[المائدة : 113] قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
113 - (قالوا نريد) سؤالها من أجل (أن نأكل منها وتطمئن) تسكن (قلوبنا) بزيادة اليقين (ونعلم) نزداد علما (أن) مخففة أي أنك (قد صدقتنا) في ادعاء النبوة (ونكون عليها من الشاهدين)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك : قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم : "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، في قولكم لي : "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء": إنا إنما قلنا ذلك ، وسألناك أن تسأل لنا ربك لنأكل من المائدة، فنعلم يقينا قدرته على كل شيء ، "وتطمئن قلوبنا"، يقول : وتسكن قلوبنا، وتستقر على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد، "ونعلم أن قد صدقتنا"، ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبي مبعوث ، "ونكون عليها"، يقول : ونكون على المائدة، "من الشاهدين"، يقول : ممن يشهد أن الله أنزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقك في نبوتك.
قوله تعالى :" قالوا نريد أن نأكل منها " نصب بأن " وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه وفي قولهم : "نأكل منها" وجهان : أحدهما- أنهم أرادوا الأكل منهما للحاجة الداعية إليها، وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوماً إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا الحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء فقال عيسى لشمعون : قل لهم : " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له : نريد أن نأكل منها الآية الثاني " نأكل منها " لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها قال المارودي: وهذا أوجه - تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبياً الثاني - تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا الثلث- تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا ذكرنا المارودي وقال المهدوي: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا ، و" ونعلم أن قد صدقتنا " بأنك رسول الله " ونكون عليها من الشاهدين " لله بالواحدانية ولك بالرسالة والنبوة وقيل: "ونكون عليها من الشاهدين " لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم .
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة, فيقال سورة المائدة, وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها, فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة, وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل, ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين, فالله أعلم, فقوله تعالى: "إذ قال الحواريون" وهم أتباع عيسى عليه السلام "يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك" هذه قراءة كثيرين, وقرأ آخرون " هل يستطيع ربك " أي هل تستطيع أن تسأل ربك "أن ينزل علينا مائدة من السماء" والمائدة هي الخوان عليه الطعام, وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم, فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة "قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم, وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين, "قالوا نريد أن نأكل منها" أي نحن محتاجون إلى الأكل منها, "وتطمئن قلوبنا" إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء, "ونعلم أن قد صدقتنا" أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك "ونكون عليها من الشاهدين" أي ونشهد أنها الاية من عند الله, ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا, وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا "وآية منك" أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي, فيصدقوني فيما أبلغه عنك, "وارزقنا" أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب " وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم " أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها, "فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" أي من عالمي زمانكم, كقوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ", وقوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار", وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس, عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون .
ذكر أخبار رويت عن السلف
في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين, حدثني حجاج عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم, فإن أجر العامل على من عمل له, ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير, قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له, وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً, فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم, كذا رواه ابن جرير, ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى, عن ابن وهب, عن الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث, فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد, حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء, قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها, عليها سبعة أحوات, وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي, حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس, عن عمار بن ياسر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم, وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد, فخانوا وادخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير, وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة, ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار, عن ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن جلاس, عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة, فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا, قال: فخان القوم وخبأوا وادخروا, فمسخهم الله قردة وخنازير.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل, قال: صليت إلى جانب عمار بن ياسر, فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: قلت: لا. قال: إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد, قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا, فإن فعلتم فإني معذبكم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا, فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم, ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة, وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذاباً أليماً. وقال: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثني حجاج عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة, نزلت على عيسى بن مريم, عليها سبعة أرغفة, وسبعة أحوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً, فرفعت.
وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك, يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف, عن عكرمة ومقسم, عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة, وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً. وقال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل, فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة, فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى, فكان يقعد عليها أربعة آلاف, وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم, فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات, وحشا الله بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير, عن عطاء, عن ميسرة, قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار, عن إبراهيم بن عمر, عن وهب بن منبه, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان الخير, أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة, كره ذلك جداً, فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض, ولا تسألوا المائدة من السماء, فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم, وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها, فأبوا إلا أن يأتيهم بها, فلذلك "قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا" الاية, فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها, قام فألقى عنه الصوف, ولبس الشعر الأسود, وجبة من شعر, وعباءة من شعر, ثم توضأ واغتسل, ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله, فلما قضى صلاته, قام قائماً مستقبل القبلة, وصف قدميه حتى استويا, فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع, ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره, وغض بصره, وطأطأ رأسه خشوعاً, ثم أرسل عينيه بالبكاء, فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه, فلما رأى ذلك دعا الله فقال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها, وغمامة تحتها, وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم, وعيسى يبكي خوفاً من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها, أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم, ولا تجعلها عذاباً, إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني, إلهي اجعلنا لك شاكرين, اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً, إلهي اجعلها سلامة وعافية, ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط, وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا, وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة, وأقبلت اليهود ينظرون, فرأوا أمراً عجيباً أورثهم كمداً وغماً, ثم انصرفوا بغيظ شديد, وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة, فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة, وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الاية حتى نراها, ونحمد ربنا, ونذكر باسمه, ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته, أنت أولانا بذلك, وأحقنا بالكشف عنها, فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءاً جديداً, ثم دخل مصلاه, فصلى كذلك ركعات, ثم بكى بكاء طويلاً, ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها, ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً, ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل, وقال: بسم الله خير الرازقين, وكشف عن السفرة, فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية, ليس عليها بواسير, ليس في جوفها شوك, يسيل السمن منها سيلاً, قد نضد بها بقول من كل صنف غير الكراث, وعند رأسها خل, وعند ذنبها ملح, وحول البقول خمسة أرغفة, على واحد منها زيتون, وعلى الاخر تمرات, وعلى الاخر خمس رمانات, فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته, أمن طعام الدنيا هذا, أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الايات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الاية ؟ فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالاً يا ابن الصديقة, فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة, إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة, فقال له: كن فكان أسرع من طرفة عين, فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم, يمدكم منه ويزدكم, فإنه بديع قادر شاكر, فقالوا: يا روح الله وكلمته, إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الاية, فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الاية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة, فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت, فأحياها الله بقدرته, فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية, تلمظ كما يتلمظ الأسد, تدور عيناها, لها بصيص, وعادت عليها بواسيرها, ففزع القوم منها وانحازوا, فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الاية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون, يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت, فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول, فقالوا: يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد, فقال عيسى: معاذ الله من ذلك, يبدأ بالأكل من طلبها, فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها, خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة, فتحاموها, فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم, واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم, وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله, ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة, يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ, ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء, ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون, فاستغنى كل فقير أكل منها, وبرىء كل زمن أكل منها, فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا, وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم, وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات, قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضاً, الأغنياء والفقراء, والصغار والكبار, والأصحاء والمرضى, يركب بعضهم بعضاً, فلما رأى ذلك جعلها نوباً بينهم تنزل يوماً ولا تنزل يوماً, فلبثوا على ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى, فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا, ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله, وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام: أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى, والزمنى دون الأغنياء من الناس, وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم, وشككوا فيها الناس, وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر, وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى, أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق, فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح, طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم, فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقاً, وأراكم فيها الايات والعبر, كذبتم بها, وشككتم فيها, فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله, فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين, فلما كان في آخر الليل, مسخهم الله خنازير, فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات, هذا أثر غريب جداً, قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة, وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل, والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الاثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم, إجابة من الله لدعوته, كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم "قال الله إني منزلها عليكم" الاية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل, فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء, قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم هو ابن سلام, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تنزل عليهم, وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل, وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم "فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل, وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن, وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى, وليس هو في كتابهم, ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله, وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً, ولا أقل من الاحاد, والله أعلم, ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت, وهو الذي اختاره ابن جرير, قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى "إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين" قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق, وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والاثار عن السلف وغيرهم.
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب, وجد المائدة هنالك مرصعة باللالىء وأنواع الجواهر, فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق, فمات وهي في الطريق, فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده, فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة, ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام, فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم, عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال "وتفعلون ؟" قالوا نعم. قال فدعا, فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال "بل باب التوبة والرحمة" ثم رواه أحمد وابن مردويه, والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به .
قوله: 113- "قالوا نريد أن نأكل منها" بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة، وكذا ما عطف عليه من قولهم: "وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين" والمعنى: تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله، أو بأنك مرسل إلينا من عنده، أو بأن الله قد أجابنا إل ما سألناه، ونعلم علماً يقيناً بأنك قد صدقتنا في نبوتك، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية، أو من الشاهدين: أي الحاضرين دون السامعين.
113- " قالوا نريد "، إنما سألنا لأنا نريد، " أن نأكل منها "، أكل تبرك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته، " وتطمئن "، وتسكن، " قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا "، بأنك رسول الله، أي: نزداد إيماناً ويقيناً، وقيل: إن عيسى ابن مريم أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً، فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم، ففعلوا وسألوا المائدة، وقالوا: " ونعلم أن قد صدقتنا " في قولك، إنا إذا صمنا ثلاثين يوما‌ً لا نسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطانا، " ونكون عليها من الشاهدين " لله بالوحدانية والقدرة، ولك بالنبوة والرسالة، وقيل: ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم
113"قالوا نريد أن نأكل منها" تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها. " وتطمئن قلوبنا " بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى. "ونعلم أن قد صدقتنا" في ادعاء النبوة، أو أن الله يجيب دعوتنا. " ونكون عليها من الشاهدين " إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
113. (They said:) We wish to eat thereof, that we may satisfy our hearts and know that thou hast spoken truth to us, and that thereof we may be witnesses.
113 - They said: we only wish to eat thereof and satisfy our hearts, and to know that thou hast indeed told us the truth; and that we ourselves may be witnesses to the miracle.