[المائدة : 1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد
1 - (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) العهود المؤكدة التي بينكم وبين الله والناس (أحلت لكم بهيمة الأنعام) الإبل والبقر والغنم أكلاً بعد الذبح (إلا ما يتلى عليكم) تحريمه في {حرمت عليكم الميتة} الآية ، فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم لما عرض من الموت ونحوه (غير محلي الصيد وأنتم حرم) أي مُحرِمون ونصب غير على الحال من ضمير لكم (إن الله يحكم ما يريد) من التحليل وغيره لا اعتراض عليه
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا"، يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهة، وصدقوا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ، "أوفوا بالعقود"، يعني : أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم ، والعقود التي عاقدتموها إياه ، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقاً، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضاً، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم ، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم ، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها.
واختلف أهل التأويل في (العقود) التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية، بعد إجماع جميعهم على أن معنى (العقود)، العهود.
فقال بعضهم : هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضاً على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءاً، وذلك هو معنى (الحلف) الذي كانوا يتعاقدونه بينهم.
ذكر من قال : معنى (العقود)، العهود .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "أوفوا بالعقود"، يعني : بالعهود.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز: "أوفوا بالعقود"، قال : العهود .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، مثله.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن رجل ، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل يحدثهم ، فقال : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال : هي العهود.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع : "أوفوا بالعقود"، قال : العهود .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال : هي العهود.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : "أوفوا بالعقود" ، بالعهود.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله : "أوفوا بالعقود"، قال : بالعهود.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "أوفوا بالعقود" ، قال : هي العهود.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، سمعت الثوري يقول : "أوفوا بالعقود"، قال : بالعهود .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله .
قال أبو جعفر: و(العقود) جمع (عقد). وأصل (العقد)، عقد الشيء بغيره ، وهو وصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل ، إذا وصل به شداً. يقال منه : (عقد فلان بينه وبين فلان عقداً، فهو يعقده )، ومنه قول الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشذوا فوقة الكربا
وذلك إذا واثقه على أمر وعاهده عليه عهداً بالوفاء له بما عاقده عليه ، من أمان وذمة، أو نصرة، أو نكاح ، أو بيع ، أو شركة، أو غير ذلك من العقود.
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله : "أوفوا بالعقود".
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، أي : بعقد الجاهلية. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقداً في الإسلام . وذكر لنا أن فرات بن حيان العجلي ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله؟ فقال : نعم ، يا نبي الله! قال : لا يزيده الإسلام إلا شدة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر، عن قتادة : "أوفوا بالعقود"، قال : عقود الجاهلية ، الحلف.
وقال آخرون : بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته ، فيما أحل لهم وحرم عليهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، أخبرنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "أوفوا بالعقود"، يعني : ما أحل وما حرم ، وما فرض ، وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا . ثم شدد ذلك فقال : "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" إلى قوله : "سوء الدار" [الرعد : 25].
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "أوفوا بالعقود"، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرم عليهم .
وقال آخرون : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبدالله بن عبيدة قال : العقود خمس : عقدة الأيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة، نحوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال : عقد العهد وعقد اليمين وعقد الحلف ، وعقد الشركة، وعقد النكاح . قال : هذه العقود، خمس.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال ، حدثنا أبي في قول الله جل وعز: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال : العقود خمس : عقدة النكاح ، وعقدة الشركة، وعقد اليمين ، وعقدة العهد، وعقدة الحلف.
وقال آخرون : بل هذه الآية أمر من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم ، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج: "أوفوا بالعقود"، قال : العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب : أن يعملوا بما جاءهم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس قال ، قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران ، فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، فكتب الآيات منها حتى بلغ "إن الله سريع الحساب" [المائدة : 4].
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبها عليكم ، وعقدها فيما أحل لكم وحرم عليكم ، وألزمكم فرضه ، وبين لكم حدوده.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيان عما أحل لعباده وحرم عليهم ، وما أوجب عليهم من فرائضه . فكان معلوماً بذلك أن قوله : "أوفوا بالعقود"، أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك ، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه ، مع أن قوله : "أوفوا بالعقود"، أمر منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه ، فغير جائز أن يخص منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذ كان الأمر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض.
وأما قوله : "أوفوا" فإن للعرب فيه لغتين :
إحداهما : "أوفوا"، من قول القائل : (أوفيت لفلان بعهده ، أوفي له به).
