوة، والذكاء حدة القلب والذكاء سرعة الفطنة، والذكوة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار: أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس والمراد هنا: إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع: عبارة عن إنهار الدم، وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور مقروناً بالقصد لله، وذكر اسمه عليه. وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم. وفري الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة. قوله: "وما ذبح على النصب". قال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد ويصب عليه دماء الذبائح، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد. وقيل النصب: جمع واحده نصاب، كحمار وحمر. وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد، جعله اسماً موحداً كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله: "وما ذبح على النصب" والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل إن على بمعنى اللام: أي لأجلها. قالها قطرب، وهو على هذا داخل فيما أهل به لغير الله، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه ولدفع ما كانوا يظنونه من ذلك لتشريف البيت وتعظيمه. قوله: "وأن تستقسموا بالأزلام" معطوف على ما قبله: أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. والأزلام قداح الميسر واحدها زلم، قال الشاعر:
بات يقاسيها غلام كلـــزم ليس براعــي إبــل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
وقال آخر:
فلئن جذيمة قتلت ساداتها فنســـاؤها يضـربن بالأزلام
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: أحدها مكتوب فيه افعل، والآخر مكتوب فيه لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، إذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين. وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى: أي استدعى السقي، فالاستقسام: طلب القسم والنصيب. وجملة قداح الميسر عشرة، وقد قدمنا بيانها، وكانوا يضربون بها في المقامرة، وقيل: إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج، وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة. قوله: "ذلكم فسق" إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا. والفسق: الخروج عن الحد، وقد تقدم بيان معناه، وفي هذا وعيد شديد، لأن الفسق هو أشد الكفر لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر. قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" المراد اليوم الذي نزلت فيه الآية، وهو يوم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع وقيل: سنة ثمان، وقيل: المراد باليوم الزمان الحاضر وما يتصل به، ولم يرد يوماً معيناً ويئس فيه لغتان ييس بياءين يأساً، وأيس إياساً وإياسة. قاله النضر بن شميل: أي حصل لهم اليأس من إبطال دينكم وأن يردوكم إلى دينهم كما كانوا يزعمون "فلا تخشوهم": أي لا تخافوا منهم أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم "واخشون" فأنا القادر على كل شيء إن نصرتكم فلا غالب لكم، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم. قوله: "اليوم أكملت لكم دينكم" جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه، ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله: "لكم". قال الجمهور: المراد بالإكمال هنا: نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما. والمراد باليوم المذكور هنا هو يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وقيل: إنها نزلت في يوم الحج الأكبر. قوله: "وأتممت عليكم نعمتي" بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي: "ولأتم نعمتي عليكم". قوله: "ورضيت لكم الإسلام ديناً": أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً إلى انقضاء أيام الدنيا. وديناً منتصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً. قوله: "فمن اضطر في مخمصة" هذا متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض: أي من دعته الضرورة "في مخمصة" أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات. والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيراً في الجوع، قال الأعشى:
تبيتون في المشتاء ملأى بطونكــــم وجاراتكم غرثى يبتن خمــائصا
قوله: "غير متجانف" الجنف: الميل، والإثم: الحرام: أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد، وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي متجنف "فإن الله غفور رحيم" به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغياً على غيره أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال:" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام، فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صدي فكل قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، لما أنزل الله عليه، قالوا: وما ذلك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: "حرمت عليكم الميتة"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وما أهل لغير الله به" قال: وما أهل للطواغيت به "والمنخنقة" قال: التي تخنق فتموت "والموقوذة" قال: الشاة التي تنطح الشاة "وما أكل السبع" يقول: ما أخذ السبع "إلا ما ذكيتم" يقول: ذبحتم من ذلك، وبه روح فكلوه "وما ذبح على النصب" قال: النصب أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: هي القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور "ذلكم فسق" يعني من أكل ذلك كله فهو فسق. واخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الرداة التي تتردى في البئر، والمتردية التي تتردى من الجبل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: حصى بيض كانوا يضربون بها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في الآية قال: كانوا إذا أرادوا أمراً أو سفراً يعمدون إلى قداح ثلاثة يكتبون على واحد منها: أمرني، وعلى الآخر: نهاني، ويتركون الثالث مخللاً بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه أمرني مضوا لأمرهم، وإن خرج الذي عليه نهاني كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" قال: يئسوا أن يرجعوا إلى دينهم أبداً. وأخرج البيهقي عنه في الآية قال: يقول يئس أهل مكة أن يرجعوا إلى دينهم عبادة الأوثان أبداً "فلا تخشوهم" في اتباع محمد "واخشون" في عبادة الأوثان وتكذيب محمد فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يديه والمسلمون يدعون الله "اليوم أكملت لكم دينكم" يقول حلالكم وحرامكم فلن ينزل بعد هذا حلال ولا حرام "وأتممت عليكم نعمتي" قال: منتي، فلم يحج معكم مشرك "ورضيت" يقول: اخترت "لكم الإسلام ديناً" فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً، ثم قبضه الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قالوا "اليوم أكملت لكم دينكم"، قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم الجمعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن اضطر" يعني إلى ما حرم مما سمى في صدر هذه السورة "في مخمصة" يعني في مجاعة "غير متجانف لإثم" يقول غير متعمد لإثم.
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبوعبد الله محمدبن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبوالحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " . " واتقوا الله إن الله شديد العقاب ".
3- قوله عز وجل " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " ، أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى ، " والمنخنقة " ، وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها ، " والموقوذة " هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها ، " والمتردية " ، هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت ، " والنطيحة " وهي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل وكف خضيب، فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء فقالوا :رأينا كحيلة وخضيبة، وهنا أدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة والنسيكة ، وأكيلة السبع " وما أكل السبع " ، يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه، " إلا ما ذكيتم " ، يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء .
وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها والمراد هنا : إتمام فري الأوداج وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر ".
وأقل الذكاة قي الحيوان المقدور عليه قطع المري والحلقوم وكما له أن يقطع الوجدين معهما ،ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع أو أكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح ، فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته، وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حيةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالاً ، ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته ، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردى منه فمات فلا يحل ، وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع ، لان الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .
" وما ذبح على النصب " ، قيل : النصب جمع واحدة نصاب ، هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب .
واختلفوا فيه ، فقال مجاهد و قتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام أي : وما ذبح لأجل النصب .
" وأن تستقسموا بالأزلام " ، أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها : زلم ، زلم بفتح الزاي وضمها ، وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط ، يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد :نعم ، وعلى واحد : لا وعلى واحد منكم ، وعلى واحد :من غيركم وعلى واحد :ملصق ، وعلى واحد : العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره ، أو تدارؤوا في نسب أو اختلفوا في تحمل عقل جاؤو إلى هبل وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاؤو بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا، لم يفعلوا ذلك حولاً ، ثم عادوا إلى القداح ثانيةً ، فإذا أجالوا على نسب ، فإن خرج منكم كان وسطاً منهم ، وإن خرج غيركم كان حليفاً ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه وقال : " ذلكم فسق " قال سعيد بن جبير :
الأزلام حصى بيض كانوا يضربون ، بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم ، وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج ، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " ، والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجوية أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا [ أبو المختار ] عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة " .
قوله عز وجل " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفاراوذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام يئسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .
" فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" ، نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمدبن أسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: (( يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال أية آية ؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا )).
قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليود / والنصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
روى هارون بن عنترة عن أبيه قال :" لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص ، قال : صدقت" .
وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً، ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول [ سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ] وكانت هجرته في الثاني عشر .
قوله عز وجل : " اليوم أكملت لكم دينكم " يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم، يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض . هذا معنى قول ابن عباس رضي عنهما ، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها .
