[المائدة : 26] قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
26 - (قال) تعالى له (فإنها) أي الأرض المقدسة (محرمة عليهم) أن يدخلوها (أربعين سنة يتيهون) يتحيرون (في الأرض) وهي تسعة فراسخ قاله ابن عباس (فلا تأسَ) تحزن (على القوم الفاسقين) روي أنهم كانوا يسيرون جادين فاذا أصبحوا إذا هم في الموضع الذي ابتدؤوا منه ويسيرون النهار كذلك حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين ، قيل وكانوا ستمائة ألف ومات هارون وموسى في التيه وكان لهما رحمة وعذابا لأولئك وسأل موسى ربه عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فأدناه كما في الحديث ونبئ يوشع بعد الأربعين وأمر بقتال الجبارين فسار بمن بقي معه وقاتلهم وكان يوم الجمعة ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم ، وروى أحمد في مسنده حديث "إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس"
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الناصب لـ الأربعين.
فقال بعضهم : الناصب له قوله : "محرمة"، وإنما حرم الله جل وعز على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الجبارين ، دخول مدينتهم أربعين سنة، ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم ، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم ، أوحى الله إلى موسى: "إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"، وهم يومئذ، فيما ذكر، ستمئة ألف مقاتل. فجعلهم فاسقين بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة أو دون ذلك ، يسيرون كل يوم جادين لكي يخرجوا منها حتى سئموا ونزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، وأنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم ، فأنزل عليهم المن والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته . وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض ، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه ، فيخرج منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط منهم عين، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خلت أربعون سنة، وكانت عذاباً بما اعتدوا وعصوا، أوحي إلى موسى: أن مرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب ، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا: حطة -وإنما قولهم: حطة، أن يحط عنهم خطاياهم- فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدهم، وقالوا: حنطة، فقال الله جل ثناؤه: "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" إلى: "بما كانوا يفسقون" [البقرة: 59].
وقال آخرون : بل الناصب لـ الأربعين، "يتيهون في الأرض". قالوا : ومعنى الكلام : قال فإنها محرمة عليهم أبداً، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخل مدينة الجبارين أحد ممن قال: "إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"، وذلك أن الله عز ذكره حرمها عليهم . قالوا : وإنما دخلها من أولئك القوم يوشع وكلاب ، اللذان قالا لهم: "ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، وأولاد الذين حرم الله عليهم دخولها فتيههم الله فلم يدخلها منهم أحد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله جل وعز: "إنها محرمة عليهم"، قال : أبداً.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله : "يتيهون في الأرض"، قال ، أربعين سنة.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هرون النحوي قال ، حدثني الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"، قال: التحريم، التيهاء.
حدثنا موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال،: غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال: "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" الآية، فقال الله جل وعز: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فلما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى. وأتاه قومه الذين كانوا [معه] يطيعونه ، فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه. فلما خرجوا من التيه ، رفع المن والسلوى وأكلوا من البقول . والتقى موسى وعاج، فنزا موسى في السماء عشرة أذرع وكانت عصاه عشرة أذرع ، وكان طوله عشرة أذرع فأصاب كعب عاج فقتله. ولم يبق [أحد] ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى، إلا مات ولم يشهد الفتح. ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة، بعث يوشع بن النون نبياً، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه ، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم ، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار قال ، حدثنا سفيان قال ، قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله جل وعز: لما دعا موسى، "فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". قال : فدخلوا التيه ، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه. قال : فمات موسى في التيه، ومات هرون قبله. قال : فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين، فافتتح يوشع المدينة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله جل وعز: "إنها محرمة عليهم أربعين سنة"، حرمت عليهم [القرى]، فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال ، حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأول قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت ، من معصيتهم نبيهم وهمهم بكالب ويوشع، إذ أمراهم بدخول مدينة الجبارين ، وقالا لهم ما قالا، ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قبة الزمر على كل بني إسرائيل ، فقال جل ثناؤه لموسى : إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدقون بالآيات كلها التي وضعت بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم، وأجعل لك شعباً أشد وأكبر منهم . فقال موسى : يسمع أهل المصر الذين أخرجت هذا الشعب بقوتك من بينهم ، ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب ، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك: إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم ، فقتلهم في البرية، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك ، يا رب ، كما كنت تكلمت وقلت لهم ، فإنه طويل صبرك ، كثيرة نعمك ، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق ، وإنك تحفظ ذنب الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة . فاغفر، أي رب ، آثام هذا الشعب بكثرة نعمك ، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن . فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه : قد غفرت لهم بكلمتك ، ولكن حي أنا، وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني ، لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم ، ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي ، فإني مدخله الأرض التي دخلها ويراها خلفه.