والأخرى من قولهم : (وفيت له بعهده أفي).
و (الإيفاء بالعهد)، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في "بهيمة الأنعام" التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا.
فقال بعضهم : هي الأنعام كلها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف ، عن الحسن قال: بهيمة الأنعام ، هي الإبل والبقر والغنم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال : الأنعام كلها.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا ابن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن
السدي: "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال : الأنعام كلها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال : الأنعام كلها.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "بهيمة الأنعام"، هي الأنعام .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها - إذا نحرت أو ذبحت - ميتةً.
ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر في قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام". قال : ما في بطونها. قال قلت : إن خرج ميتا آكله ؟ قال : نعم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إدريس الأودي ، عن عطية، عن ابن عمر نحوه ، وزاد فيه قال : نعم ، هو بمنزلة رئتها وكبدها.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الجنين من بهيمة الأنعام ، فكلوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر، وسفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين فقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أحلت لكم.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : هو من بهيمة الأنعام .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا، حدثنا سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه قال : ذبحنا بقرة، فإذا في بطنها جنين ، فسألنا ابن عباس فقال : هذه بهيمة الأنعام .
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : عنى بقوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، الأنعام كلها: أجنتها وسخالها وكبارها. لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك (بهيمة وبهائم)، ولم يخصص الله منها شيئاً دون شيء. فذلك على عمومه وظاهره ، حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها.
وأما (النعم) فإنها عند العرب ، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة، كما قال جل ثناؤه : "والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون" [النحل : 5]، ثم قال : "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة" [النحل : 8]، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان.
وأما (بهائمها)، فإنها أولادها . وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم "بهيمة"، كما يلزم الصغار، لأن معنى قول القائل : "بهيمة الأنعام"، نظير قوله : (ولد الأنعام). فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر.
وقد قال قوم : "بهيمة الأنعام"، وحشيها، كالظباء وبقر الوحش والحمر.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله : "إلا ما يتلى عليكم".
فقال بعضهم : عنى الله بذلك : أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم ، إلا ما بين الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله : "حرمت عليكم الميتة والدم"، الآية [المائدة : 3 ].
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، إلا الميتة وما ذكر معها.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، أي : من الميتة التي نهى الله عنها، وقدم فيها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة : "إلا ما يتلى عليكم"، قال : إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "إلا ما يتلى عليكم"، الميتة والدم ولحم الخنزير.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، الميتة ولحم الخنزير.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
وقال آخرون : بل الذي استثنى الله بقوله : "إلا ما يتلى عليكم"، الخنزير.
ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس : "إلا ما يتلى عليكم"، قال : الخنزير.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "إلا ما يتلى عليكم"، يعني : الخنزير.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، تأويل من قال : عنى بذلك : إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرم عليكم بقوله : "حرمت عليكم الميتة" [المائدة : 3]، الآية. لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام ، ما حرم عليهم منها. والذي حرم عليهم منها، ما بينه في قوله : "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير" [المائدة : 3]. وإن كان حرمه الله علينا، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء، أشبه من استثناء ما حرم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، "غير محلي الصيد وأنتم حرم"، "أحلت لكم بهيمة الأنعام". فذلك ، على قولهم ، من المؤخر الذي معناه التقديم . ف (غير) منصوب -على قول قائلي هذه المقالة - على الحال مما في قوله : "أوفوا" من ذكر "الذين آمنوا".
وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا، أيها المؤمنون ، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه ، لا محلين الصيد وأنتم حرم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر، "غير محلي الصيد"، غير مستحلي اصطيادها، "وأنتم حرم" "إلا ما يتلى عليكم". ف "غير"، على قول هؤلاء، منصوب على الحال من (الكاف والميم ) اللتين في قوله : "لكم"، بتأويل : أحلت لكم ، أيها الذين آمنوا، بهيمة الأنعام ، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها، "إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما كان منها وحشياً، فإنه صيد، فلا يحل لكم وأنتم حرم . فكأن من قال ذلك ، وجه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها، "إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما يبين لكم من وحشيها، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم. فتكون (غير) منصوبة، على قولهم ، على الحال من (الكاف والميم) في قوله : "إلا ما يتلى عليكم".
ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير، وعنده رجل ، فحدثهم فقال: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" صيداً، "غير محلي الصيد وأنتم حرم"، فهو عليكم حرام . يعني : بقر الوحش والظباء وأشباهه .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم"، قال : الأنعام كلها حل، إلا ما كان منها وحشياً، فإنه صيد، فلا يحل إذا كان محرماً.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب -على ما تظاهر به تأويل أهل التأويل في قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها، وعلى دلالة ظاهر التنزيل - قول من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود، غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم ، وما أهل لغير الله به.
وذلك أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم"، لو كان معناه : إلا الصيد، لقيل : إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه. وفي ترك الله وصل قوله : "إلا ما يتلى عليكم"، بما ذكرت ، وإظهار ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد"، أوضح الدليل على أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم"، خبر متناهية قصته ، وأن معنى قوله : "غير محلي الصيد"، منفصل منه .
وكذلك لو كان قوله : "أحلت لكم بهيمة الأنعام"، مقصوداً به قصد الوحش ، لم يكن أيضاً لإعادة ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" وجه ، وقد مضى ذكره قبل ، ولقيل : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محليه وأنتم حرم . وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد"، أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك .
فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه؟
قيل : ذلك من فعلها ضرورة شعر، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته ، أولى - ما وجد إلى ذلك سبيل - من صرفه إلى غير ذلك .
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذاً: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرم وأحل ، لا محلين الصيد في حرمكم ، ففيما أحل لكم من بهيمة الأنعام المذكاة دون ميتتها، متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله يقضي في خلقه ما يشاء، من تحليل ما أراد تحليله ، وتحريم ما أراد تحريمه ، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم ، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه ، فأوفوا، أيها المؤمنون له بما عقد عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرم عليكم ، وغير ذلك من عقوده ، فلا تنكثوها ولا تنقضوها، كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إن الله يحكم ما يريد"، إن الله يحكم ما أراد في خلقه ، وبين لعباده ، وفرض فرائضه ، وحد حدوده ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته.
بحول الله تعالى وقوته ، وهي مدنية بإجماع ، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله من الحديبية . وذكر النقاش " عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال : (( يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة ؟ )) " قال ابن العربي : هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاه ، أما إنا نقول : سورة (( المائدة ، ونعمت الفائدة )) فلا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن . وقال ابن عطية : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم . و" روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب )) " . ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما أنزل عام الفتح وهو قوله تعالى : " ولا يجرمنكم شنآن قوم " الآية . وكل ما أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني ، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار . وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة . وقال أبو ميسرة : (( المائدة )) من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي : " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " ، " وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام " ، " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، "وطعام الذين أوتوا الكتاب " ، " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " وتمام الطهور " إذا قمتم إلى الصلاة " ، " والسارق والسارقة " ، " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " إلى قوله : "عزيز ذو انتقام " و" ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " . وقوله تعالى :" شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " الآية .
قلت : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز : " وإذا ناديتم إلى الصلاة " ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه الآية ، أما ما جاء في سورة (( الجمعة )) فمخصوص بالجمعة ، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات . و" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة (( المائدة )) في حجة الوداع وقال : (( يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها )9 " ونحوه " عن عائشة رضي الله موقوفا ، قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت : هل تقرأ سورة (( المائدة )) ؟ فقلت : نعم ، فقالت : فإنها آخر ما أنزل الله ، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " . وقال الشعبي : لم ينسخ من هذه السورة إلى قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي " الآية . وقال بعضهم : نسخ منها " أو آخران من غيركم " .
