[المائدة : 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
27 - (واتل) يا محمد (عليهم) على قومك (نبأ) خبر (ابني آدم) هابيل وقابيل (بالحق) متعلق بـ اتل (إذ قربا قربانا) إلى الله وهو كبش لهابيل وزرع لقابيل (فتقبل من أحدهما) وهو هابيل بأن نزلت نار من السماء فأكلت قربانه (ولم يتقبل من الآخر) وهو قابيل فغضب وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم (قال) له (لأقتلنك) قال: لم ؟ قال: لتقبل قربانك دوني (قال إنما يتقبل الله من المتقين)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتل على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم ، وعلى أصحابك معهم ، وعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبة الختر ونقض العهد، وما جزاء الناكث وثواب الوافي ، خبر ابني آدم ، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربه الوافي بعهده ، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربه الخاتر الناقض عهده. فلتعرف بذلك اليهود وخامة غب غدرهم ونقضهم ميثاقهم بينك وبينهم ، وهمهم بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم ، في حسن ثوابي وعظم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتول الوافي بعهده من ابني آدم، وعاقبت به القاتل الناكث عهده، عزاءً جميلاً.
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قبول الله عز وجل ما تقبل منه، ومن اللذان قربا.
فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه ، وكان سبب القبول أن المتقبل منه قرب خير ماله، وقرب الآخر شر ماله. وكان المقربان ابني آدم لصلبه ، أحدهما : هابيل ، والآخر: قابيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سعد، عن إسمعيل بن رافع قال : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غنم ، وكان أنتج له حمل في غنمه ، فاحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه . فلما أمر بالقربان قربه لله فقبله الله منه ، فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال : إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم . وأنهما أمرا أن يقربا قرباناً، وأن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبةً بها نفسه ، وأن صاحب الحرث قرب شر حرثه ، الكوزن والزوان، غير طيبة بها نفسه ، وأن الله تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث . وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه . وقال : آيم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه.
وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه ، وإنما كان القربان يقربه الرجل . فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا: لو قربنا قرباناً، وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله جل وعز، أرسل إليه ناراً فأكلته. وإن لم يكن رضيه الله ، خبت النار. فقربا قرباناً، وكان أحدهما راعياً، وكان الآخر حراثاً، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه. فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ، ورد علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني!! فقال: لأقتلنك! فقال له أخوه : ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى قال ، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "إذ قربا قربانا"، قال: ابنا آدم، هابيل وقابيل، لصلب آدم . فقرب أحدهما شاةً، وقرب الآخر بقلاً، فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله : "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا"، قال : هابيل وقابيل ، فقرب هابيل عناقاً من أحسن غنمه ، وقرب قابيل زرعاً من زرعه. قال : فأكلت النار العناق ولم تأكل الزرع ، فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا رجل سمع مجاهداً في قوله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا"، قال: هو هابيل وقابيل لصلب آدم ، قربا قرباناً، قرب أحدهما شاة من غنمه ، وقرب الآخر بقلاً، فتقبل من صاحب الشاة، فقال لصاحبه، لأقتلنك! فقتله . فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت ، عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار، ومعه سبعة أملاك، كلما ذهب ملك جاء الآخر.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، ح، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، قال: قرب هذا كبشاً، وقرب هذا صبراً من طعام ، فتقبل من أحدهما، قال : تقبل من صاحب الشاة، ولم يتقبل من الآخر.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس : "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، كان رجلان من بني آدم ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: كان أحدهما اسمه قابيل ، والآخر هابيل ، أحدهما صاحب غنم ، والآخر صاحب زرع ، فقرب هذا من أمثل غنمه حملاً، وقرب هذا من أرذل زرعه، قال : فنزلت النار فأكلت الحمل ، فقال لأخيه : لأقتلنك!
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته تؤمه هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته تؤمه قابيل، فسلم لذلك. هابيل ورضي ، وأبى قابيل ذلك وكره ، تكرماً عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق بأختي! ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه . فالله أعلم أي ذلك كان. فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه : يا بني ، فقرب قرباناً، ويقرب أخوك هابيل قرباناً، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحاً، وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه -وبعضهم يقول: قرب بقرة- فأرسل الله جل وعز ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله.