وقال سعيد بن جبير و قتادة : أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك ووقيل :أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو.
قوله عز وجل : " وأتممت عليكم نعمتي " ، يعني : وأنجزت وعدي في قول ((ولأتم نعمتي عليكم)) ( سورة البقرة ، 150) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، " ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، سمعت عبد الواحد المليحي قال : سمعت أبا محمد بن أبي حاتم ، قال : سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة أبا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى : هذا دين إرتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
قوله عز وجل : " فمن اضطر في مخمصة "، أي : اجهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال رجل خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً ، " غير متجانف لإثم " أي : مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة غير متعرض لمعصية في مقصده ، " فإن الله غفور رحيم " وفيه إضمار ، أي : فأكله فإن الله غفور رحيم .
أخبرنا أبو عبد الله مجمد بن حسن المزوري أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي "قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال : ما لم تصطحبوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها " .
3" حرمت عليكم الميتة " بيان ما يتلى عليكم، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية. " والدم " أي الدم المسفوح لقوله تعالى: " أو دما مسفوحا " وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها. " ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم:باسم اللات والعزى عند ذبحه. " والمنخنقة " أي التي ماتت بالخنق. " والموقوذة " المضروبة بنحو خشب، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته. " والمتردية " التي تردت من علو أو في بئر فماتت. " والنطيحة " التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل. " وما أكل السبع " وما أكل منه السبع فمات، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل. " إلا ما ذكيتم " إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع. والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد. " وما ذبح على النصب " النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة، وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام. وقيل هو جمع والواحد نصاب. " وأن تستقسموا بالأزلام " أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح. مكتوب على أحدها، أمرني ربي. وعلى الآخر: نهاني ربي. والثالث غفل، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانية، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام. وقيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد. " ذلكم فسق " إشارة إلى الاستقسام، وكونه فسقاً لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم. " اليوم " لم يرد به يوماً بعينه وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع. " يئس الذين كفروا من دينكم " أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه. " فلا تخشوهم " أن يظهروا عليكم. " واخشون " واخلصوا الخشية لي. " اليوم أكملت لكم دينكم " بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد. " وأتممت عليكم نعمتي " بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية. " ورضيت لكم الإسلام دينا " اخترته لكم ديناً من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير. " فمن اضطر " متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. " في مخمصة " مجاعة " غير متجانف لإثم " غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذاً أو مجاوزاً حد الرخصة كقوله: " غير باغ ولا عاد ". " فإن الله غفور رحيم " لا يؤاخذه بأكله.
3. Forbidden unto you (for food) are carrion and blood and swine flesh, and that which hath been dedicated unto any other than Allah, and the strangled, and the dead through beating, and the dead through falling from a height, and that which hath been killed by (the goring of) horns, and the devoured of wild beasts, saving that which ye make lawful (by the death stroke), and that which hath been immolated unto idols. And (forbidden is it) that ye swear by the divining arrows. This is an abomination. This day are those who disbelieve in despair of (ever harming) your religion; so fear them not, fear Me! This day have I perfected your religion for you and completed My favor unto you, and have chosen for you as religion AL- ISLAM. Whoso is forced by hunger, not by will, to sin: (for him) lo! Allah is Forgiving, Merciful.
3 - Forbidden to you (your food) are: dead meat, blood, the flesh of swine, and that on wish hath been invoked the name of other than God; that which hath been killed by strangling, or by a violent blow, or by a headlong fall, or by being gored to death; than which hath been (partly) eaten by a wild animal; unless ye are able to slaughter it (in due form); that which is sacrificed on stone (altars); (forbidden) also is the division (of meat) by raffling with arrows: that is impiety. this day have those who reject faith given up all hope of your religion: yet fear them not but fear me. this day have I perfected your religion for you, completed my favour upon you, and have chosen for you Islam as your religion. but if any is forced by hunger, with no inclination transgression, God is indeed oft forgiving, most merciful.