فيه سبع مسائل :
الأولى - قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا " قال علقمة: كل ما في القرآن يا أيها الذين آمنوا فهو مدني و يا أيها الناس فهو مكي وهذا خرج على الأكثر وقد تقدم وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول - الأمر بالوفاء بالعقود الثاني - تحليل بهيمة الأنعام، الثالث - استثناء ما يلي بعد ذلك الرابع- استثناء حال الإحرام فيما صاد الخامس - ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم، وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال : نعم ! أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلاً عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد
الثانية -قوله تعالى :" أوفوا" يقال: وفي وأوفى لغتان! قال الله تعالى :" ومن أوفى بعهده من الله " [ التوبة : 111] وقال تعالى :" وإبراهيم الذي وفى " [ النجم: 37] وقال الشاعر:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها
فجمع بين اللغتين "بالعقود " العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأمة قاله ابن العربي: ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، لقوله تعالى :" وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " [ آل عمران : 187] قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت وقيل: هي عامة وهو الصحيح فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب لأن بينهم وبين الله عقداً في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم مأمورون بذلك في قوله:" أوفوا بالعقود " وغير موضع قال ابن عباس: " أوفوا بالعقود " معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، وكذلك قال مجاهد وغيره وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " فكتب الآيات فيها إلى قوله " إن الله سريع الحساب " وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب "قال صلى الله عليه وسلم :
المؤمنون عند شروطهم " وقال :
"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين اله فإن ظهر فيها ما يخالف رد كما "قال صلى الله عليه وسلم :
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه- فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وهو الذي قال به الرسول صلى الله عليه وسلم :
"لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو ادعي به في الإسلام لأجبت " وهذا الحلف هو المعنى المراد في "قوله عليه السلام:
وأيما حلف كان في الجاهلية لم يرده الإسلام إلا شدة " لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم، فأما ما كان من عهدهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له - لسلطان الوليد: فإنه كان أميراً على المدينة- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لأخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعاً، وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه .
الثالثة- قوله تعالى :" أحلت لكم بهيمة الأنعام " الخطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام يأتي بينها، فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية والآراء الفاسدة الباطلية واختلف في معنى " بهيمة الأنعام " والبهيمة اسم لكل ذي أربع سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له والأنعام : الإبل والبقر والغنم سيمت بذلك للين مشيها قال الله تعالى : "والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع "[النحل: 142] يعني كباراً وصغاراً ثم بينها قال :" ثمانية أزواج " [ الأنعام : 143] إلى قوله :" أم كنتم شهداء " [ الأنعام : 244] وقال تعالى " وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها " [ النحل : 80] يعني الغنم : " وأوبارها " [ النحل: 80] يعني الإبل" وأشعارها" [ النحل : 80] يعني المعز فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس، الإبل والبقر والغنم، وهو قول ابن عباس والحسن: قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة وقال الطبري: وقال قوم بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك وذكره غير الطبري عن السدي والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال : أحلت لكم الأنعام فأضيف الجنس إلى أخص منه ، قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعة معه، وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع .
قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك لأن الله تعالى :" والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع " ثم عطف عليها قوله " والخيل والبغال والحمير " [ النحل: 8] استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها والله أعلم وقيل: بهيمة الأنعام ما لم يكن صيداً لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة وهذا راجع إلى القول الأول وروى عن عبد الله بن عمر أنه قال : بهيمة الأنعام الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات فهي تؤكل دون ذكاة وقاله ابن عباس وفيه بعد لأن الله تعالى قال :" إلا ما يتلى عليكم " وليس فلي الأجنة ما يستثنى قال مالك، ذكاة الذبحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حياً وكان قد نبت شعرة تم خلقه فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حياً فيذكى وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه فقيل: هو ذكي وقيل: ليس ذكي وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
الرابعة -قوله تعالى :" إلا ما يتلى عليكم " أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى :" حرمت عليكم الميتة " [ المائدة:3] و"قوله عليه الصلاة والسلام :
كل ذي ناب من السباع حرام " فإن قيل: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة قلنا: كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله والدليل عليه أمران :
أحدهما - حديث العسيف .
" لأقضين بنيكما بكتاب الله " والرجم ليس منصوصاً في كتاب الله الثاني حديث ابن مسعود.
وما لي لا أعلن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله والحديث وسيأتي في سورة الحشر ويحتمل إلا ما يتلى عليكم الآن أو ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة .
الخامسة - قوله تعالى :" غير محلي الصيد " أي ما كان صيداً فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيداً فهو حلال في الحالين واختلف النحاة في إلا ما يتلى هل هو استثناء أو لا ؟ فقال البصريون: هو استثناء من بهيمة الأنعام و غير محلى الصيد استثناء آخر أيضاً منه، فالاستثناءان جميعاً من قوله: بهيمة الأنعام وهي المستثنى منها التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون بخلاف قوله : "إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط " [ الحجر : 58-59] على ما يأتي وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله عز وجل :"قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " [ الحجر : 58] ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى : " إلا ما يتلى عليكم " مستثنى من الإباحة وهذا وجه ساقط فإذاً معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد ويجوز أن يكون معناه أيضاً أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم وأجاز الفراء أن يكون إلا ما يتلى عليكم في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد، والنصب عنده بأن غير محلى الصيد نصب على الحال مما في أوفوا قال الأخفش: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وقال غيره: حال من الكاف والميم في لكم والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد ، ثم قيل: يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيداً في وقت الإحرام، كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفاً .