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن ، جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن ، غلام هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال : هي أختي ، ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوجها! فأمره أبوه أن يزوجها هابيل، فأبى . وإنهما قربا قرباناً إلى الله أيهما أحق بالجارية، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره لآدم: يا آدم ، هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض؟ قال: اللهم لا! قال : فإن لي بيتاً بمكة فأته. فقال آدم للسماء: (احفظي ولدي بالأمانة)، فأبت. وقال للأرض ، فأبت . وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك . فلما انطلق آدم ، قربا قرباناً، وكان قابيل يفخر عليه فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي! فلما قربا، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل ، فكان صاحب ماشية، فعمد إلى خير ماشيته فتقرب بها، فنزلت عليه نار فأكلته -وكان القربان إذا تقبل منهم ، نزلت عليه نار فأكلته . وإذا رد عليهم أكلته الطير والسباع- وأما قابيل، فكان صاحب زرع ، فعمد إلى أردأ زرعه فتقرب به ، فلم تنزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك! قال : إنما يتقبل الله من المتقين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: هما هابيل وقابيل ، قال: كان أحدهما صاحب زرع ، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخير ماله ، وجاء الآخر بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده فقال: لأقتلنك!
حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إذ قربا قربانا"، قال : قرب هذا زرعاً، وذا عناقاً، فتركت النار الزرع وأكلت العناق.
وقال آخرون: اللذان قربا قرباناً، وقص الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية: رجلان من بني إسرائيل ، لا من ولد آدم لصلبه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، أن اللذين قربا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذريته من بني إسرائيل . وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم. فإذ كان معلوماً ذلك عندهم ، فمعقول أنه لو لم يكن معنياً بـ "ابني آدم" اللذين ذكرهما الله في كتابه، ابناه لصلبه ، لم يفدهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذ كان غير جائز أن يخاطبهم خطاباً لا يفيدهم به معنىً، فمعلوم أنه عنى بـ "ابني آدم"، ابني آدم لصلبه ، لا بني بنيه الذين بعد منه نسبهم، مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل ، على أنهما كانا ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه ، وكفى بذلك شاهداً.
وقد ذكرنا كثيراً ممن نص عنه القول بذلك ، وسنذكر كثيراً ممن لم يذكر إن شاء الله.
حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هرون قال ، حدثنا حسام بن المصك، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما قتل ابن آدم أخاه ، مكث آدم مئة سنة حزيناً لا يضحك ، ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك! فقال: بياك، أضحكك.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحق الهمداني قال، قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه : لما قتل ابن آدم أخاه ، بكى آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه السلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كان منها على خوف، فجاء بها يصيح
قال أبو جعفر: وأما القول في تقريبهما ما قربا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قربا كان عن أمر الله إياهما به ، ولا عن غير أمره . وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك ، وجائز أن يكون عن غير أمره . غير أنه أي ذلك كان ، فلم يقربا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله.
وأما تأويل قوله: "قال لأقتلنك"، فإن معناه: قال الذي لم يتقبل منه قربانه، للذي تقبل منه قربانه: "لأقتلنك"، فترك ذكر: المتقبل قربانه و المردود عليه قربانه، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر المتقبل قربانه مع قوله ، قال إنما يتقبل الله من المتقين.
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس: "قال لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "إنما يتقبل الله من المتقين"، قال يقول : إنك لو اتقيت الله في قربانك تقبل منك ، جئت بقربان مغشوش بأشر ما عندك، وجئت أنا بقربان طيب بخير ما عندي . قال : وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني!
ويعني بقوله: "من المتقين"، من الذين اتقوا الله وخافوه ، بأداء ما كلفهم من فرائضه ، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته.
وقد قال جماعة من أهل التأويل: المتقون في هذا الموضع، الذين اتقوا الشرك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله : "إنما يتقبل الله من المتقين"، الذين يتقون الشرك.
وقد بينا معنى القربان فيما مضى ، وأنه الفعلان من قول القائل : قرب كما الفرقان الفعلان من فرق، و العدوان من عدا.
وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا، كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبل منها وغير المتقبل -فيما ذكر- بأكل النار ما تقبل منها، وترك النار ما لم يتقبل منها. و القربان في أمتنا، الأعمال الصالحة، من الصلاة والصيام ، والصدقة على أهل المسكنة، وأداء الزكاة المفروضة. ولا سبيل لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود.