وكان العماليق والكنعانيون جلوساً في الجبال ، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، وكلم الله عز وجل موسى وهررن وقال لهما: إلى متى توسوس علي هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعت وسوسة بني إسرائيل . وقال : لأفعلن بكم كما قلت لكم ، ولتلقين جيفكم في هذه القفار، وكحسابكم من بي عشرين سنة فما فوق ذلك ، من أجل أنكم وسوستم علي ، فلا تدخلوا الأرض التي رفعت يدي إليها، ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون ،وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما بنوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم يدخلون الأرض ، وإني بهم عارف ، لهم الأرض التي أردت لهم ، وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيام التي حسستم الأرض أربعين يوماً، مكان كل يوم سنةً، وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قدامي. إني أنا الله فاعل بهذه الجماعة جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي بأن يتيهوا في القفار، فيها يموتون.
فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض ، ثم حرشوا الجماعة فأفشوا فيهم خبر الشر، فماتوا كلهم بغتةً، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض.
فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كله لبني إسرائيل ، حزن الشعب حزناً شديداً، وغدوا فارتفعوا إلى رأس الجبل ، وقالوا : نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه ، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى: لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل ، ولا تصعدوا من أجل أن الله ليس معكم ، فالآن تنكسرون من قدام أعدائكم ، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم ، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم. فأخذوا يرقون في الجبل ، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة يعني من الخيمة حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم . فتيههم الله عز ذكره في التيه أربعين سنةً بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك.
قال: فلما شب النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم وانقضت الأربعون سنة التي تيهوا فيها، وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهرون، وكان لهما صهراً، قدم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل ، فدخلها بهم ، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل ، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله إليه ، لا يعلم قبره أحد من الخلائق.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن الأربعين منصوبة بـ التحريم، وأن قوله : "محرمة عليهم أربعين سنة"، معني به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم . لأن الله عز ذكره عم بذلك القوم ولم يخصص منهم بعضاً دون بعض . وقد وفى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيههم أربعين سنة، وحرم على جميعهم ، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين ، دخول الأرض المقدسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح ، حتى انقضت السنون التي حرم الله عز وجل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعم الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين ، إن شاء الله ، نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأولين أن عوج بن عناق قتله موسى صلى الله عليه وسلم. فلو كان قتله إياه قبل مصيره في التيه ، وهو من أعظم الجبارين خلقاً، لم تكن بنو إسرائيل تجزع من الجبارين الجزع الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان ، إن شاء الله ، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينتهم.
وبعد، فإن أهل العلم بأخبار الأولين مجمعون على أن بلعم بن باعور، كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحال أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم ، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوباً فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق، عن نوف قال: كان سرير عوج ثمانمئة ذراع ، وكان طول موسى عشر أذرع ، وعصاه عشر أذرع ، ووثب في السماء عشر أذرع، فضرب عوجاً فأصاب كعبه ، فسقط ميتاً، فكان جسراً للناس يمرون عليه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا قيس، عن أبي إسحق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشر أذرع ، ووثبته عشر أذرع ، وطوله عشر أذرع ، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله ، فكان جسراً لأهل النيل سنة.
ومعنى: "يتيهون في الأرض"، يحارون فيها ويضلون ، ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق: (تائه). وكان تيههم ذلك : أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادين في قدر ستة فراسخ للخروج منه ، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه.
حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال : تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "فلا تأس"، فلا تحزن.
يقال منه : (أسي فلان على كذا يأسى أسىً) و (قد أسيت من كذا)، أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم يقولون: لا تهلك أسىً وتجمل
يعني: لا تهلك حزناً.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "فلا تأس"، يقول: فلا تحزن.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فلا تأس على القوم الفاسقين"، قال: لما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما ندم أوحى الله إليه: "فلا تأس على القوم الفاسقين"، لا تحزن على القوم الذين سميتهم (فاسقين)، فلم يحزن.