السادسة- قوله تعالى :" وأنتم حرم " يعني الإحرام بالحج والعمرة يقال: رجل حرم وقوم حرم إذا أحرموا بالحج ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي ملب وسمي ذلك إحراماً لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما ويقال : أحرم دخل في الحرم فيحرم صيد الحرم أيضاً وقرأ السحن وإبراهيم ويحيى بن وثاب حرم بسكون الراء، وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه .
السابعة- قوله تعالى :" إن الله يحكم ما يريد " تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل " يحكم ما يريد " " لا معقب لحكمه " [ الرعد : 41] يشرع ما شاء كما يشاء .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مسعر، حدثني معن وعوف، أو أحدهما، أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود، فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول "يا أيها الذين آمنوا" فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي عن الزهري، قال: إذا قال الله "يا أيها الذين آمنوا" افعلوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم، وحدثنا أحمد بن سنان، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش عن خيثمة قال: كل شيء في القرآن "يا أيها الذين آمنوا" فهو في التوراة يا أيها المساكين. فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي، حدثنا معاوية يعني ابن هشام، عن عيسى بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية "يا أيها الذين آمنوا" إلا أن علياً سيدها وشريفها وأميرها، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب، فإنه لم يعاتب في شيء منه، فهو أثر غريب، ولفظه فيه نكارة، وفي إسناده نظر .
وقال البخاري: عيسى بن راشد هذا مجهول، وخبره منكر، قلت: وعلي بن بذيمة وإن كان ثقة إلا أنه شيعي غال، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل، وقوله: فلم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا علياً، إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي، ونزل قوله "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم" الاية، وفي كون هذا عتاباً نظر، فإنه قد قيل: إن الأمر كان ندباً لا إيجاباً، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل، فلم يصدر من أحد منهم خلافه، وقوله: عن علي أنه لم يعاتب في شيء من القرآن فيه نظر أيضاً، فإن الاية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء، عمت جميع من أشار بأخذه ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعلم بهذا وبما تقدم ضعف هذا الأثر، والله أعلم، وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني يونس قال: قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم فيه "هذا بيان من الله ورسوله "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" فكتب الايات منها حتى بلغ "إن الله سريع الحساب"".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" .
قوله تعالى: "أوفوا بالعقود" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" يعني العهود، يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" إلى قوله "سوء الدار" وقال الضحاك: "أوفوا بالعقود" قال: ما أحل الله وحرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وقال زيد بن أسلم "أوفوا بالعقود" قال: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح وعقد اليمين. وقال محمد بن كعب: هي خمسة منها حلف الجاهلية، وشركة المفاوضة. وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الاية "أوفوا بالعقود" قال: فهذه تدل على لزوم العقد وثبوته فيقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" وفي لفظ آخر للبخاري "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا" وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافياً للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعاً، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود .
وقوله تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" هي الإبل والبقر والغنم، قاله أبو الحسن وقتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق مجالد عن أبي الوداك جبير بن نوفل، عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وقال الترمذي: حديث حسن، قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عتاب بن بشير، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "ذكاة الجنين ذكاة أمه" تفرد به أبو داود .
وقوله "إلا ما يتلى عليكم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة ومالم يذكر اسم الله عليه والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بذلك قوله "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع" فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال "إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب" يعني منها فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه، ولهذا قال تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم" أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .
وقوله تعالى: "غير محلي الصيد وأنتم حرم" قال بعضهم: هذا منصوب على الحال والمراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، ويعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام، وقيل: المراد أحللنا لكم الأنعام، إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرام لقوله "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم" أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، ولهذا قال الله تعالى: "إن الله يحكم ما يريد" ثم قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج . وقال مجاهد: الصفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر الله، وقيل: شعائر الله محارمه، أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى، ولهذا قال تعالى: "ولا الشهر الحرام" يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" وقال تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً" الاية، وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "ولا الشهر الحرام" يعني لا تستحلوا القتال فيه، وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" والمراد أشهر التسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، قال: وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أماناً من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان، ولهذه المسألة بحث آخر له موضع أبسط من هذا .