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري: أنه حين حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت! فقال: يبكيني أني أسمع الله يقول: "إنما يتقبل الله من المتقين".
حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال، حدثني سعيد بن عامر، عن همام، عمن ذكره، عن عامر.
وقد قال بعضهم: قربان المتقين، الصلاة.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليمان، عن عدي بن ثابت قال : كان قربان المتقين ، الصلاة.
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى:" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " الآية وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه المعنى : إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء وقتل قابيل وهابيل والشر قديم أي ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق لا كالأحاديث الموضوعة وفي ذلك تبكيت لمن خالف الإسلام وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم واختلف في ابني آدم فقال: الحسن البصري: ليسا لصلبة كانا رجلين من نبي إسرائيل ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود وكان بينهما خصومة فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل قال ابن عطية: وهذا وهم وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب والصحيح أنهما ابناه لصلبه هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سبنل - لأنه كان صاحب زرع واختارها من أردإ زرعوه ثم إنه وجد فيها سنبله طيبة ففركها وأكلها وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه " فتقبل " فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام قاله سعيد بن جبير وغيره فلما تقبل قربان هابيل لأنه كان مؤمناً قال له قابيل حسداً لأنه كان كافراً أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني !؟ " لأقتلنك "وقيل: سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى - إلا شيئاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً عوضاً من هابيل على ما يأتي واسمه هبه الله ، لأن جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته هذا هبة الله لك بدل هابيل وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين ومائة سنة وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توءمته فولدت مع قابيل أختاً جميلة وأسمها إقليمياء ومع هابيل أختاً ليست كذلك وسامها ليوذا فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على التقريب قاله جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود وروى أن آدم حضر ذلك والله أعلم وقد روي في هذا الباب في جعفر الصادق : أن آدم لم يكن يزوج ابنته من ابنه ولو فعل ذلك آدم لما رغب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان دين آدم إلا دين النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينها ولدت حواء بنتاً فسماها عناقاً فبغت وهي أول من بغى على وجه الأرض فسلط الله عليها من قتلها ثم ولدت لآدم قابيل، ثم ولدت له هابيل فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن يقال لها جمالة في صورة إنسية وأوحى الله لآدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية في صفة إنسية وخلق لها رحماً وكان اسمها بزلة ، فلما نظر إليها هابيل أحبها فأولى الله إلى آدم أن زوج زلة من هابيل ففعل فقال قابيل: يا أبت ألست أكبر من أخي ؟ قال : نعم قال : فكنت أحق بما فعلت به منه فقال له آدم: يا بني إن الله قد أمرني بذلك وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فقال : لا والله ولكنك آثرته علي. فقال آدم: فقربا قرباً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل .
قلت : هذه القصة عن جعفر ما أظنها تصح وأن القول ما ذكرنا من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى :" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " [ النساء: 1] وهذا كالنص ثم نسخ ذلك حسبما تقدم بيانه في سورة البقرة وكان جميع ما ولدته حواء أربعيهن من ذكر وأنثى في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوءمته إقليماء وآخره عبد المغيث ثم بارك الله في نسل آدم قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ لده وولد ولده أربعين ألفا وما روى عن جعفر من قوله : فولدت بنتا وأنها بغت فيقال: مع من بغت ؟ أمع جني تسول لها ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر وذلك معدوم والله أعلم .
الثانية - وفي قول هابيل:" إنما يتقبل الله من المتقين " كلام قبله محذوف لأنه لما قال له قابيل : " لأقتلنك" قال له : ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئاً ؟ ولا ذنب لي في قول الله قرباني أما إني اتقيته وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا وقال عدي بن ثابت وغيره قربان متقي هذه الأمة الصلاة .
قلت: وهذا خاص في نوع من العبادات وقد روى البخاري "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصر الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته "
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور, وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله, بغياً عليه وحسداً له, فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل, ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة, وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين, فقال تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق", أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم, وهما هابيل وقابيل, فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف .
وقوله "بالحق" أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب, ولا وهم ولا تبديل, ولا زيادة ولا نقصان, كقوله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق". وقوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقال "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق", وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف, أن الله تعالى: شرع لادم عليه السلام, أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال, ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى, فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر, وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة, فأراد أن يستأثر بها على أخيه, فأبى آدم ذلك, إلا أن يقربا قرباناً, فمن تقبل منه فهي له, فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل, فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه .
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك, وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية, فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر, ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر, حتى ولد له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع, وكان هابيل صاحب ضرع, وكان قابيل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابيل, وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل, فأبى عليه, وقال هي أختي ولدت معي, وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها, فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى, وأنهما قربا قرباناً إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية, وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما, أتى مكة ينظر إليها, قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض ؟ قال: اللهم لا . قال: إن لي بيتاً في مكة, فأته, فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت, وقال للأرض فأبت, وقال للجبال فأبت, فقال لقابيل, فقال: نعم, تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك, فلما انطلق آدم قربا قرباناً, وكان قابيل يفخر عليه, فقال: أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي, فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة, ففركها وأكلها فنزلت النار, فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي, فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير, فحدثني عن ابن عباس, قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها, وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة, فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة, فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي, فقال لا , أنا أحق بأختي, فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع, فقتله, إسناد جيد, وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس وقوله "إذ قربا قرباناً" فقربا قربانهما, فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض, وصاحب الحرث بصبرة من طعامه, فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفاً, وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام, إسناد جيد,
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو, قال: إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم, وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً, وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه, وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان, غير طيبة بها نفسه, وإن الله عز وجل, تقبل قربان صاحب الغنم , ولم يتقبل قربان صاحب الحرث, وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه, قال: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه, وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان, كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه, فأحبه حتى كان يؤثره بالليل, وكان يحمله على ظهره من حبه, حتى لم يكن له مال أحب إليه منه, فلما أمر بالقربان قربه لله عز وجل فقبله الله منه, فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الأنصاري, حدثنا القاسم بن عبد الرحمن, حدثنا محمد بن علي بن الحسين, قال: قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان, فقربا قرباناً حتى تقر عيني, إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله, وكان قابيل صاحب زرع, فقرب مشاقة من زرعه, فانطلق آدم معهما, ومعهما قربانهما, فصعدا الجبل, فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان, فبعث الله ناراً حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق, فاحتمل قربان هابيل, وترك قربان قابيل, فانصرفوا, وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه, فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك, فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني, فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك, دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك, وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه, فقال آدم: يا قابيل, أين أخوك ؟ قال: وبعثتني له راعيا لا أدري, فقال آدم: ويلك يا قابيل, انطلق فاطلب أخاك, فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله, وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب, فقال: يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك, فقال هابيل: قربت أطيب مالي, وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين, فلما قالها غضب قابيل, فرفع الحديدة وضربه بها, فقال: ويلك يا قابيل, أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله, فطرحه في حوبة من الأرض, وحثى عليه شيئاً من التراب .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل, وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل, فسلم لذلك هابيل ورضي, وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن أخت هابيل, ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنة, وهما من ولادة الأرض, وأنا أحق بأختي, ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس, فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه, قال له أبوه: يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها, وكان قابيل على بذر الأرض, وكان هابيل على رعاية الماشية, فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه, وبعضهم يقول: قرب بقرة, فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله, رواه ابن جرير .
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان, إذ قالا لو قربنا قرباناً, وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله أرسل إليه ناراً فتأكله, وإن لم يكن رضيه الله خبت النار, فقربا قرباناً, وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً, وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها, وقرب الآخر بعض زرعه, فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع, وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي, فلا والله لا ينظر الناس إلي وأنت خير مني فقال: لأقتلنك, فقال له أخوه: ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن "إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه, ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته, حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب, والله أعلم, ولم يتقبل من قابيل, كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً, ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه, وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيداً, والله أعلم .
ومعنى قوله "إنما يتقبل الله من المتقين" أي ممن اتقى الله في فعله ذلك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري, قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول "إنما يتقبل الله من المتقين". وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم, عن ميمون بن أبي حمزة, قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة .
وقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه, حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة "إني أخاف الله رب العالمين" أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب, قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع, ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس, عن بكير بن عبد الله, عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي" قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال "كن كابن آدم" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال: هذا حديث حسن, وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلاً, قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي, قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي, حدثنا الفضل عن عياش بن عباس, عن بكير عن بشر بن سعيد, عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يارسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن كابن آدم" وتلا " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ".
قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " لعثمان بن عفان رضي الله عنه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حزم, حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حماراً أردفني خلفه وقال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟" قال: قال الله ورسوله أعلم, قال "تعفف" قال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "اصبر" قال "يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً, يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟" قال: الله ورسوله أعلم, قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" قال: فإن لم أترك, قال "فأت من أنت منهم فكن منهم" قال: فآخذ سلاحي, قال "فإذاً تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك", ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي, من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به, ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران, عن المشعث بن طريف, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر بنحوه, قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد, وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن منصور, عن ربعي, قال: كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلاً يقول: سمعت هذا يقول في ناس, مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها, بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم" .
وقوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك, قاله ابن جرير. وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي, وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطاً لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه, يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي " قال: بقتلك إياي "وإثمك" قال: بما كان منك قبل ذلك, وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله, وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً .
(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول, ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له "ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, حدثنا يعقوب بن عبد الله, حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" وهذا بهذا لا يصح, ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا, ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب, فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات, فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه, أخذ من سيئات المقتول, فطرحت على القاتل, فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل, وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها, والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى "وإثمك" فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل, وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله, هذا لفظه, ثم أورد على هذا سؤالاً حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم, وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله, بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه, قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ, وزجراً له لو انزجر, ولهذا قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي تتحمل إثمي وإثمك "فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين" وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر .
وقوله تعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله, أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر, وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده, وقال السدي, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس, وعن مرة بن عبد الله, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فطوعت له نفسه قتل أخيه, فطلبه ليقتله, فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال, فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم, فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء, رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه, فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر, ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر, ففعل بأخيه مثل ذلك, رواه ابن أبي حاتم, وقال عبد الله بن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله, فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه, قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه, ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل, فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك, قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت, فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح, فقال: مالك ؟ فلم تكلمه, فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله, فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك, وأنا وبني منها برآء, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "فأصبح من الخاسرين" أي في الدنيا والآخرة, وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه كان أول من سن القتل" وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار, عليه في الصيف حظيرة من نار, وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلاً لابن آدم الذي قتل أخاه, ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر, وذلك أنه أول من سن القتل, وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه, ورواه ابن جرير أيضاً .
وقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات الغلام تركه بالعراء, ولا يعلم كيف يدفن, فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له ثم حثى عليه, فلما رآه قال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء غراب إلى غراب ميت, فحثى عليه من التراب حتى واراه, فقال الذي قتل أخاه " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي ". وقال الضحاك, عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين, فرآهما يبحثان, فقال "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" فدفن أخاه, وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتاً لا يدري ما يصنع به, يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب, فقال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال عطية العوفي: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح, وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله, رواه ابن جرير .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده, أي ولم يدر كيف يواريه, وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم, وأول ميت " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين ". قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل, قال له الله عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً, فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن, أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك, فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض .
وقوله "فأصبح من النادمين" قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران, فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة, وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه, كما هو ظاهر القرآن, وكما نطق به الحديث في قوله "إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" وهذا ظاهر جلي, ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو, عن الحسن هو البصري, قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" من بني إسرائيل, ولم يكونا ابني آدم لصلبه, وإنما كان القربان من بني إسرائيل, وكان آدم أول من مات, وهذا غريب جداً, وفي إسناده نظر, وقد قال عبد الرزاق, عن معمر عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلاً, فخذوا بالخير منهما" ورواه ابن المبارك, عن عاصم الأحول, عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً, فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم", وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني, روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك, ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك, أي أضحكك, رواه ابن جرير, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم, عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة, كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة, وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا, فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ووجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه، فالداء قديم، والشر أصيل.
وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين هل هما لصلبه أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول. وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا: إنهما كانا من بني إسرائيل فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: وهذا وهم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم: واسمهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل، لأنه كان صاحب زرع واختارها من أردأ زرعه، حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه، فتقبل قربان هابيل فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، كذا قال جماعة من السلف، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده وقال: لأقتلنك. وقيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً، وكان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت جميلة واسمها إقليما، ومع هابيل أخت ليست كذلك واسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجها قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على القربان وأن يتزوجها من يقبل قربانه. 27- قوله: "بالحق" متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر "واتل" أي تلاوة متلبسة بالحق، أو صفة لنبأ: أي نبأ متلبساً بالحق، والمراد بأحدهما هابيل وبالآخر قابيل، و "قال لأقتلنك" استئناف بياني كأنه فماذا قال الذي لم يتقبل قربانه؟ وقوله: "قال إنما يتقبل الله من المتقين" استئناف كالأول كأنه قيل: فماذا قال الذي تقبل قربانه؟ وإنما للحصر: أي إنما يتقبل الله القربان من المتقين لا من غيرهم، وكأنه يقول لأخيه: إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك.
27-قوله تعالى" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق "، وهما هابيل وقابيل، ويقال له قابين، " إذ قربا قرباناً "، وكان سبب قربانهما على ما ذكره أهل العلم أن حواء كانت تلد لآدم عليه السلام في كل بطن غلاماً وجاريةً، وكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته أقليما، و آخرهم عبد المغيث، وتوأمته أمة المغيث، ثم بارك الله عز وجل في نسل آدم عليه السلام ، قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً.
واختلفوا في مولد قابيل وهابيل، فقال بعضهم: غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة ، فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن واحد ، ثم ولدت هابيل وتوأمته لبودا في بطن.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما، فلم تجد عليهما وحماً ولا وصباً ولا طلقاً حتى ولدتهما ، ولم تر معهما دماً فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الحم والوصب والطلق والدم ، وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى ، فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم، فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا، وكان بينهما سنتان في قول الكلبي وأدركوا ، أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل ، وقال : هي أختي أنا أحق بها ، ونحن من [ ولادة ] الجنة وهما من [ ولادة ] الأرض ، فقال له أبوه:إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك ، وقال : إن الله لم يأمره بهذا وإنما هو من رأيه، فقال لهما آدم عليه السلام: فقربا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع، فخرجا ليقربا [ قرباناً ] وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من الطعام من أرادأ زرعه وأضمر في نفسه ما أبالي أيقبل مني أم لا ،لا يتزوج أختي أبداً، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرب به وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما أعلى الجبل ، ثم دعا آدم عليه السلام فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل، فذلك قوله عز وجل " فتقبل من أحدهما " ، [يعني هابيل] " ولم يتقبل من الآخر " ، يعني: قابيل فنزلوا عن الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت ، فلما غاب آدم أتى قابيل هابيل وهو في غنمه ، " قال لأقتلنك " قال : لأن ولم ؟ قال: لأن الله تعالى قبل قربانك ورد قرباني،وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة ، فيتحدث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي، " قال "، هابيل : وما ذنبي؟" إنما يتقبل الله من المتقين ".
27" واتل عليهم نبأ ابني آدم " قابيل وهابيل، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل، فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قبل تزوجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل سخطاً وفعل ما فعل. وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال: " كتبنا على بني إسرائيل ". " بالحق " صفة مصدر محذوف أي تلاوة متلبسة بالحق، أو حال من الضمي في اتل، أو من نبأ أي متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين " إذ قربا قربانا " ظرف لنبأ، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذا قرب كل واحد منهما قرباناً. قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملاً سميناً. " فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده. " قال لأقتلنك " نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك. " قال إنما يتقبل الله من المتقين " في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظاً، لا في إزالة حظه فإن في ذلك مما يضره ولا ينفعه، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق.
27. But recite unto them with truth the tale of the two sons of Adam, how they offered each a sacrifice, and it was accepted from the one of them and it was not accepted from the other. (The one) said: I will surely kill thee. (The other) answered: Allah accepteth only from those who ward off (evil).
27 - Recite to them the truth of the story of the two sons of Adam. behold they each presented a sacrifice (to God): it was accepted from one, but not from the other. said the latter: be sure I will slay thee. surely, said the former, God doth accept of the sacrifice of those who are righteous.