ومعنى " محرمة " أي أنهم ممنوعون من دخولها كما يقال : حرم وجهك على النار، وحرت عليك دخول الدار فهو تحريم منع لا تحريم شرع عن أكثر أهل التفسير، كما قال الشاعر:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إين امرؤ صرعي عليك حرام
إي أنه فارس فلا يمكن صرعي وقال أبو علي : يجوز أن يكون تحريم تعبد ويقال: كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسرة فلا يهتدوا للخروج منها فالجواب قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤوا منه وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة " أربعين " ظرف زمان للتيه في قول الحسن وقتادة قالا: ولم يدخلها أحد منهم فالوقف على هذا على " عليهم" وقال الربيع بن أسن وغيره : إن " أربعين سنة " ظرف للتحريم،فالوقف على هذا على " أربعين سنة " فعلى الأول إنما دخلها أولادهم قاله ابن عباس ولم يبق نهم إلا يوشع وكالب فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها وعلى الثاني - فمن بقي منهم عبد أربعين سنة دخلوها وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين ، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نارا بيضاء فتأكل الغنائم وكان ذلك دليلا على قبولها فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته فلصقت يد رجل منهم بيده فقال: فيكم الغلول فليباعني كل رجل منك فبايعوه رجلاً رجلاً حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال عندك الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب فنزلت النار فأكلت الغنائم وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يا له الآن غور عاجز عرف باسم الغال وكان اسمه عاجزاً
قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا: وقد تقدم حكمه في ملتنا ، وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
غزا نبي من الأنبياء " الحديث أخرجه مسلم وفيه قال :
"فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأما مأمور اللهم احبسها علي شيئاً فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال: فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه -قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغول " وذكر نحو ما تقدم قال علماءنا: والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم فكان ذلك آية له خص بها عبد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه الصلاة والسلام على ما يقال : والله أعلم وفي هذا الحديث "يقوله عليه السلام:
فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا " ذك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى :" وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون والأودي وزاد : وهارون وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا: ما فعل هارون؟ فقال : مات : قالوا: كذبت ولكن قتلته لحبنا له وكان محباً في بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإن باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا لم تقتله فانطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال: أنا قاتلك؟ قال : لا وكني مت قال : فعد إلى مضجعك وانصرف وقال الحسن: إن موسى لم يمت بالتيه، وقال غيره: إن موسى فتح أريحاء وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق قال الثعلبي: وهو أصح الأقاويل : قلت قد روى مسلم عن أبي هريرة قال :
"أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال : فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم مه قال : ثم الموت قال : فالآن فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر" فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ورآه فيه قائما يصلي كما حديث إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عنه الخلق سواه ولم يجعله مشهوراً عندهم ولعل ذلك لئلا يعبد والله أعلم ويعني بالطريق طريق بيت المقدس ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة وهذا باطل لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له .
ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة وهذا مجاز لا حقيقة ومنها أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت وأنه رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن وهذا وجه حسن لأنه حقيقة في العين والصك قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة غير أنه اعترض عليه بما في الحديث وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال :" يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت وأيضاً قوله في الرواية الأخرى : "أجب ربك" يدل على تعريفه بنفسه والله أعلم ، ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته، وسرعة غضبة كانت سبباً لصكه ملك الموت قال ابن العربي: وهذا كما ترى فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من :
"أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره " فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت إذ لم يصرح له بالتخيير ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بني الحيات والموت اختار الموت واستسلم والله بغيبه أحكم وأعلم هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام، وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها وفي الصحيح غنية عنها وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : كشاة تسلخ وهي حية ، وهذا صحيح معنى "قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
إن للموت سكرات " على ما بيناه في كتاب التذكرة وقوله :" فلا تأس على القوم الفاسقين " أي لا تحزن والأسى والحزن أسي يأسي أسى أي حزن ، قال :
‌‌يقولون لا تهلك أسى وتحمل‌.
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور, وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله, بغياً عليه وحسداً له, فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل, ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة, وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين, فقال تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق", أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم, وهما هابيل وقابيل, فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف .
وقوله "بالحق" أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب, ولا وهم ولا تبديل, ولا زيادة ولا نقصان, كقوله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق". وقوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقال "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق", وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف, أن الله تعالى: شرع لادم عليه السلام, أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال, ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى, فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر, وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة, فأراد أن يستأثر بها على أخيه, فأبى آدم ذلك, إلا أن يقربا قرباناً, فمن تقبل منه فهي له, فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل, فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه .
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك, وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية, فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر, ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر, حتى ولد له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع, وكان هابيل صاحب ضرع, وكان قابيل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابيل, وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل, فأبى عليه, وقال هي أختي ولدت معي, وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها, فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى, وأنهما قربا قرباناً إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية, وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما, أتى مكة ينظر إليها, قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض ؟ قال: اللهم لا . قال: إن لي بيتاً في مكة, فأته, فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت, وقال للأرض فأبت, وقال للجبال فأبت, فقال لقابيل, فقال: نعم, تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك, فلما انطلق آدم قربا قرباناً, وكان قابيل يفخر عليه, فقال: أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي, فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة, ففركها وأكلها فنزلت النار, فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي, فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير, فحدثني عن ابن عباس, قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها, وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة, فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة, فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي, فقال لا , أنا أحق بأختي, فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع, فقتله, إسناد جيد, وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس وقوله "إذ قربا قرباناً" فقربا قربانهما, فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض, وصاحب الحرث بصبرة من طعامه, فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفاً, وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام, إسناد جيد,
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو, قال: إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم, وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً, وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه, وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان, غير طيبة بها نفسه, وإن الله عز وجل, تقبل قربان صاحب الغنم , ولم يتقبل قربان صاحب الحرث, وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه, قال: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه, وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان, كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه, فأحبه حتى كان يؤثره بالليل, وكان يحمله على ظهره من حبه, حتى لم يكن له مال أحب إليه منه, فلما أمر بالقربان قربه لله عز وجل فقبله الله منه, فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الأنصاري, حدثنا القاسم بن عبد الرحمن, حدثنا محمد بن علي بن الحسين, قال: قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان, فقربا قرباناً حتى تقر عيني, إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله, وكان قابيل صاحب زرع, فقرب مشاقة من زرعه, فانطلق آدم معهما, ومعهما قربانهما, فصعدا الجبل, فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان, فبعث الله ناراً حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق, فاحتمل قربان هابيل, وترك قربان قابيل, فانصرفوا, وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه, فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك, فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني, فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك, دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك, وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه, فقال آدم: يا قابيل, أين أخوك ؟ قال: وبعثتني له راعيا لا أدري, فقال آدم: ويلك يا قابيل, انطلق فاطلب أخاك, فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله, وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب, فقال: يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك, فقال هابيل: قربت أطيب مالي, وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين, فلما قالها غضب قابيل, فرفع الحديدة وضربه بها, فقال: ويلك يا قابيل, أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله, فطرحه في حوبة من الأرض, وحثى عليه شيئاً من التراب .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل, وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل, فسلم لذلك هابيل ورضي, وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن أخت هابيل, ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنة, وهما من ولادة الأرض, وأنا أحق بأختي, ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس, فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه, قال له أبوه: يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها, وكان قابيل على بذر الأرض, وكان هابيل على رعاية الماشية, فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه, وبعضهم يقول: قرب بقرة, فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله, رواه ابن جرير .
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان, إذ قالا لو قربنا قرباناً, وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله أرسل إليه ناراً فتأكله, وإن لم يكن رضيه الله خبت النار, فقربا قرباناً, وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً, وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها, وقرب الآخر بعض زرعه, فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع, وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي, فلا والله لا ينظر الناس إلي وأنت خير مني فقال: لأقتلنك, فقال له أخوه: ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن "إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه, ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته, حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب, والله أعلم, ولم يتقبل من قابيل, كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً, ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه, وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيداً, والله أعلم .
ومعنى قوله "إنما يتقبل الله من المتقين" أي ممن اتقى الله في فعله ذلك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري, قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول "إنما يتقبل الله من المتقين". وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم, عن ميمون بن أبي حمزة, قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة .
وقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه, حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة "إني أخاف الله رب العالمين" أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب, قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع, ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس, عن بكير بن عبد الله, عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي" قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال "كن كابن آدم" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال: هذا حديث حسن, وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلاً, قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي, قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي, حدثنا الفضل عن عياش بن عباس, عن بكير عن بشر بن سعيد, عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يارسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن كابن آدم" وتلا " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ".
قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " لعثمان بن عفان رضي الله عنه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حزم, حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حماراً أردفني خلفه وقال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟" قال: قال الله ورسوله أعلم, قال "تعفف" قال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "اصبر" قال "يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً, يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟" قال: الله ورسوله أعلم, قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" قال: فإن لم أترك, قال "فأت من أنت منهم فكن منهم" قال: فآخذ سلاحي, قال "فإذاً تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك", ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي, من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به, ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران, عن المشعث بن طريف, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر بنحوه, قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد, وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن منصور, عن ربعي, قال: كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلاً يقول: سمعت هذا يقول في ناس, مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها, بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم" .
وقوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك, قاله ابن جرير. وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي, وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطاً لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه, يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي " قال: بقتلك إياي "وإثمك" قال: بما كان منك قبل ذلك, وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله, وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً .
(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول, ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له "ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, حدثنا يعقوب بن عبد الله, حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" وهذا بهذا لا يصح, ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا, ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب, فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات, فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه, أخذ من سيئات المقتول, فطرحت على القاتل, فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل, وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها, والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى "وإثمك" فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل, وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله, هذا لفظه, ثم أورد على هذا سؤالاً حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم, وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله, بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه, قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ, وزجراً له لو انزجر, ولهذا قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي تتحمل إثمي وإثمك "فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين" وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر .
وقوله تعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله, أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر, وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده, وقال السدي, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس, وعن مرة بن عبد الله, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فطوعت له نفسه قتل أخيه, فطلبه ليقتله, فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال, فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم, فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء, رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه, فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر, ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر, ففعل بأخيه مثل ذلك, رواه ابن أبي حاتم, وقال عبد الله بن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله, فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه, قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه, ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل, فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك, قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت, فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح, فقال: مالك ؟ فلم تكلمه, فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله, فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك, وأنا وبني منها برآء, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "فأصبح من الخاسرين" أي في الدنيا والآخرة, وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه كان أول من سن القتل" وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار, عليه في الصيف حظيرة من نار, وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلاً لابن آدم الذي قتل أخاه, ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر, وذلك أنه أول من سن القتل, وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه, ورواه ابن جرير أيضاً .
وقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات الغلام تركه بالعراء, ولا يعلم كيف يدفن, فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له ثم حثى عليه, فلما رآه قال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء غراب إلى غراب ميت, فحثى عليه من التراب حتى واراه, فقال الذي قتل أخاه " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي ". وقال الضحاك, عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين, فرآهما يبحثان, فقال "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" فدفن أخاه, وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتاً لا يدري ما يصنع به, يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب, فقال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال عطية العوفي: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح, وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله, رواه ابن جرير .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده, أي ولم يدر كيف يواريه, وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم, وأول ميت " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين ". قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل, قال له الله عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً, فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن, أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك, فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض .
وقوله "فأصبح من النادمين" قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران, فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة, وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه, كما هو ظاهر القرآن, وكما نطق به الحديث في قوله "إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" وهذا ظاهر جلي, ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو, عن الحسن هو البصري, قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" من بني إسرائيل, ولم يكونا ابني آدم لصلبه, وإنما كان القربان من بني إسرائيل, وكان آدم أول من مات, وهذا غريب جداً, وفي إسناده نظر, وقد قال عبد الرزاق, عن معمر عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلاً, فخذوا بالخير منهما" ورواه ابن المبارك, عن عاصم الأحول, عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً, فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم", وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني, روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك, ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك, أي أضحكك, رواه ابن جرير, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم, عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة, كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة, وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا, فإنا لله وإنا إليه راجعون .
26- "قال فإنها" أي الأرض المقدسة "محرمة عليهم" أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين "أربعين سنة" ظرف للتحريم: أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليه، فلا يخالف هذا التحريم ما تقدم من قوله: "التي كتب الله لكم" فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدة، وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال: "إنا لن ندخلها" فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم، وقيل إن "أربعين سنة" ظرف لقوله: "يتيهون في الأرض" أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقاً. والموقت: هو التيه، وهو في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيهاً أو توهاً إذا تحير، فالمعنى: يتحيرون في الأرض، قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم.
واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهارون أم لا؟ فقيل لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة، وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيمز وقد قيل كيف يقع هذا لجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة؟ قال أبو علي: يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه، وقد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: ملكهم الخدم، وكانوا أول من ملك الخدم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال: الزوجة والخادم والبيت. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: المرأة والخدم "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً". وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار في الموقفيات عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له بيت وخادم فهو ملك". وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجة ومسكن وخادم". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: جعل لهم أزواجاً وخدماً وبيوتاً "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: المن والسلوى والحجر والغمام. وأخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: المن والسلوى والحجر والغمام، وقد ثبت في الحديث الصحيح: "من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ادخلوا الأرض المقدسة" قال: الطور وما حوله. وأخرج عنه أيضاً قال: هي أريحاء. وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال: هي ما بين العريش إلى الفرات. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي الشام. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "التي كتب الله لكم" قال: التي أمركم الله بها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء، فبعث إليهم اثني عشر عيناً من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال: اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول: اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما اللذان أنزل الله فيهما "قال رجلان من الذين يخافون". وقد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم، ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فافرق" يقول: اقض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه يقول: افصل بيننا وبينهم. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "فإنها محرمة عليهم" قال: أبداً، وفي قوله: "يتيهون في الأرض" قال: أربعين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه، وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة، فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس إني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم يرد مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأت، فقال فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم إثنا عشر رجلاً فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن.
26-" قال "، الله تعالى " فإنها محرمة عليهم "، قيل: هاهنا تم الكلام معناه تلك البلدة محرمة عليهم أبداً لم يرد به تحريم تعبد، وإنما أراد تحريم منع، فأوحى الله تعالى إلى موسى: [بي حلفت] لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع و كالب، ولأتيهنهم في هذه البرية " أربعين سنة "، [يتيهون]مكان كل يوم من الأيام التي تحبسون فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار، وأما بنوهم الذين لم يعلموا الشر فيدخلونها، فذلك قوله تعالى: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة "، " يتيهون " ، يتحيرون، " في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين "، أي لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه.
وقيل: إن موسى و هارون عليهما السلام لم يكونا فيهم، والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبداً فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين.
واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلىيدي من كان الفتح، فقال قوم: إنما فتح موسى أريحاء وكان يوشع على مقدمته، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام .
وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم بعد موت موسى عليه السلام ، [وقالوا : مات موسى] وهارون جميعاً في التيه.
(قصة وفاة هارون )
قال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش و إذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي، قال له موسى: لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال: موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب علي و عليك جميعاً فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد منيته قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت وذهب تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم كان أخي فكيف أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه.
و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون [وبقي موسى] ، فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا قالوا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم.
قال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا: قتله لحبنا إياه، وكان محبباً في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه، فانطلق بهم إلى قبره [ فناداه موسى ] فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا ولكني مت ، قال : فعد إلى مضجعك، وانصرفوا.
وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة و السلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب أليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه، قال : فيقول له موسى عليه السلام يا بني الله ما أحدث الله إليك؟ [ فيقول له يوشع: يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة ، فهل كنت أسألك شيئاً مما أحدث الله إليك ] حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئاً ، فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت.
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال :فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " .
وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم : يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ قالوا: لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد من الله لهو بمنزلة ما رأيت كاليوم مضجعاً قط، فقالت الملائكة : يا صفي الله تحب أن يكون لك ؟ قال : وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك، قال فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم بنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك و تعالى روحه، ثم سوت عليه الملائكة.
وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه.
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقبضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبياً فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وتابعوا فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القران وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ، ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعوها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فقال:اللهم اردد الشمس علي وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس أن تقف والقمران أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين، وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها/ وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوا فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر كان قد غله، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم، وكان
عمره مائة وستاً وعشرين سنة، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعاً وعشرين سنة.
26" قال فإنها " فإن الأرض المقدسة. " محرمة عليهم " لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم. " أربعين سنة يتيهون في الأرض " عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقوتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله. " التي كتب الله لكم "، ويؤيد ذلك ما روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقاً فيكون التحريم مطلقاً، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم. روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وزيادة في درجتهما، وعقوبة لهم، وأنهما ماتا فيه مات هارون، وموسى بعده بسنة، ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع. " فلا تأس على القوم الفاسقين " حاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
26. (Their Lord) said: For this the land will surely be forbidden them for forty years that they will. wander in the earth, bewildered. So grieve not over the wrongdoing folk.
26 - God said: therefore will the land be out of their reach for forty years: in distraction will they wander through the land: but sorrow thou not over these rebellious people.