وقوله تعالى: "ولا الهدي ولا القلائد" يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهل للحج والعمرة، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، رواه أهل السنن .
وقال مقاتل بن حيان: وقوله "ولا القلائد" فلا تستحلوها وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به، رواه ابن أبي حاتم ثم قال: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " وحدثنا المنذر بن شاذان حدثنا زكريا بن عدي حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عوف قال : قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء ؟ قال لا، وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله .
وقوله تعالى: "ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا" أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً وكذا من قصده طالباً فضل الله وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه . قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغير واحد في قوله "يبتغون فضلاً من ربهم" يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". وقوله "ورضواناً" قال ابن عباس: يترضون الله بحجهم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الاية نزلت في الحطم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عز وجل "ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً" .
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم، والله أعلم ـ فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع لما أمر الصديق على الحجيج علياً وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وقال ابن أبي طلحة: عن ابن عباس قوله " ولا آمين البيت الحرام " يعني من توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعدها "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" الاية، وقال تعالى: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" وقال " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " فنفى المشركين من المسجد الحرام . وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله "ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام" قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسخها قوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله "ولا القلائد" يعني إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوهم، قال ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك، قال الشاعر:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
وقوله تعالى: "وإذا حللتم فاصطادوا" أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السير، أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً وإن كان مستحباً فمستحب أو مباحاً فمباح، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم . وقوله " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " من القراء من قرأ أن صدوكم بفتح الألف من أن، ومعناها ظاهر أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الاية كما سيأتي من قوله " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . والعدل به قامت السموات والأرض وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الاية، والشنآن هو البغض قاله ابن عباس وغيره وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآناً بالتحريك، مثل قولهم جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول شنان ولم أعلم أحداً قرأ بها . ومنه قول الشاعر:
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وقوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، قال ابن جرير: الإثم ترك ما أمر الله بفعله والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن جده أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال "تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره" انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال "تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه" وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان بن سعيد، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" وقد رواه أحمد أيضاً في مسند عبد الله بن عمر، حدثنا حجاج، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف كلاهما عن الأعمش به . وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي، حدثنا بكر بن عبد الرحمن، حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى، عن فضيل بن عمرو، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدال على الخير كفاعله" ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، قلت: وله شاهد في الصحيح "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي، حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال عباس بن يونس: إن أبا الحسن نمران بن صخر، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام" .
بسم الله الرحمن الرحيم
قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: المائدة مدنية. وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن جبير بن نفيرقال: حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وأخرج أحمد عنه قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. قال ابن كثير: تفرد به أحمد. قلت: وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والبغوي في معجمه وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة عن أم عمرو بنت عيسى عن عمها نحوه أيضاً. وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وزاد أنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة. وهكذا أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس بهذه الزيادة وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن تنزيلاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها". وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في النسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: لم ينسخ من المائدة شيء. وكذا أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه. وكذا أخرجه عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي. وكذا أخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن الحسن البصري. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد". وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان، آية القلائد وقوله: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في خطبته سورة المائدة والتوبة، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: "لما رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: يا علي أشعرت أنها نزلت علي سورة المائدة؟ ونعمت الفائدة" قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده وقال ابن عطية: هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله: 1- "إن الله يحكم ما يريد" فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. قوله: "أوفوا بالعقود" يقال: أوفى ووفى لغتان وقد جمع بينهما الشاعر فقال:
أما ابن طوف فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها
والعقود: والعهود، وأصل العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قوي التوثيق، قيل: المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأولى شمول الآية للأمرين جميعاً، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله، فإن خالفهما فهو رد لا يجب الوفاء به ولا يحل. قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" الخطاب للذين آمنوا. والبهيمة: اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم: أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة: لا يدري أين طرفاها. والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لما في مشيها من اللين وقيل بهيمة الأنعام: وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك، حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية، الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد، وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع، وقيل بهيمة الأنعام: ما لم تكن صيداً، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة، وقيل بهيمة الأنعام: الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة. وعلى القول الأول أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير" فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة. قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال. والمتلو: هو ما نص الله على تحريمه، نحو قوله تعالى: "حرمت عليكم الميتة" الآية، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعاً. قوله: "غير محلي الصيد" ذهب البصريون إلى أن قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من بهيمة الأنعام وقوله: "غير محلي الصيد" استثناء آخر منه أيضاً، فالاستثناءان جميعاً من بهيمة الأنعام، والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرومون، وقيل: الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأول، ورد بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحاً، وأجاز الفراء أن يكون "إلا ما يتلى" في موضع رفع على البدل، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس. قال: وانتصاب "غير محلي الصيد" على الحال من قوله: "أوفوا بالعقود" وكذا قال الأخفش، وقال غيرهما: حال من الكاف والميم في "لكم" والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد: أي الاصطياد في البر وأكل صيده. ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهم حرم: أي محرومون وجملة "وأنتم حرم" في محل نصب على الحال من الضمير في "محلي" ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحل أكلها كأنه قال: أحل لكم صيد البر إلا في حال الإحرام، وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال. والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، وسمي محرماً لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً، والإحرام إحراماً. وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب حرم بسكون الراء وهي لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحو ذلك. قوله: "إن الله يحكم ما يريد" من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه.
مائة وعشرون آية، نزلت بالمدينة كلها إلا قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " الآية، فإنها نزلت بعرفات.
بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام " " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن " ، " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، وتمام الطهور في قوله تعالى : " إذا قمتم إلى الصلاة " ، " والسارق والسارقة "، " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " الآية ، " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " ، وقوله : " شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ".
1-قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" ، أي بالعهود ، قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه أي : ألزمته ذلك باستيثاق، وأصله من عقد الشيء بغيرة ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل [ إذا وصل ].
واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ،يعني: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس "( سورة آل عمران ، 187)
وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذين تعاقدو عليه في الجاهلية ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الأبمان والقرآن ، هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
"أحلت لكم بهيمة الأنعام "، قال / الحسن و قتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الأبل والبقر والغنم ، وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام .
وروىأبوظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت، ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله .
[ قال الشيخ الأمام ] : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرىء على أبي سهل محمد بن عمر بن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر ابن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا هشيم عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال قلنا :" يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال :كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه " وروى أبو الزبير عن جابر عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمة " .
وشرط بعضهم الإشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في يطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ، ومثله عن السعيد بن المسيب .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم.
وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشيها ، وهي الظباء وبقر الوحش ، سميت بهيمةً لأنها أبهمت عن التمييز، وقيل : لأنها لا نطق لها .
" إلا ما يتلى عليكم " أي : ما ذكر في قوله " حرمت عليكم الميتة " إلى قوله " :وما ذبح على النصب " . " غير محلي الصيد " وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام فذلك قولة تعالى: " وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ".
1" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء والعهد الموثق قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يصعب الانفصال، ولعل المراد
بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب. " أحلت لكم بهيمة الأنعام " تفصيل للعقود، والبهيمة كل حي لا يميز. وقيل كل ذات أربع، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك: ثوب خز، ومعناه البهيمة من الأنعام. وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الضباء ويقر الوحش. وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوها مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه. " إلا ما يتلى عليكم " إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة " أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه. " غير محلي الصيد " حال من الضمير في " لكم " وقيل من واو " أوفوا " وقيل استثناء وفيه تعسف و" الصيد " يحتمل المصدر والمفعول. " وأنتم حرم " حال مما استكن في " محلي "، والـ" حرم " جمع حرام وهو المحرم. " إن الله يحكم ما يريد " من تحليل أو تحريم.
177. They ask thee for a pronouncement. Say: Allah hath pronounced for you concerning distant kindred. If a man die childless and he have a sister, hers is half the heritage, and he would have inherited from her had she died childless. And if there be two sisters, then theirs are two-thirds of the heritage, and if they be brethren, men and women, unto the male is the equivalent of the share of two females. Allah expoundeth unto you, so that ye err not. Allah is Knower of all things.

##Surah 5. Al-Maidah
1. O ye who believe! Fulfil your undertakings. The beast of cattle is made lawful unto you (for food) except that which is announced unto you (herein), game being unlawful when ye are on pilgrimage. Lo! Allah ordaineth that which pleaseth Him.
SURA 5: MA'IDAH
1 - O ye who believe fulfil (all) obligations, Lawful unto you (for food) are all four footed animals, with the exceptions named: but animals of the chase are forbidden while ye are in the sacred precincts or in pilgrim garb: for God doth command, according to his will and plan.